العلاج النفسي كأداة هيمنة... نحن عقلاء في عالم مجنون
بروس كوهين بروس كوهين

العلاج النفسي كأداة هيمنة... نحن عقلاء في عالم مجنون

إن الشعور بعدم الرضى، هو شيء موضوعي في عالم تسوده اللامساواة، لكن الرأسمالية ابتدعت العديد من أدوات الهيمنة، التي من شأنها إعاقة أيةِ محاولة بشرية للمقاومة والتغيير، وتم استخدام علم النفس ومؤسسات الصحة النفسية كجزء من تلك الأدوات، عبر بناء تشكيلة أوسع من الاضطرابات النفسية، ووصم أي سلوك مغاير بالمرض، بهدف إقناعنا نحن البشر: أننا معتلون نفسياً، وأن الحل ذاتي لا جماعي، فعلى الفرد أن يتصفح كتب التحليلات النفسية بحثاً عن الحل والعلاج، بدلاً من النضال السياسي الاجتماعي...

إعداد وتعريب: عروة درويش

علينا أن نشدد قبل الخوض في هذا المقال على ناحيتين.

أولاً: ليس المستهدف هنا المرضى أو المصابين أو الذين يعانون من اعتلالات واضطرابات نفسيّة، بل المستفيدين والمتاجرين باعتلالاتهم وبصدماتهم وبمعاناتهم. وقد قال، بروس كوهين، في مطلع الكتاب الذي نستند إليه: «أنا أقدّر بأنّ التشكيك في صحّة الاعتلال النفسي قد يكون أمراً غير مريح للأشخاص الذين يعانون في الوقت الراهن من التوتّر أو الصدمات، دعوني أوضّح باختصار هنا: إنّ هذا الكتاب لا ينكر مثل هذه المعاناة، بل يشكك في خطاب الاعتلال النفسي الذي أنتجته مجموعة من الممتهنين الذين يدّعون امتلاك معرفة خبيرة بهذه المعاناة، وعليه، فإنّ النقاش الحالي هو نقدٌ لسطوة الممتهنين، وليس لمعاناة وسلوك الأشخاص الذين تمّ تصنيفهم، أو صنّفوا أنفسهم، بأنّهم معتلون نفسياً».

ثانياً: نحن لا نتناول هنا علم النفس العصبي «Neuroscience»، وهو العلم المتفرّع عن الطبّ البيولوجي، الذي يعتمد الدراسة المخبرية للدماغ والجهاز العصبي في أبحاثه، فهذا العلم، رغم تداخله في بعض الأحيان مع مؤسسة العلاج النفسي المهيمنة بسبب قيام الأخيرة بالتطفل عليه ومحاولة التسلّق على إنجازاته، لا يُعنى عادة بالتقييم السلوكي_ الاجتماعي للأفراد، بل بدراسة الحالات التي فيها خلل فيزيائي_ عصبي ومحاولة علاجها.

«علم نفس» الهيمنة!

هنالك الكثير من الأدلّة لدعم ذلك، نحن نعيش في ظلّ الرأسماليّة، وفي مجتمع من اللامساواة الجوهريّة، التي تحددها علاقتنا بوسائل الإنتاج الاقتصادي، إنّ كلّ مؤسسة في المجتمع الرأسمالي، سواء أكانت عامّة أم خاصّة، مؤطّرة بالتفاوت ذاته في السلطة.

تقوم الطبقة الرأسمالية بإنشاء وتحديد الفهم السائد لما نحن عليه، ولما هو متوقّع منّا ولحدود سلوكنا، ثم تعيد توليد نفسها عبر الدولة ومؤسسات المجتمع المدني، مثل: أنظمة التعليم والعدالة والصحّة، هذا ضروريّ لتقدّم وبقاء الرأسماليّة، لقد تمّ إدمجنا اجتماعياً عبر الأسرة والمدرسة ووسائل الإعلام الجماهيريّة، لكي نقبل التفاوتات الاقتصاديّة والاجتماعيّة، على أنّها أمر طبيعي ومفهوم، بوصفها النتيجة الحتميّة للمهارات المتمايزة وللمنافسة داخل السوق، وذلك بدلاً من كونها نتيجة للامتياز الطبقي ولاستغلال غالبية السكان.

في السياق هذا، لا يشكّل نظام الصحّة النفسيّة والعلاج النفسي استثناءً، فممتهنوا العلاج النفسي، الذين يقودون المؤسسة بوصفهم الخبراء المطلقين في العقل، بعيدون كلّ البعد عن أن يكونوا محصّنين ضدّ الحاجة لرأس المال، في الواقع، سنوضّح تالياً بأنّ نظام الصحّة النفسيّة لطالما كان مطواعاً بشكل لافت لرغبات الطبقة الحاكمة، وبأنّه اكتسب لهذا السبب المزيد من القوّة والسطوة والولاية، مع تزايد تطوّر المجتمع الصناعي.

لقد خدم نظام الصحّة النفسيّة الاحتياجات الاقتصاديّة والإيديولوجيّة للمجتمع الرأسمالي، وهذا ما سبّب انتشار خطاب العلاج النفسي على مدى العقود الماضية مع نموّ النيوليبرالية، وأدّى إلى تحقيق الهيمنة التي يملكها حالياً في المجتمع الرأسمالي، يجب أن نفهم «أزمة» العلاج النفسي التي حدثت في منتصف السبعينيات وبنية «الكتيّب التحليلي والإحصائي للاضطرابات النفسيّة 3DSM III» الصادر عام 1980_ وهو كتيّب إرشاد يصدر عن الجمعية الأمريكيّة للطب النفسي، الجسم الأهم على مستوى العالم في هذا المجال، ومنه يُستقى تصنيف الاضطرابات النفسيّة_ في إطار السياسة الأوسع لدولة الرفاه المتدهورة والتركيز على النزعة الفرديّة.

استهداف العمال، النساء، والشباب!

لقد خدم من امتهنوا العلاج النفسي المجتمع الرأسمالي في مجالات محدّدة من الحياة الخاصّة والعامّة، واستهدف علم النفس المهيمن الشباب والنساء، وكذلك الحياة في العمل، وصِيغٍ من الاحتجاجات السياسيّة والاجتماعيّة، لقد عكست فئات وتصنيفات الاضطرابات النفسيّة بشكل متزايد معايير وقيم المجتمع النيوليبرالي السائدة، ومن ضمنها تلك التي تتعلق بمجال العمل، مثل: «اضطرابات القلق الاجتماعي»، والتي لا يمكن فهمها إلّا بسياق المطالب النيوليبرالية المتعلقة بـ «الصلاحيّة للعمل».

وكجزء من السيطرة على العمالة المستقبلية، تبين التحقيقات: أنّ النمو في مجال الاضطرابات النفسيّة يستهدف الشباب بشكل خاص، ويتضمن ذلك التحليلات التاريخية_ الاجتماعيّة لأكثر العلل النفسيّة شيوعاً في مرحلة الطفولة، مثل: «اضطراب نقص الانتباه/فرط النشاط»، إنّ اللحظة التي عاصرت وصم الأطفال بالاضطرابات النفسية، مرتبطة بشكل وثيق بظهور متطلبات الرأسماليّة المتعلقة بإيجاد عمّال مذعنين ومنضبطين وذوي مهارة عالية.

من جهة أخرى، لطالما شكّلت المرأة هاجساً مستمراً لمختصّي العلاج النفسي منذ بداية ظهور المجتمع الصناعي، ويبدو واضحاً، ابتداءً من «الهستيريا» ووصولاً إلى «اضطراب الشخصيّة الحدّي»، النهج الذي اتبعه مختصو العلاج النفسي لإدراج عواطف الأنثى وتجاربها في علم الأمراض، حيث أدّت هذه المقاربات بشكل رئيس وظيفة تدعيم العمالة، والأدوار التقليديّة القائمة على الجنس والسطوة البطريركيّة_ الأبويّة.

يمكن فهم نظام الصحّة النفسيّة بشكل أدق عند النظر بشكل واسع إلى أحلك اللحظات في تاريخه، ابتداءً من دعمه للعبوديّة، ومروراً بالدور الرئيس الذي لعبه في جرائم النازيين، ووصولاً إلى مشاركته الحديثة في تعذيب الأسرى ضمن «الحرب على الإرهاب». ليست عمليات التعذيب مجرّد أحداث معزولة ومنفصلة أدّت إليها عوامل صعبة، بل نتجت عن الدعم الواسع لها من قبل خبراء الصحّة النفسيّة، لقد خدمت ثقافة الخوف، التي انتشرت في المجتمعات الغربية بشكل متزامن مع هجمات أيلول 2011، فرض هيمنة نفسيّة أكبر، عبر المراقبة الشديدة للمعارضة الاجتماعية والسياسيّة، والتي وجدت انعكاسها بصدور «كتيّب الإرشاد» بإصداره الخامس. 

النظرية الماركسيّة والاعتلالات النفسيّة

يمكن عبر تطبيق الماديّة التاريخيّة الماركسيّة، أن نتبيّن بأنّ نظام الصحّة النفسيّة المعاصر، قد تمّ تأسيسه وتأطيره من قبل القوى الاجتماعية والاقتصادية للرأسمالية الصناعية، يتبدّى لنا عند القيام بفحص تاريخي_ اجتماعي لممارسات وفلسفات خبراء الصحّة النفسيّة، بدءاً من العلاج الأخلاقي ووصولاً إلى التدابير الصيدلانيّة النفسيّة، بأنّ نجاح ممتهني العلاج النفسي يعتمد على ادعاء المعرفة المتسّقة مع أهداف «النخب» الحاكمة في تطويع العمّال التابعين.

لقد دعّم نظام الصحّة النفسيّة، بوصفه جزءاً من البنية الفوقيّة، القاعدة الاقتصاديّة من خلال تطبيع أوجه اللامساواة الجوهريّة في المجتمع الرأسمالي، وعمل الدور الإيديولوجي لنظام العلاج النفسي على نزع الصفة السياسيّة عن الحقائق الوجوديّة ضمن النظام الاجتماعي الحالي، وعلى التشديد على فرديتها، وذلك عبر تطبيب «الانحرافات» وفرض الامتثال على المجموعات المشتبه في تمردها.

تمّ توسيع هذا الدور الإيديولوجي في المجتمع النيوليبرالي، ممّا أدّى إلى تحويل الخطاب النفسي إلى خطاب مهيمن، وقد لخّص، بورستو، هذا التوسّع بملاحظته أنّ الناس الذين دخلوا ضمن التصنيفات الاضطرابيّة قد ازدادوا بشكل لا يصدق، حيث كانت أعداد الناس تتضاعف مع مرور كلّ يوم، لقد باتت الرقابة على أيّ أحد قد تثير المشاكل، أطفالاً أو كباراً، أمراً روتينيّاً، ما إن يبدي أحدهم «انحرافاً» أو «سلوكاً غير معتادٍ» حتّى يصبح في عهدة «النظام»، إلى حدّ أنّ الطفولة العاديّة مؤهلة لتكون اعتلالاً، لقد وصل التطفّل إلى مكانٍ أعمق بكثير من أغلال الأمس، إلى أعماق العقل الداخلي، لقد بات الأمر وكأنّ العلاج النفسي قد أزال الأغلال من جسد «المجانين» ليضعها في مكان أكثر استدامة، أي: في عقول الجميع.

الاعتلالات النفسيّة في المجتمع النيوليبرالي

لم يعد المريض النفسي يخضع لأشكال القمع العلنيّة داخل مؤسسة العلاج النفسي، بل بات خطاب العلاج النفسي يحتوي على أسس أكثر طواعية، وكما لاحظ إنغلبي: «كلّما تمّ التخلص من المستشفيات النفسيّة أكثر، كلّما ازداد دور أطباء العلاج النفسي في المستشفيات العامّة، لكنّ المريض النفسي لا يزال مسجوناً بشكل فعّال داخل الدور الذي يلعبه كمريض نفسي، علاوة عن ذلك، فقد تمّ استيعاب هذا الدور من المريض نفسه ومن الناس المحيطين به، وبات هذا الدور يوجّه تفسيرات الأفراد الذاتيّة لسلوكهم، سواء أكانوا مرضى رسميين أم لا».

ومع تطوّر المشروع النيوليبرالي، بتنا جميعنا متورطين، لكوننا عرضة لخطر معاناة اضطراب نفسي، لكنّ هذا ليس مرتبطاً بأيّةِ حال بالتطوّر في علم الأمراض الحقيقي، بل هو مجرّد توسّع في خطاب العلاج النفسي إلى النقطة التي اتخذ فيها وضعيّة الهيمنة، وكما لاحظ، ديفيس، فالأمر أكثر من مجرّد مصادفة: «لقد نما التشابك بين تعظيم المجال النفسي وبين تعظيم الربح، ليصبح أكثر وضوحاً في الحقبة النيوليبرالية». 

تتطلّب النيوليبراليّة من الناس المتنافسين والطيّعين أن يركّزوا على تصحيح وتحسين عواطفهم وسلوكهم وقدراتهم الاجتماعيّة، وتمّ تدعيم هذا بتوسيع امتهان العلاج النفسي، لقد نزع علم نفس الهيمنة «التسييس»، عن اللامساواة الجوهريّة للرأسماليّة، وذلك أثناء نشره للقيم النيوليبرالية، من خلال تصنيفاته وفلسفاته بشأن «العلاج»، وقد سمح التذرّع بالسلطة العلميّة على العقل لممتهني العلاج النفسي، بفرض قيم الطبقة الحاكمة ومعاييرها، بوصفها افتراضات توافقيّة، ومن مسلّمات السلوك البشري. 

تحويل أيّة مقاومة ومعارضة إلى مرض!

زادت مهن العلاج النفسي من رأس مالها المهني وسطوتها، عبر تعزيز الخطاب العلاجي النفسي، الذي يخدم حبس وتعذيب وقتل المعارضة السياسيّة والمجموعات «المنحرفة»، تحت شعارات التقدّم الطبي والتصرّف وفقاً لمصلحة المريض العليا. يوضّح المعالج النفسي، فريدريك هيكلينغ، هذا النقاش: «تستخدم المجتمعات العلاج النفسي بغية الحفاظ على الاستقامة الثقافيّة والإيديولوجيّة». وفي الردّ على الأزمات السياسيّة والاقتصاديّة الأخيرة، فقد أصبح الدور الإيديولوجي للعلاج النفسي أكثر أهميّة حتّى في هذا الصدد. يقول، هيكلنغ، في التعقيب على العلاج النفسي الذي تلى أحداث 11 أيلول: «العلاجات النفسيّة جميعها هي علاجات مسيسة».

يمكننا كمثال، أن نستدلّ من التوصيف المذكور في الكتيّب للأفراد المصابين بـ«اضطراب الشخصيّة المضادة للمجتمع» على الأشخاص «الخطرين» ومثيري المشاكل للرأسماليّة: «قد يقيّمون أنفسهم بشكل مضخم ومتغطرس، كأن يشعرون بأنّ عملهم أدنى من مستواهم، ويفتقدون للواقعيّة بخصوص مشاكلهم الحالية ومستقبلهم، ويمكن أن يكونوا متشبثين برأيهم أو واثقين من أنفسهم أو متغطرسين بشكل مفرط، قد يملكون جاذبيّة وسحراً عفوياً وسطحياً، ويمكنهم أن يكونوا بليغين جدّاً وفصيحين خطابياً، مثل: أن يستخدموا مصطلحات تقنيّة أو مصطلحات ليست مألوفة لدى غير المختصين». 

إذاً، هؤلاء الأفراد لا يمكن الوثوق بهم، وهم غالباً ما يكسرون القوانين، ومن المرجح أن يكونوا قد سجنوا، وأنّ حياتهم ستكون أقصر من حياتنا، ونقتبس عن هؤلاء من الكتيّب أيضاً: «يمكن أن يتم صرفهم من الخدمة العسكرية، وقد يفشلون في دعم نفسهم ذاتياً، وقد يصبحون فقراء بل وحتّى مشردين، أو قد يقضون الكثير من سنين حياتهم في السجن. الأفراد المصابون باضطراب الشخصيّة المضادّة للمجتمع هم أكثر عرضة من الناس العاديين ليموتوا بوسائل عنيفة، مثل: الانتحار والحوادث العرضية أو مقتولين».

وبناء عليه، عندما يشكّل الأشخاص المرضى خطراً على المجتمع، فإنّ عمليات القمع والتعذيب والاستجواب العنيف مسموحة ضدهم، وخاصّة بوجود «خبراء». فكما قال، ويلش، عن الانخراط العلني لـ«الجمعيّة الأمريكيّة للطبّ النفسي» في ممارسات التعذيب: «متمسكون بقشور علميّة، يدّعي المدافعون عن «الاستجواب المحسّن»_ تقنيات التعذيب التي انفضح استخدامها علنياً في عهد إدارة بوش_ بأنّ أولئك الذين يستخدمون مثل هذه التقنيات هم من «الخبراء» و«المحترفين» الملتزمين بالأمن الوطني، وعليه فقد ينظر بعض المراقبين إلى كامل برامج الاستجواب، وإلى المشاركين فيها، على أنّها برامج إنسانيّة، تبعاً لإشراف علماء نفس مرخصين لها». تبدو أنّ حالة الهيمنة التي وصل إليها العلاج النفسي في المجتمع النيوليبرالي، سوف تجعل من أيّ شكل من أشكال تحدي أدوات الدولة الإيديولوجيّة أمراً عقيماً. 

تحدّي هيمنة العلاج النفسي

رغم مواجهة الناس الذين يعيشون في البلدان منخفضة الدخل لمستويات مرتفعة من الصعوبات الاقتصاديّة والاجتماعيّة، فإنّ هنالك أسباباً وجيهة لكونهم يختبرون اضطرابات نفسيّة أقل، ويملكون فرصة أكبر في التعافي من ظروفهم على المدى الطويل، مقارنةً بنظرائهم في الدول ذات الدخول العالية. السبب هو: أنّهم إمّا ليسوا معرضين، أو معرضون بشكل ضعيف، لخبراء الصحة النفسية المدربين غربياً، والجاهزين لتجيير سلوكهم وتحويله للدلالة على إصابتهم باعتلال نفسي، فالقاطنون في الغرب هم عرضة أكثر من غيرهم، ممّن طالتهم العولمة النيوليبرالية، لكونهم المتلقين للمؤسسة النفسيّة الفاشلة التي تستمر كميّة «اعتلالاتها النفسيّة» بالازدياد، وليس ذلك بسبب جائحة صحيّة، بل هو أحد أشكال تطبيب السيطرة الاجتماعية التي يحرّض عليها رأس المال النيوليبرالي، ولهذا وكما قال بورستو: «يجب أن نوقف مؤسسة العلاج النفسي»، ونوقف معها المهن الملحقة بها والتي ارتبطت بمحاولة السيطرة على سلوكنا كجزء من خطابها في العلاج النفسي.

هنالك بعض الإجراءات السريعة التي يمكننا أن نقوم بها في سبيل تحدّي هذه المؤسسة، التي لا تقف إلى جانبنا ولا تهتم بنا، وهي،

أولاً: علينا أن نتخلّص من القوّة الإلزاميّة التي يتمتّع بها العلاج النفسي، ويتضمن ذلك سلطة فرض الحبس والعلاج بالصدمات وبالعقاقير، حيث إنّ هذه القوّة لم تخدم سوى سطوة إجراءات الرقابة والحفاظ على النظام القائم، وحتّى إن كنّا لا نزال نؤمن بالعلاج النفسي، فكيف يمكن تخيّل وجود التعذيب والحبس في أيّ نظام رعاية صحيّة معاصر؟

ثانياً: يجب سحب حقّ وصف الأدوية من مؤسسة العلاج النفسي، فهم يريدوننا أن نصدّق، عبر وصفهم للأدوية التي لا تنفع، والتي تتربّح منها شركات الأدوية لمجرّد تسميتها نفسيّة، بأنّ لديهم امتياز استخدام صدمات الأنسولين، أو الصدمات بالكهرباء التي يجب أن تكون في متحف الرعب وليس في المستشفيات.

ثالثاً: أن نكوّن التحالفات مع الناشطين اليساريين، ومع الأكاديميين، الذين يقفون في مواجهة هذه المؤسسة، وذلك بهدف مقارعة الأكاديميين المتواطئين معها، والذين لا ينفكون يعيدون إنتاج الهراء ذاته عن الصحّة النفسيّة، بما يلائم دوماً النخب الحاكمة.

ويبقى أنّنا بحاجة على المدى الطويل إلى أن نعيد منح الحياة للنظريات الاجتماعيّة التي تعمل ضمن الأطر النقدّية، فنحن سنفشل في واجبنا العام كناقدين وكضمير للمجتمع إن لم نشجّع الأبحاث على المضي إلى أبعد من الخبرات الآنيّة، وعلى التفكير النقدي الضروري لبناء قاعدة نظريّة قادرة على استيعاب مجموعة الأفكار التي تحلّل وتشرح القوى الاجتماعية والاقتصاديّة، التي تؤثّر على المجموعات، لقد ازدهرت مهن العلاج النفسي في العقود الأربعة الماضية بهذا الشكل المهيمن لسبب واحد، وهو لا يتعلق بنجاحها لا بالعلاج ولا بالتشخيص ولا بتحقيق أيّ تقدّم في الصحّة النفسية، لقد ازدهرت لأنّها متحالفة مع متطلبات الرأسماليّة النيوليبراليّة.

أصل العلة في الرأسمالية
لطالما كانت مهنة الطب النفسي متراساً للتحكّم الاجتماعي من أجل ضبط الطبقات داخل المجتمع الصناعي، إلّا أنّ دورها الإيديولوجي لم يكن أبداً مهماً، بقدر ما هو عليه الآن، لقد حدث هذا إلى حدّ أن الأفراد باتوا يشاركون الآن في أعمال المراقبة الذاتيّة، ويسعون لإيجاد حلول للمشاكل التي سبّبها الإخفاق الهيكلي للمجتمع النيوليبرالي، عبر تفحّص أعراض كتيّب «الاعتلالات النفسيّة»، لكن هذا لا يعني بأنّ علينا الإذعان لهيمنة المؤسسات النفسيّة الحاليّة، وكذلك لا يعني بأن ننكر الإنجازات كلها التي حققتها العلوم النفسيّة في ظلّ المجتمع الرأسمالي، بل يعني بأنّ علينا أن ندرك الهيمنة القائمة حالياً ثمّ نتحداها، يتضمن هذا تحدّي المدافعين الأكاديميين عن ممتهني الصحّة النفسيّة، وإطلاق الحملات من أجل حظر العنف النفسي والعلاجات الإلزاميّة، وتشكيل تحالفات مع الباحثين الراديكاليين غير الراضين عن الحال، ومع الناجين من الأمراض النفسيّة، ومع ناشطي الجناح اليساري.

معلومات إضافية

العدد رقم:
836