الديمقراطية وعالم ماكدونالد (ماك).. والنصف الآخر
في تعريف دقيق للدول الصديقة والدول المارقة يحدد الصحفي الأمريكي توماس فريدمان الأخيرة بأنها التي لا يوجد بها مطاعم (ماكدونالدز)، والتي يعتبر وجودها دليل الصداقة مع الحضارة الغربية! وبدلا من نظرية صراع الحضارات التي تحاول أن تكتسب طابعا نظريا وفلسفيا بطرح مقولات عن مسار تاريخ البشرية في مرحلة التحول الكبرى التي يشهدها الآن، والتي انتهت إلى اعتبار الغرب والإسلام في حالة صراع حضاري، فإن فريدمان يصل رأسا إلى لب المسألة، فهو صراع بائعين ومنتجين للوصول إلى الأسواق، سواء كانوا بائعي «هامبورجر» و«كوكاكولا» أو بائعي طائرات بوينج وفانتوم. كما أنه صراع للوصول إلى الموارد والسيطرة عليها، وعلى رأسها البترول، سواء كان بترول العراق والسعودية، أو بترول آسيا الوسطى وبحر قزوين، صراع يعود بالعجلة الهائلة للبشرية إلى البدايات: عصر الاستعمار التقليدي.
تفجيرات متتالية
قبل تعليق فريدمان بسبع سنوات، وقبل انهيار 11 سبتمبر الكبير، أعلن المؤلف (بنجامين باربر) نبوءة دقيقة مدهشة (.. وسوف تحتل حروب «الجهاد» الصغيرة عناوين الصحف في القرن المقبل..)، وهذا ما حدث بالفعل، ربما أبكر قليلا مما توقع، وربما أشد، ففي 19 إبريل 1995 قام (الجهاد) المحلي في أمريكا بتفجير المبنى الفيدرالي في أوكلاهوما، ثم قام (الجهاد) الخارجي بتفجيرات السفارة الأمريكية في نيروبي والانفجارات التي استهدفت المنشآت الأمريكية في السعودية، وبمذابح البوسنة وسراييفو، ومذابح (الجهاد) القبلي في رواندا، حتى حدث انفجار 11 سبتمبر الكبير، وهو ليس بالأخير، إذ لحقه تفجير المدمرة كول في اليمن، ومذبحة السواح الأستراليين في جزيرة بالي الإندونيسية وقتل الأطباء الأمريكيين باليمن، وهو في الأغلب ما سيظل يحدث.
في المقابل، فإن الحروب التي يشنها عالم (ماك) لا تتوقف، في الصومال ويوغسلافيا وأفغانستان والعراق، وعلى القائمة تنتظر الدول التي وصمت بالـ «مروق والشر»، وهو وصف لاهوتي (جهادي)، صادر للمفارقة عن عالم ماك الحداثي هذه المرة، ولا يبدو أن تلك الحروب ستنتهي هي الأخرى.
سمات أصولية
لا يقصد المؤلف باستخدام تعبير الجهاد قصره على المسلمين فحسب، إنه يستعير هذه الكلمة للحديث بشكل عام عن الأصولية الدينية والعرقية المعارضة للحداثة، وهي ما اعتبره موجودا في معظم أديان العالم، في المسيحية كاثوليكية وبروتستانتية، كما هي في الإسلام سني وشيعي، والهندوسية والطائفة السيخية والبوذية والصهيونية. إنها صورة الكفاح والقتال الدائم ضد الحاضر لأجل الماضي باستخدام الأفكار والكلمات والتنظيمات والقنابل والطلقات، وهي تقاتل في ظل الإيمان بالنصر لأن قضيتها مقدسة، حتى وإن لم تكسبها في هذا العالم الفاني. (الجهاد) إذاً، ليس أحد ملامح الإسلام فحسب، وإنما سمة من سمات كل الأصوليات، وإن اكتسب تلك السمة الإسلامية بسبب بروز جماعات الكفاح المسلح الإسلامية.
وفي المقابل يمثل عالم ماك السوق الكونية، انه عالم القطب الواحد الذي تقوده الولايات المتحدة اليوم، إنه عالم الوجبات السريعة والموسيقي السريعة، عالم «إم تي في» و«ماكنتوش» و«ماكدونـالدز»، والإنترنت، إنه سيرك كبير وحديقة ملاه كونية.
هما عالمان متضادان ومتكاملان في الوقت ذاته. فبينما تكون الروح الإقليمية والحدود العرقية والطائفية هي القوة الدافعة لقوى (الجهاد) مع الرغبة في العودة لروح القبيلة، التي تؤدي إلى التفتت والتشظي كما حدث للاتحاد السوفيتي، على العكس من ذلك، يسعى عالم ماك لاختراق الحدود القومية من الخارج، لعولمة الأسواق، للقرية الكونية الموحدة.
فكيف يكونان متكاملين؟ إن ذلك يكمن في أن لـهما عدواً واحداً، هو الدولة ذات السيادة بمؤسساتـها المدنية، إنها الدولة القومية باعتبارها إطاراً للديمقراطية. وإذا كانت الدولة كيانا يضم بين جنباته تعددا عرقياً وطائفياً وعنصرياً، كما هو حادث مع الاتحاد السوفيتي قبل انهياره، أو الولايات المتحدة نفسها، فإن (الروح الجهادية) ستستهدف تدمير هذا الكيان لصالح صلة الدم أو الطائفة أو العنصر، وعلى الجانب الآخر فإن عالم ماك يكره الحدود القومية، لأنها تحد من حركته وتقيدها سواء أكان منتجا أم مسوقا..
والنتيجة المفارقة والمنطقية في آن، هي أن ميول كل من (الجهاد) وعالم ماك تتواجد معاً ويمكن ملاحظتها في البلد الواحد في نفس الوقت. علي مقربة من بومباي وبجوار القرى الفقيرة التي تشتهر بوأد الإناث الرضع، بل والزوجات غير المرغوب فيهن أيضا، توجد مدينة صنع البرامج الإليكترونية الشهيرة (المسماة اختصاراً SCEEPS). ويشبه أحد العاملين الذهاب للعمل في تلك المدينة بعبور حدود دولية، من عالم الهند القديم الذي تسوده كل قيم (الجهاد) القبلية والعرقية، إلى عالم ماك السحري الحديث، حيث تصنع أرقى برامج الكمبيوتر لكبرى شركات المال والصناعة في العالم!
العولمة وقانون السوق
حل قانون السوق الذي يرفع من شأن الأهداف الفردية على حساب الأهداف الجماعية محل الخيارات الديمقراطية. وأذعنت الحكومات لقوة تفوق قدرتها على السيطرة، هي القوة الإلكترونية التي جعلت باستطاعة مستخدم للكمبيوتر أن يعبر الحدود دون دفع أية رسوم أو جمارك، حاملا معه في رأسه من الأصول الرأسمالية ما يزيد عما قد تحويه ألف سفينة شحن! ووضع فلاسفة السوق قواعد ديمقراطيتهم، فاعتبروا أن الشراء الذي يقوم به المستهلكون واختيارهم لسلعة دون غيرها، هو تصويت يومي يحددون فيه من يحق له أن يمتلك المصانع والمتاجر والمزارع ويديرها! وباختصار وكما قال جورج شتاينر فإن «معبدي الحرية الجديدين سيكونان ماكدونالدز وكنتاكي فرايد تشيكن».
وعلى حين أعلن الشاعر الأيرلندي ويليام بتلر ييتس (1865-1939 ) عن أسفه: «لن يظل المركز حيثما هو، فالفوضى المحضة انطلقت من عقالها على العالم»، فإن هذا هو حال عالمنا اليوم، فالدولة القومية بمؤسساتها الديمقراطية، مركز عالم القرن العشرين، آخذة في الاندثار. وفي اللحظة التي يبشر فيها المتعصبون لعالم ماك بالعالم الصغير المفتوح، بالقرية الكونية، بالسوق الأوحد الكبير، فإن العالم يتم تقسيمه إلى كيانات أصغر فأصغر، كارهة ومعادية لبعضها، إنه الوجه الآخر للعملة. كيف تم تقسيم يوغسلافيا، وكيف يمكن أن يستمر تقسيمها بلا نهاية؟ إنه عالم «لا يسيطر عليه أحد بالمرة». فكيف يتفق هذا وحاجة السوق إلى السلام والاستقرار العالميين؟
إن السوق يحتاج إلى الأمن والاستقرار وليس العدل والديمقراطية، هل توقف السوق عن التعامل مع ديكتاتورية بينوشيه في شيلي أو عن استثماراته في أوغندا في عهد عيدي أمين؟ إن العكس هو ما كان يحدث!
يبحث البائع عن المستهلك الطيع القابل للتشكيل، الذي يمكن إقناعه بأن صحته ستكون أفضل لو مارس رياضة المشي مرتديا حذاء ماركة أديداس أو ريبوك. والعكس مع الديمقراطية، أنها تتحقق فقط بوجود مواطنين لهم استقلاليتهم وقناعاتهم الخاصة التي يتوجب احترامها.
طبيعة وهمية
«في أجواء عالم ماك، قد يتضح أن بديل التقليدية الدوجماتية هو الاستهلاكية المادية… أو مجرد الفساد النفعي». هل كانت الحرية وحق التصويت هي الهدف الحقيقي لثورة بعض شعوب أوروبا الشرقية، أم الملابس ذات الماركات المشهورة وأغاني الراب وأجهزة الووكمان والوظائف ذات الرواتب العالية، واستخدام شبكة الإنترنت، أي ما يمثله الدخول في عالم ماك؟؟. على أحد الجدران في بولندا كُتب (طالبنا بالديمقراطية، لكن ما حصلنا عليه هو السوق الريعية)!!.
«كل مولود جديد على كوكب الأرض هو مستهلك جديد لمنتجاتنا»، هكذا تعلن الشركات متعددة الجنسيات، وهكذا تخطط. كانت أبحاث التسويق في الشركات فيما مضى تدرس احتياجات المستهلك وذوقه كي تلبيه، أما الآن فإنها تشكل احتياجاته وتوجه الذوق العام وتصنعه، فيما قد لا يكون ضروري بالمرة .
إنـها شركات عابرة للقومية أو بالأحرى معادية للقومية، يقدم ماكدونالدز خدمات لعشرين مليون مستهلك في أنحاء العالم كل يوم، أي ما يزيد علي عدد أهل اليونان وأيرلندا وسويسرا مجتمعين. مبيعات توشيبا بلغت 25 مليار دولار عام 1992، أي ما يقل بشكل طفيف عن ميزانية حكومة الأرجنتين، وتعلن شركة الأحذية الأمريكية الشهيرة: «عليى كوكب ريبوك لا وجود للحدود». فهل لهذه الشركات موطن؟ تصنع إحدى موديلات فورد في مصانع ألمانية بأيدي عمال أتراك لتباع في نيجيريا وهونج كونج. وعوضاً عن المفاهيم الاقتصادية التقليدية التي تضع رأس المال والعمل والمادة الخام كعوامل أساسية حاسمة، فإن الاقتصاد الكوني يضع تنظيم العلاقة فيما بينهم في المقام الأول، أي نظم المعلومات والاتصالات والإدارة. ويتعاظم دور تلك النظم مع النمو اللانـهائي للشركات العابرة للقومية، ومجال عملها الذي يغطي الكون فيكتسب الاقتصاد الكوني الجديد بالتبعية، طبيعة وهمية تخلقها شبكة معلومات عالية التقنية شديدة البأس، حيث لا جنسية للمنتج ولا جنسية للمستهلك ولا موطن محدد للإدارة.. إنـها مراكز كمبيوتر فائقة القوة تعمل عبر الأقمار الاصطناعية، إنه عالم لا يعرف الحدود.
تعزيز قوى التفتيت
من ناحية أخرى فإن الهجوم على الحدود القومية يأتي بسبب الطبيعة هذه المرة، وهو تعاظم وازدياد ندرة الموارد، حيث أصبح من المستحيل على أي أمة أن تكتفي بمواردها الذاتية. وليس المطروح هنا الحديث عن دول مثل اليابان أو سويسرا لكونهم يفتقدون في الأصل للموارد الطبيعية، ولكن لنتأمل وضع الولايات المتحدة التي كانت تتحدث دوما عن قدرتها على الاكتفاء الذاتي لسعة وسخاء أرضها اللامحدود ين. ولنتأمل الأرقام: كانت أمريكا تنتج 27% من خام الحديد بالعالم سنة 1945، هبط إلى 16% سنة 1950، ثم إلى 7% سنة 1960، ثم نصف بالمائة سنة 1989، أي لا شيء تقريباً، والحال كذلك فيما يتعلق بالألومنيوم والبوكسيت. وإذا كان هذا حال الولايات المتحدة، فإن هذا ولا شك ينسحب على كل أمم الأرض، ولا بديل للبشرية عن التعاون لمواجهة ندرة الموارد ونضوبها، بشكل كوني، فلا بديل آخر. إن الحدود السياسية القومية غدت ضربا من الوهم، حالها حال مقولة الاكتفاء الذاتي.
أدت آلية التبادل والتكامل بين الأمم الناتجة عن العولمة إلى تعزيز قوى الجهاد التفتيتية، التي يبدو في ظاهر الأمر أنها تحاربها. تم ذلك بوجود مصادر المواد الخام في مناطق التوترات بشكل عام، مما يجعل شرايين الاقتصاد العالمي الجديد هدفا لها. من ناحية أخرى فإن الظلم والتوزيع غير العادل لموارد العالم والإخلال بتوازنها يدفع بالمزيد من الجماهير الفقيرة إلى اعتناق مبادئ (الجهاد). يتضح ذلك بشكل خاص في مجال الطاقة، حيث تسيطر على 87 % من احتياطي البترول العالمي أكثر الدول احتمالا لأن تتعرض لعدم الاستقرار السياسي والاجتماعي.
( انظر الجدول المرفق)
كان الاقتصاد يقوم علي أسس مادية من مكونات الاقتصاد التقليدي وأساسها إنتاج السلع الصلبة، الأحذية والثلاجات والتلفزيونات والسيارات.. الخ، أما الاقتصاد العالمي الجديد فإنه يعتمد علي السلع اللينة، البرامج والأفلام والألعاب الإلكترونية والأغاني والإعلانات التي تستهدف العقل والنفس. وعبر أساليب الترويج والتغليف والإعلان، يتم بيع منتجات تم إنتاجها طبقاً لرغبات المنتجين لا المستهلكين، الأمر الذي يختلف كلياً عن الاقتصاد الرأسمالي التقليدي القديم. وشيئاً فشيئاً أخذت السلع اللينة حجماً متزايداً حتى أصبحت تسيطر على قطاع السلع، ويمكن إدراك ذلك من معرفة نمو حجم الإعلانات في العالم الذي بلغت استثماراته حوالي 250 مليار دولار (بداية التسعينيات)، وأصبح من غير المستغرب أن يشتري ملايين المستهلكين في العالم الماركة التجارية بغض النظر عن حاجاتـهم الحقيقية. وكما في رواية «آلة الزمان» لـ «هـ.ج. ويلز»، حيث تحول البشر المنعمون إلى كائنات يمكن تنويمها بشكل جماعي، وسوقها إلى الذبح دون أن يدروا أو يقاوموا، تمكنت الآلة الإعلانية الكونية من خلق حالة من الإدمان الجماعي لما هو غير ضروري، وفي الأغلب لما هو غير نافع. وكان الوعد المبطن بالقوة والجمال والسعادة الذي يخاطب المشاعر هو الطريق لقلوب للمستهلكين وجيوبهم. واحتلت الآلة الإعلانية الكونية عبر أجواء الأثير مكان الصدارة في اقتصاد عالم ماك، مؤكدة الطبيعة الوهمية غير المحسوسة له. لعل في ذلك يكمن تفسير التأثر المبالغ فيه للاقتصاد العالمي من حادث نيويورك في 11 سبتمبر.
ليس من الحتمي أن تكون التكنولوجيا والحداثة معاديين بالضرورة للديمقراطية، ذلك أن التكنولوجيا أداة محايدة: إن تحالفت مع الديمقراطية أمكنها تعزيز الاتصال المدني وتوسيع مدارك المواطنين، أما إذا ترك أمرها للسوق، فقد تؤدي إلي تضخيم ضرورات سلع عالم ماك غير الضرورية والتي لا قيمة لها، باستخدام القدرات الهائلة للميديا لتوحيد الرغبات. وبها يمكن مراقبة الرأي العام والسيطرة عليه (كيف أصبح شعب الولايات المتحدة مقادا لحرب بالعراق لا مصلحة ولا علاقة له بها بالمرة!)، ووضع الحاجات الاصطناعية محل الحاجات الإنسانية الطبيعية، إنه طغيان واستبداد التكنولوجيا.
الظواهري و الجينز
تكمن القيمة الأساسية للكتاب في أنه كشف التلازم بين كل من عالم الإنترنت والراب ومايكل جاكسون والوجبات السريعة والجينز بعالم الشيخ عمر والظواهري، وعوضاً عن نظرية هنتنجتون المدرسية المتعلقة بصراع الحضارات والتي تنطلق من تعليل الظواهر السطحية الخادعة للصراع بين كل من العالمين، فإن نظرية تكامل العالمين وخلق أحدهما للآخر تقدم لنا قدرة تفسيرية عالية لما يحدث بالعالم الآن. ونظرة متأنية للتاريخ القريب، تاريخ نشأة وتعاظم كل من عالم ماك و (الجهاد) توضح مدي التلازم والاكتمال بين العالمين، ذلك التلازم الذي أثمر ما حدث في نيويورك، رغم كل الدعاوى بعكس ذلك. لم ينتج عالم السوق عالم (الجهاد) سياسيا وعسكريا فقط (دور أمريكا في خلق القوى الجهادية وتعبئتها في أفغانستان)، بل أساسا بالوجود المتلازم، إنه العلة والمعلول، وهو ما يعلمه جيدا القادة والمخططون الاستراتيجيون في الغرب، يعلمونه ولكن لا يعلنونه، فعلى أساس هذا التناقض المزعوم يتم توجيه عالم اليوم.
■ شوقي عقل
عن كتاب Jehad vs. Mc World «الجهاد في مواجهة عالم ماك» للمؤلف الأمريكي بنجامين باربر – عن دار النشر تايمز بوكس، نيويورك 1995. قام بترجمته أحمد محمود وأصدره المجلس الأعلى للثقافة تحت عنوان «عالم ماك المواجهة بين التأقلم والعولمة»...