حائراً أمام عالم جديد... الغرب يحصي خيباته في «ميونخ»
مع انقضاء الشهر الماضي، أنهى مؤتمر «ميونيخ الدولي للأمن MSC» أعماله في ألمانيا، مخلفاً وراءه تعزيزاً لتلك المخاوف التي دأب صُنَاع الرأي - من كتبةٍ ومراكز أبحاث استخباراتية في الغرب- على ترويجها بين صفوف الناس. أما لسان حال البيان الختامي للمؤتمر، فإن دلَّ على شيء، فعلى اللازمة الغربية «احذروا روسيا»، اللازمة الجافة والسمجة والفارغة، إلّا من الإشارة إلى خوف قائلها ووقوفه حائراً في عالمٍ ينذره من الاتجاهات كلها.
إعداد: رنا مقداد
في شباط من كل عام، تستضيف المدينة الألمانية ميونيخ المؤتمر الأمني المخصَّص لمناقشة السياسات الأمنية والدفاعية، ومستقبلها في ظل التحديات العالمية الراهنة، ذلك بحضور جمعٍ من وزراء خارجية الدول، ووزراء الدفاع، ومسؤولين رفيعي المستوى، فضلاً عن حشدٍ من «الخبراء» ووسائل الإعلام، ورِهط من جمعيات الـNGOs «المتنوعة».
وإن كانت المؤتمرات الدولية معروفة في توازنات اليوم، بخضوعها للعبة المناكفة، والمواجهة الاستراتيجية الجارية بين قوى دولية آيلة إلى التراجع والانكفاء، وأخرى تشقُّ طريقها صعوداً، فإنه- وفي الوقت عينه- لا بد من الوقوف عندما خلص إليه التقرير السنوي الثالث لمؤتمر «ميونخ» الأمني تحت عنوان «ما بعد الحقيقة، ما بعد النظام، ما بعد الغرب» من استنتاجات، لا لأهميتها أو صوابها، إنما لما تشكلِّه من دليل عمل موجِّه لمئات المراكز والكتّاب التواقين للتسلّح باستنتاجاته في ضوء الاشتباك الذي يخوضونه للحيلولة دون فهم المشهد الدولي الجديد وموازينه الجديدة.
حول التقرير وسياسة الخوف
يتوزَّع التقرير الذي يقع في 90 صفحةً على ستة فصول، يتضمن الفصل الأول: شرحاً للعنوان ودلالات اختياره، والفصل الثاني: بعنوان الفواعل، والثالث: الأمكنة، والرابع: عن القضايا، بينما يختار الفصل الخامس: بعض الإصدارات الجديدة من الكتب والتقارير التي تناقش القضايا العالمية، والفصل الأخير: عبارة عن «تشكرات وعرفان» للعديد ممن دعموا إصدار التقرير.
في البداية، يثير التقرير مناقشةً حول ما يتهدَّد الغرب من الناحية الأيديولوجية والقيمية، ويتمثل ذلك- حسب ما يزعم- في صعود «القوى غير الليبرالية والحركات الشعبوية» التي يعتبر أنها «نفذت» إلى المجالس المحلية في أوروبا، وباتت تشكِّل «محوراً للخوف»، وهي تعمل على تعزيز النزعتين الانعزالية والحمائية، وقد تجسَّد ذلك في انتخاب الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، ومسألة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
ويرى التقرير: أن مثل هذا الصعود من شأنه أن يقضي على «مكتسبات الغرب الليبرالي» كـ«الحرية والتعددية وحقوق الإنسان والديموقراطية»، وإن ذلك- بحسب التقرير- عالم «ما بعد الحقيقة» كما اختار التقرير عنوانه، وهذا المصطلح كان قد أدمج في قاموس «أكسفورد» في 2016 واعتبر كلمة العام، وهي تعني «ما يرتبط أو ما يدلُّ على الظروف التي تكون فيها الحقائق الموضوعية أقل تأثيراً في تشكيل الرأي العام، من المؤثرات التي تستند إلى العاطفة والمعتقدات الشخصية..».
ينطوي هذا الاستعمال وهذا التوصيف، على خطورة معرفية تشكلها نزعة مطلقة، تعتبر أن السياسات الليبرالية والنيوليبرالية تتماهى مع الحقيقة والتاريخ، وأن الحقائق الموضوعية لا تُعرَّف إلا بما يدعم الليبرالية، إنه إقصاء للتجارب الاجتماعية والثقافية، والنماذج المحلية المغايرة والمقترحات البديلة. أضف أن توظيف المصطلح يحمل تناقضات، فما دامت «آليات الديموقراطية» هي التي أوصلت هذه الحركات الشعبوية إلى السلطة، فَلِمَ يتم التحول عنها الآن؟ هذا من جهة. ومن جهة أخرى، يدلُّ الصعود الجديد لما يسمونهم بـ«اليمين والشعبويين»، على إخفاق الديموقراطية والليبرالية تاريخياً في معالجة هموم الشعوب وتحقيق التنمية المرجوة، أو توفير فرص العمل. إن الإشارة إلى «خطر عالم ما بعد الليبرالية» بهذا الشكل هو بحدِّ ذاته ممارسة لسياسة الخوف.
أما عن «التهديد» الذي يأتي خارج دائرة الجغرافيا الغربية فتمثله روسيا، حسب ما يزعم التقرير، ليس للغرب فقط وإنما لمجمل النظام الدولي، وهو ما اصطلح عليه «حالة ما بعد الغرب أو ما بعد النظام». ولا نبالغ إن قلنا: إن التقرير قد وُضع بالأساس ضد روسيا، ولا يتوانى في تأويل ارتباط كل ما يتهدَّد العالم بروسيا التي تشكِّل- بمحورها الصاعد- كابوساً على الإمبراطورية الزائلة.
روسيا أصل العلل
يدّعي التقرير أن «اختيار روسيا للحل العسكري في سورية» ضد ما يقرِّره الغرب قد ساهم في تقويض مساعي الحل السياسي، وهو ما يمثل خطراً على «منظومة السلام التي يصنعها الغرب». وهذا الموقف من روسيا، بعيد عن التحليلات الموضوعية، فالغرب- وعلى رأسه الولايات المتحدة- قد تورَّط بشكل كبير في التأسيس للصراع المسلَّح داخل سورية، وتفاقمه عبر دعم جماعات إرهابية جُلبت من أكثر من دولة، ليتضح أن الغرب كان السبَّاق إلى اللجوء للخيار العسكري. وبخصوص الحل السياسي، نجد أن مؤتمرات الحل السياسي كلّها بين النظام السوري والمعارضة، إنما تأتي بمبادرات ومتابعة وإشراف روسي.
في نقطة أخرى، يرى التقرير: أن روسيا تهدِّد النظام الأوروبي بعد أزمة أوكرانيا، وهو ما يستوجب مقاطعتها ومعاقبتها، كما يحذر من أن تعاون ترامب مع بوتين من شأنه إضعاف النظام وتهديد أمن أوروبا. وهنا، يمكن تفنيد هذا الادعاء بسهولة، فالأحداث في أوكرانيا صنعت من أجل تثبيت حكومة موالية للغرب، ولمحاصرة روسيا وفق استراتيجية بريجنسكي، وأن تفاقم الأوضاع وتصعيد الاشتباكات هناك هدفه دفع «الناتو» إلى تعزيز قواته. وعلى العكس تماماً، رفضت روسيا هذا الاستفزاز الآتي من الولايات المتحدة بالخصوص، وحذَّرت الفاعلين الأوروبيين من أن هدف النزاع هو منع أي تعاون روسي- أوروبي، وقد دعا بوتين في أكثر من لقاء، إلى ضرورة تمسك القادة الأوروبيين برؤيةٍ تساهم في استقرار الأوضاع في أوكرانيا.
الصداعات الثلاث
أما بخصوص ما سماها التقرير بـ«الفواعل»، فيختار منها ثلاثة: ترامب والاتحاد الأوروبي وتركيا، فحول مصير النظام العالمي، هنالك تخوف من «تجاهل الرئيس الأمريكي الجديد لقيم بناء النظام العالمي»، فشعار «أمريكا أولاً» معناه أن مسألة القيم ستكون غائبةً أو غير أساسية، وستَدفَع واشنطن إلى اتباع نهج غير عالمي وانعزالي. أضف أن ترامب- حسب التقرير- لا يمكن التنبؤ بقراراته، وهو متناقض وغامض، بشكل يصعب فيه ترجمة أقواله إلى أفعال، كما أنه يتخذ مواقف متعارضةً مع أوروبا والناتو.
في هذا الصدد، يمكننا التأكيد: أن السياسات الأمريكية والأوروبية كلها، والخطابات التي تؤكد على تعزيز القيم العالمية لم تمارس ولم تحقِّق إلا النقيض، فالديمقراطية وحقوق الإنسان والحرية، ترجمت إلى غزوٍ لأكثر من دولة ذات سيادة، ومعاقبة دول أخرى، اختارت بالفعل هذه القيم. فعهد بوش أو أوباما كان مأساوياً للشعوب، وحتى للولايات المتحدة نفسها، وبالتالي، ربما يشكِّل ترامب القطيعة مع نزعة تدخلية أمريكية أنهكت الاقتصاد الأمريكي.
ويدعو التقرير أعضاء الاتحاد الأوروبي إلى ضرورة زيادة التنسيق المؤسساتي، ودعم نفقات الدفاع والأمن، خصوصاً ما يتعلق منها بالمساهمة في حلف شمال الأطلسي، ويعتبر أن قوة مؤسسات الاتحاد الأوروبي، من شأنها التصدي للإيديولوجية الشعبوية أو أية تجربة جديدة لبريكسيت جديد. يبرز هذا التخوف نقاشاً لم يُثَر من قبل بشأن مستقبل حلف الناتو وميزانيته، خصوصاً بعد التصريحات التي عبَّر فيها الرئيس ترامب عن ضرورة «أن تدفع أوروبا أكثر مقابل أمنها». كما أن المؤسسات الأوروبية «المتضخمة» باتت أمام تحدي الشعوب الأوروبية التي فتحت هي الأخرى الجدل حول ما الجدوى من بيروقراطية الاتحاد الأوروبي الواسعة، في ظل الأزمات المالية التي تمرُّ بها الدول الأوروبية والعالم عموماً؟
أما عن تركيا، فالتقرير متشائم حيال «التباس علاقات تركيا مع الغرب»، كما بدأ النواح المستند إلى القول: أن تركيا لم تعد «النموذج الإسلامي الديموقراطي» الذي تفاخر به الغرب والناتو سابقاً، إذ برزت النزعة الاستبدادية ومعالم ضعف المؤسسات، لكن وسبحان الله، لم ير الغرب ذلك، إلا عند بروز بوادر انعطاف استراتيجي تركي نحو روسيا والصين، إنّ اختيار تركيا أردوغان على أساس أنها ضمن تركيبة ما يهدِّد الاستقرار الأوروبي، ليس محايداً، فتركيا أردوغان باتت مستهدفةً بعد تقاربها مع روسيا، كما أن التقرير يتغاضى عمداً أنّ ما يهدِّد القيم والأمن هو تورط الأمريكيين في قيادة انقلاب ضد نظامٍ كان حليفاً لهم فيما سبق.
ومن حيث الأمكنة التي تطرح تحديات على «أجندة السلام العالمية» حسب التقرير، هي أوروبا الشرقية، وشرق المتوسط، والقطب المتجمد الشمالي. وتشكِّل روسيا حسب التقرير، المصدر الأساسي للتوترات في هذه المناطق، فرغم «نجاح حلف الناتو في الشراكة مع دول أوروبا الشرقية وفتحه لروسيا مجالاً للتنسيق عبر مجلس «روسيا- الناتو»، إلا أن روسيا تعمل على زيادة التسلح ومعارضة الدرع الصاروخية الضرورية لأمن أوروبا».
كما يستعرض التقرير- عبر رسوم تخطيطية- المجال الذي تستطيع الصواريخ الروسية بلوغه، زاعماً أنها تهدِّد دول أوروبا الشرقية. هذا التوصيف لا يأخذ بعين الاعتبار. أن منصات «الناتو» في هذه الدول ومدى الصواريخ الباليستية الغربية يصل هو الآخر إلى عمق روسيا، إذ نحن هنا إزاء توازن الردع، وأنّ هذه المعضلة الأمنية تتطلب من الطرفين خفض القدرات وليس من طرف واحد.
عيون التقرير فيها عَوَر
من حيث القضايا، يعتبر التقرير أن العالم يشهد حالةً «لا إعلام» بسبب الأخبار الكاذبة والمفبركة، والتي «كانت وراء نجاح مشروع بريكسيت وصعود ترامب»، فهذا النوع الجديد من الإعلام يشكل تحدياً لمبدأ إعلام الرأي العام، ولكن الأمر الملفت هنا، هو الادعاء أن مصدر هذه الفبركات كلها هو: روسيا، حيث «تدخلت مخابراتها، بأمر من بوتين، لإفساد حملة هيلاري، وفعلت ذلك مع ألمانيا»، وأن «صعود الحركات الشعبوية - هو الآخر- تورطت فيه روسيا». لذلك، فحماية «مجتمع الحقيقة» يتطلب «استراتيجيةً متكاملةً ضد خطابات روسيا» على العموم.
نجد أن هذا التحليل من واضعي التقرير يمارس بحد ذاته فبركةً وحجباً للحقيقة، ذلك أن أكبر الشبكات الإعلامية ومحركات البحث وتكنولوجيات الإعلام الحديثة تشرف عليها مؤسسات غربية- أمريكية على وجه الخصوص- وتمتلك رصيداً كبيراً في تضليل الرأي العام، منذ عهد الحرب الباردة، إلى غزو العراق، وصولاً إلى فبركات اليوم. أضف إلى ذلك، أنّ هذه الشبكات تعزِّز النزعة ضد روسيا «Anti Russian» على نحوٍ فاضح.
وبخصوص الهجرة، ينتقد التقرير ضعف التنسيق الأوروبي على مستوى المؤسسات، والجدل بين أعضاء الاتحاد حول تقاسم حصص طلبات اللجوء، ومشكلة تحديد النفقات اللازمة لذلك، وعدم وجود رؤية واضحة للتعامل مع الأعداد الكبيرة من المهاجرين الوافدين، من شرق المتوسط وإفريقيا.
و«ينبّه» التقرير إلى الخطر الذي تمثله «الجهادية العالمية الجديدة»، فهنالك على أرض أوروبا العديد من «الشبكات الجهادية النائمة» التي ترتبط أيديولوجياً بـ«داعش» وتدير «ثورةً في كل مكان» دون أن ترتبط بالضرورة بالتنظيم من حيث التمويل، أو تلقي الأوامر. هذه الهلامية للتنظيمات الإرهابية خطيرة، وتتطلب تنسيقاً وقدرات واسعة بين قطاعات الأمن والدفاع الأوروبية. غير أن التقرير لا يذكر مصادر هذه التهديدات، وكيف تطورت الأمور إلى هذا الحد بعد أن تم خنق «القاعدة»، لقد بات العسكريون والسياسيون في أوروبا يدركون أن سياسات دعم الإرهاب بالسلاح بأنواعه المختلفة في العراق وسورية وليبيا تسببت في هذا الواقع، وأنه لم يتم التعامل مسبقاً مع الإرهابيين القادمين من أوروبا إلى شرق المتوسط. وعليه، يمكن التأكيد أن هذا التهديد نابع من سياسات معلومة، ومدركة تماماً اتجاه الأوضاع في المنطقة.
«الحقيقة» V.S «الأمن»
نستنتج ممّا ورد كله، أن واضعي التقرير ومؤتمر ميونيخ للأمن إجمالاً، يضعان تصوراً خاصاً لـ«عالم الحقيقة» ينطلق من «مركزية غربية» لا تعترف بمبادرات وسياسات الدول الأخرى لوضع تصور للأمن العالمي، كما أنه يختزل النظام الدولي في الكتلتين الأوروبية والأمريكية، ولا يعترف بعالمٍ متعدد الأقطاب تشارك فيه قوى أخرى أثبتت حضورها في تقرير السياسات العالمية والتأثير فيها بوجه إيجابي.
من جهة أخرى، هنالك العديد من التزييفات والتلفيقات غير النزيهة بخصوص روسيا، حيث يعمل التقرير على تدعيم ذلك بتقديم إحصاءات وبيانات، وسبر آراء مختارة من «مراكز تفكير» أطلسية مرتبطة بأجهزة المخابرات العسكرية الغربية «IISS، CSIS، CNA، McKinsey Global Institute.. etc.»، بينما تستثنى وجهات مراكز أخرى علمية وموضوعية، قد تبدي وجهة نظر مغايرة بشأن العديد من القضايا المختارة.
لقد باتت الأخطار والتهديدات معولمةً، وتصدر من جهات غير مرئية وغير محددة، لذلك يتوجب أن يكون هنالك نقاش ديمقراطي عالمي، يدمج الدول والقوى المؤثرة كلها، حتى تلك التي اعتبرت هامشيةً و«عالم - ثالثية». وعلى عكس سياسة الهيمنة المتبعة، فالتقرير يحمل رسالةً ضمنيةً مفادها: إن عالم «ما بعد النظام» وعالم «ما بعد الغرب» هو عالم صعود روسيا وحلفائها، وعليه، فإن نهج التفسير بلغة «المؤامراتية» التي وردت لم يعد مجدياً في التصدي للمشكلات الحقيقية، وإن مثل هذه التلاعبات بمصطلح «الحقيقة» هو بحد ذاته نقيض لـ«الأمن».
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 801