الاستراتيجية الأمريكية لإخضاع صحوة العرب (1-2)

فاجأ انتشار الانتفاضات في أرجاء العالم العربي كثيرا من المراقبين، لكنّ ذلك لا ينطبق على السياسة الخارجية الأمريكية والمؤسسة الاستراتيجية. فقد كان ردّ الفعل المعادي للدكتاتوريات والأنظمة القمعية التي تساندها واشنطن متوقّعا منذ سنوات، حين وضع زبينغو بريجنسكي، أحد صقور واضعي الاستراتيجيات الجيوسياسية، مفهوما واسعا حول قيام «صحوة سياسية عالمية»، تدرك من خلالها جماهير العالم الغالب عليها الشباب المتعلّم والمستقلّ والمفقر في العالم الثالث، خضوعها للاستعباد والتفاوت والاستغلال والاضطهاد. تحرّك هذه الصحوة ثورة المعلومات وتقانات الاتصالات ومن ضمنها الإذاعة والتلفزيون، لكن على نحو خاصّ الإنترنت والوسائط الاجتماعية. يعرّف بريجنسكي بدقّة هذه الصحوة بوصفها التهديد الأكبر لمصالح النخب المحليّة والعالمية، ولوضع أمريكا على قمّة التراتبية العالمية.

صيانة الهيمنة الأمريكية بـ«الدمقرطة»

هذا ما حفّز تطوير استراتيجية أمريكية خاصّة بالعالم العربي، من نمط استراتيجيات مشابهة متّبعة في العقود الأخيرة في بقاع أخرى من العالم، تهدف إلى تشجيع «دمقرطة» من خلال تنمية صلات وثيقة مع منظّمات «المجتمع المدني» وقادة المعارضة ووسائل الإعلام والمنظّمات الطلاّبية. ليس الهدف تشجيع ديمقراطية عربية أصيلة «من الشعب ولمصلحة الشعب»، بل بالأحرى تشجيع وتطوير «دمقرطة» تزيح الطغاة الذين ساندتهم الاستراتيجية الأمريكية لمصلحة نظام ديمقراطيّ نيوليبرالي، توجد فيه مؤسّسات ديمقراطية ظاهرية ومرئية (انتخابات متعددة الأحزاب، وسائل إعلام خاصّة، مجالس نيابية، دساتير، مجتمع مدني فاعل، إلخ.)، لكنّ القابضين على السلطة في هذا النظام السياسي الوطني يظلّون خدما لمصالح الولايات المتحدة الاستراتيجية والاقتصادية، ويواصلون تطبيق إملاءات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومساندة هيمنة واشنطن العسكرية على المنطقة وفتح الاقتصادات العربية لدمجها بالاقتصاد العالمي. هكذا، تصبح «الدمقرطة» استراتيجية ثمينة جدّا للمحافظة على الهيمنة، وجها جديدا لمقولة «دعهم يأكلون البسكويت!»، منح الشعب «صورة» عن الديمقراطية وتأسيس علاقة مع نخبة جديدة تابعة والمحافظة عليها. إذا، تصبح الديمقراطية من أجل الشعب ممارسة عابثة تتحوّل فيها «مشاركة» الشعب إلى تصويت بين فصائل متنافسة من نخب تمتثل جميعها في نهاية المطاف لأوامر واشنطن.

تفيد هذه الاستراتيجية أيضا في صيانة القوّة الأمريكية في المنطقة. فغالبا ما يستطيع الدكتاتوريون، الذين يمارسون أدوارهم في الاستراتيجية الجيوسياسية، أن يصيروا أكثر استقلالا عن القوّة الإمبريالية، ويسعون لتحقيق مسار لبلدانهم مستقلّ عن مصالح الولايات المتّحدة (مثال صدّام حسين)، وتصبح إزاحتهم عن السلطة لاحقا أكثر صعوبة. هكذا، يصبح تبديل الأحزاب والقادة في «نظام مدمقرط» أكثر سهولة، ولا يحتاج لأكثر من الدعوة إلى انتخابات ومساندة الأحزاب المعارضة. فإسقاط دكتاتور محفوف بالمخاطر أكثر من «تغيير الحارس» في نظام ديمقراطيّ ليبرالي.

مع ذلك، ومجدّدا، يظلّ الوضع في العالم العربي أكثر تعقيدا من هذه النظرة العامّة الموجزة، وينبغي أن تأخذ الاهتمامات الاستراتيجية الأمريكية بالحسبان احتمالات أخرى. ففي حين كان واضعو الاستراتيجية الأمريكيون يدركون المخاطر المتنامية التي تهدّد استقرار المنطقة، والسخط المتصاعد وسط غالبية السكّان، اتّجهوا مع ذلك إلى تحديد الهدف بوصفه «دمقراطة» من خلال التطوّر وليس من خلال الثورة. بهذا المعنى، تشكّل الانتفاضات المندلعة في أرجاء العالم العربي تحدّيا استراتيجيا جوهريا بالنسبة إلى واشنطن. فقد لا تكون الروابط التي تشكّل مع المجتمع المدني وباقي المنظّمات المعارضة قابلة بالضرورة للتطويق والتنظيم والتعبئة. موجز القول، يبدو أنّ أمريكا غير مستعدّة لانتفاضات تحدث على حين غرة. فالتنامي السريع للاحتجاجات والانتفاضات ومداها المتّسع يؤكّد تعقيد الوضع، خاصّة أنّها لا تحدث في دولة واحدة فقط، بل في منطقة بأكملها (قد تكون واحدة من المناطق المهمّة استراتيجيا في العالم، إن لم تكن أهمّها)، رغم أنّه ينبغي التعاطي مع الوضع على قاعدة كلّ دولة على حدة. 

التحدّي الاستراتيجي!

يتصاعد خطر أن تتكرّر في العالم العربي النزعات التي تواصل تقدّمها في أمريكا اللاتينية منذ العقد المنصرم: أي تنامي الديمقراطية الشعبية. ضمّت الاحتجاجات قطاعات واسعة من المجتمع ـ المجتمع المدني، الطلاّب، الفقراء، الإسلاميين، قادة المعارضة، إلخ. ـ كذلك كانت لواشنطن روابط مع العديد من هذه القطاعات (سرّا وعلانية)، تلزمها باختيار الجهة التي ينبغي عليها مساندتها.

التدخّل العسكريّ عامل مهمّ آخر يؤخذ بالحسبان، فقط وطّدت واشنطن علاقات وثيقة مع جيوش المنطقة. ويبدو واضحا أنّ لأمريكا يدا في التحرّكات العسكرية التي حدثت في تونس، غالبا ما يكون الموقف الطبيعي للقوّة الإمبريالية مساندة الجيش، أو تسهيل الانقلاب العسكري، أو استخدام القمع. مرّة أخرى، ستحدّد هذه الاستراتيجية على قاعدة كلّ دولة على حدة. في حال حدوث انتفاضة شعبية، يكون للقمع العسكري تأثير مرجّح في مفاقمة الغضب والمقاومة الشعبية، لذا يتطلّب الأمر الاستخدام الاستراتيجي لنفوذ الجيش.

يضعنا هذا أيضا أمام احتمال «الخيار اليمني»: الحرب وزعزعة الاستقرار. في مواجهة العواقب الوخيمة (التحريض على انتفاضة أكثر جذرية واتّساعا)، لن تجد الدوائر الاستراتيجية الأمريكية حرجا في ترتيب حروب سرّية أو علنية، وزعزعة استقرار دول ومناطق. في الحقيقة، تلكم هي الاستراتيجية المستخدمة في اليمن منذ انبعاث الحراك الجنوبي في العام 2007، وهي حركة تحرّر تسعى للانفصال عن دكتاتورية تساندها واشنطن. بعد وقت قصير من انبعاث الحراك الجنوبي، ظهرت القاعدة في اليمن، ما دفع إلى تدخّل عسكريّ أمريكي. هكذا، استخدم الجيش اليمني، الذي تسلّحه واشنطن وتدرّبه وتموّله، قدرته العسكرية في محاولة لسحق الحراك الجنوبي، إضافة إلى حركة التمرّد في الشمال.

مجمل القول، من المحتمل أن تمثّل «صحوة العرب» التحدّي الاستراتيجي الأكبر للهيمنة الأمريكية منذ عقود. ستكون النتيجة المرجّحة تطابقا لاستراتيجيات مركّبة ومتزامنة تتضمّن: «دمقرطة» وقمعا وتدخّلا عسكريا وزعزعة استقرار. مرّة أخرى، قد يكون بعيدا عن الصواب افتراض وجود استراتيجية واحدة لكامل المنطقة. الأرجح أن يتمّ التعامل على قاعدة كلّ بلد على حدة، المستندة إلى التطوّرات المتواصلة لـ»الصحوة» وما تحرزه من تقدّم.

استراتيجية مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي

يعتبر مجلس العلاقات الخارجية أحد أبرز مجالس الخبراء في الولايات المتحدة، وإحدى المؤسّسات المركزية لإعداد النخب الأمريكية من جميع قطاعات المجتمع الأساسية (الإعلامية والمصرفية والأكاديمية والعسكرية والفكرية والدبلوماسية ورجال الأعمال والمنظّمات غير الحكومية والمجتمع المدني، إلخ.)، حيث تعمل مجتمعة لتكوين إجماع حول القضايا الرئيسية المتّصلة بمصالح الإمبريالية الأمريكية حول العالم. وغالبا ما يقوم بوضع استراتيجية السياسة الأمريكية، ولديها نفوذ واسع في الدوائر السياسية، التي يأتي لاعبوها الأساسيون غالبا، إن لم يكن دوما، من صفوف المجلس نفسه.

في العام 2005، أصدر المجلس تقرير لجنة العمل حول الاستراتيجية الأمريكية الجديدة الخاصّة بالعالم العربي بعنوان: «مساندة الديمقراطية العربية: لماذا وكيف؟». ترأّست لجنة العمل مادلين أولبرايت وفين ويبر. كانت أولبرايت سفيرة واشنطن في الأمم المتّحدة خلال الولاية الأولى للرئيس بيل كلينتون ووزيرة للخارجية في ولايته الثانية. وقد لعبت بنفسها أدوارا حاسمة في التضليل والاستجابة لتفكيك يوغوسلافيا والإبادة الجماعية في رواندا والحرب الأهلية اللاحقة في جمهورية الكونغو الديمقراطية وما رافقها من إبادة جماعية، كما أنّها أشرفت على تنفيذ العقوبات التي فرضتها الأمم المتّحدة على العراق. في مقابلة استمرّت ستّين دقيقة في العام 1996، وحين سئلت عن العقوبات التي أدّت إلى موت أكثر من نصف مليون طفل عراقيّ تقلّ أعمارهم عن خمس سنوات، أجابت: «نعتقد أنّ الثمن يستحقّ ذلك».

كانت بدايات أولبرايت في جامعة كولومبيا، حيث قام بتدريسها زبينغو بريجنسكي، أستاذها الذي أشرف على أطروحتها. كان بريجنسكي، عضو مجلس العلاقات الخارجية، أحد مؤسّسي اللجنة الثلاثية بالاشتراك مع المصرفيّ ديفيد روكفلر في العام 1973. حين أصبح جيمي كارتر رئيسا في العام 1977، أحضر معه إلى الإدارة أكثر من عشرين عضوا من أعضاء اللجنة الثلاثية، وعيّن بريجنسكي مستشارا للأمن القومي. بعدها، عرض بريجنسكي عملا على أولبرايت ضمن طاقم مجلس الأمن القومي. كما كان لديه في طاقم المجلس عدّة مسؤولين أساسيين ومن ضمنهم: صموئيل هنتنغتون وروبيرت غيتس الذي أصبح لاحقا مساعدا لمستشار الأمن القومي ومديرا لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية، وهو اليوم وزير الدفاع في إدارة أوباما. وكما كتب ديفيد روتكوبف، العضو السابق في مجلس الأمن القومي في كتابه عن تاريخ مجلس الأمن القومي، «لا يزال موظّفو بريجنسكي في مجلس الأمن القومي إلى اليوم شديدي الإخلاص لرئيسهم السابق». تعمل أولبرايت اليوم في مجلس مديري العلاقات الخارجية ومجلس أمناء معهد أسبين، إضافة لكونها رئيسة المعهد الديمقراطي للشؤون الدولية، وهي منظّمة مكرّسة لتشجيع وتمويل «الديمقراطية» المدعومة أمريكيا في أرجاء العالم. ومؤخّرا، أصبحت أولبرايت رئيسة للجنة الناتو التي تطوّر «مفهوما استراتيجيا» جديدا للناتو خلال العقد القادم.

فين ويبر، الرئيس الثاني لتقرير لجنة العمل الخاص بالديمقراطية العربية، وهو عضو مجلس نوّاب سابق عمل في هيئة مجلس العلاقات الخارجية، كما أنّه عضو في مجلس الصندوق القومي للديمقراطية، المنظّمة المكرّسة «لتغيير النظم ديمقراطيا» في أرجاء العالم لتعزيز المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة. من الجليّ أنّها مجموعة ذات نفوذ مؤثّر من الأفراد والمصالح تقترح استراتيجية جديدة لأمريكا في العالم العربي، ما يجعل من توصياتها ليس مجرّد «مشورة» سياسية فحسب، بل مكمّلا لصياغة السياسة وأداة لتنفيذها. 

العالم العربي.. والديمقراطية

إذا، ما الذي يعرضه التقرير حول الديمقراطية في العالم العربي؟

يذكر التقرير أنّ «واشنطن تملك فرصة للمساعدة على تشكيل شرق أوسط ديمقراطي. حيث كان التشديد على الاستقرار سابقا هو السمة المميّزة لسياسة واشنطن الشرق أوسطية، تصبح الأولوية اليوم للديمقراطية والحرّية». يطرح التقرير سؤالين مركزيين يحاول الإجابة عليهما:

أولا، هل تخدم سياسة تشجيع الديمقراطية في الشرق الأوسط مصالح الولايات المتحدة وأهداف السياسة الخارجية؟. ثانيا، إن كان الأمر كذلك، كيف ينبغي أن تطبّق الولايات المتّحدة مثل هذه السياسة، مأخوذا بالحسبان المدى الكامل لمصالحها؟

كانت الإجابة على السؤال الأوّل: «نعم»، يخدم تشجيع الديمقراطية مصالح الولايات المتّحدة وأهداف السياسة الخارجية في الشرق الأوسط. يوضح التقرير: «على الرغم من أنّ الديمقراطية تستلزم مخاطر متأصّلة محدّدة، لكنّ التنكّر للحرّية يحمل مخاطر أكثر على المدى البعيد. إن كان بوسع المواطنين العرب التعبير عن المظالم بحرّية وبشكل سلمي، فسوف لن يتحوّلوا على الأرجح إلى ممارسات أكثر تطرّفا». مع ذلك، كان التقرير شديد الحذر تجاه مسار التغيير الديمقراطي، ومدركا لعدم الاستقرار المحتمل والمشكلات التي ستعترض المصالح الأمريكية.

«ينبغي أن تشجّع الولايات المتّحدة مؤسسات وممارسات الديمقراطية على المدى البعيد وتطوّرها، وأن تتنبّه إلى عدم إمكانية فرض الديمقراطية من الخارج وإلى أنّ تغيّرا مفاجئا وصادما ليس ضروريا ولا مرغوبا. ينبغي أن يكون هدف الولايات المتحدة في الشرق الأوسط تشجيع تطوّر ديمقراطي وليس ثورة ديمقراطية».

أكثر من ذلك، فهم يعلمون أنّ تشجيع الديمقراطية في الشرق الأوسط «يتطلّب استراتيجية تختصّ بكلّ بلد على حدة»، ما يعني عدم إمكانية وجود استراتيجية «ملائمة للجميع» ويجعل المسار في نهاية المطاف معقّدا بالتأكيد ومتزعزعا فعليا. المسار هو فعل توازن دقيق، إذ حدّد التقرير أنّه إذا كان تشجيع ديمقراطية أمريكا «سطحيا»، فقد «يسبّب الضرر للعلاقات بين الولايات المتحدة والسكّان العرب»، أو، إذا راحت الولايات المتحدة تدفع تجاه إصلاحات بكثير من السرعة، فمن المفضّل إجراء تغيير يتبنّى وجهة نظر تطوّرية وليست ثورية. المخاطر التي ترافق تغيّرا سريعا ستظلّ حاضرة، وكذلك فرصة خلق أساس متوازن وجديد لاستقرار العرب، وقاعدة أعمق وأقوى لصداقة بين الأمريكيين والعرب. وبلغة الدبلوماسية الأمريكية، «صداقة» يجب أن تقرأ بوصفها «تبعية»، هكذا نفهم هذه الاستراتيجية بوصفها تهدف إلى تشجيع تبعية أكثر موثوقية بين الأمريكيين والعرب.

مع ذلك، يعترف التقرير بالانقسامات العميقة داخل الدوائر السياسية حول تشجيع الديمقراطية في الشرق الأوسط، وما تتضمّنه من تصوّرات عن مخاطر محتملة وخوف من «تعريض مصالح الولايات المتحدة للخطر»، أو أنّها «قد تؤدّي إلى نزعات إثنية أو ظهور حكومات إسلامية تعارض الولايات المتحدة والغرب عموما». أبعد من ذلك، «إذا دفعت الولايات المتحدة القادة العرب بشدّة لتحقيق إصلاحات، مساهمة في سقوط حكومات عربية صديقة، فسيكون لذلك على الأرجح تأثير سلبيّ على ما تتمتّع به المنطقة من استقرار وسلام وعلى عمليات مكافحة الإرهاب».

قد يشير السيناريو الأخير إلى «خيار صدّام»، أي تحوّل من كان حليفا وثيقا لأمريكا إلى عدوّ جديد فجأة. سلّحت واشنطن صدّام حسين وساندته دوما، لكنّه حالما صار أكثر استقلالية عن سياسة واشنطن، انقلبت عليه وعرّضت به بوصفه «هتلر جديدا». تظهر حالة صدّام حسين أنّه حين ينقلب الدكتاتور، فسيتطلّب الأمر وقتا طويلا للتخلّص منه.

الاستبداد المباشر وغير المباشر!

لذلك، وبوجود عواقب كارثية محتملة تمسّ مصالح الولايات المتّحدة في تشجيع الديمقراطية في العالم العربي، يعلن المجلس موقفه بوضوح:

«بينما قد تؤدّي التحوّلات نحو الديمقراطية إلى عدم استقرار في المدى القصير، تجد لجنة العمل أنّ سياسة موجّهة نحو المحافظة على الاستبداد القائم في الشرق الأوسط ستعرّض مصالح الولايات المتّحدة وأهداف سياستها الخارجية إلى مخاطر أعظم... إذا سمح للعرب بالمشاركة بحرّية وبشكل سلميّ في العملية السياسية، فمن غير المرجّح أن يساندوا مواقف معادية للولايات المتّحدة..».

كانت مبادرة الشرق الأوسط الكبير (المعروفة أيضا باسم الشراكة من أجل التقدّم) دربا آخر، وقد ظهرت في قمّة الثماني التي انعقدت في العام 2004 وكان من أولوياتها «منتدى المستقبل» الذي «صمّم لرعاية الاتصالات المتعلّقة بقضايا الإصلاح». وقد عقدت جلسات ضمّت ناشطي المجتمع المدني، ورجال أعمال، وشدّدت على التنمية الاقتصادية وزيادة الوظائف. كما أنّ الشراكة من أجل التقدّم أسّست «الحوار الديمقراطي المساعد»، الذي ضمّ مؤسّسات التنمية في الشرق الأوسط، ومؤسسات مالية دولية (البنك الدولي وصندوق النقد الدولي)، «لتنسيق استعمال الموارد لمساندة التغير السياسي والاقتصادي». بكلمات أخرى، إنّه مسار تحاول أمريكا من خلاله ضمان أن يحافظ «التحوّل» الديمقراطي في العالم العربي على الهيمنة الاقتصادية والسياسية للولايات المتحدة والغرب. في الواقع، تغيير الشكل دون تغيير الجوهر، حيث تتبدّل صورة الدولة، لكنّ السلطة والهدف يبقيان على حالهما.

كما يوضح التقرير أهمّية وجود أوروبا كشريك في المشروع:

«على الرغم من تاريخ الهيمنة الاستعمارية الأوروبية، فتصوّرات العالم العربي عن أوروبا أفضل من تصوّراته عن الولايات المتحدة. وبالتالي، قد يكون مفيدا للاتحاد الأوروبي أن يقود عملية تعزيز حقوق الإنسان في العالم العربي».

أوصت لجنة العمل بأنّه من الأفضل ألاّ يأتي تمويل منظّمات المجتمع المدني العربي مباشرة من المؤسسات الحكومية الأمريكية، بل من خلال أقنية مجموعات تشجيع الديمقراطية الأمريكية مثل الصندوق القومي للديمقراطية، لأنّ «كثيرا من المنظمات غير الحكومية في الشرق الأوسط ترفض قبول تحويلات مباشرة من أحد أذرع الحكومة الأمريكية، خشية أن تتلوّث سمعتها في أعين مناصريها». في الختام، يعلن التقرير أنّه:

«على الرغم من أنّ السياسة المعلنة حول التغييرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في العالم العربي قد تعرّض مصالح واشنطن للخطر في المدى القريب، لكنّ الأمر يستحقّ المخاطرة. إذ إنّ المنافع بعيدة المدى لشرق أوسط أكثر ديمقراطية ومتطور اقتصاديا تفوق التحدّيات المحتملة التي قد تواجهها واشنطن في المستقبل المنظور». 

خلاصة أولية 

إنّ هذه الاستراتيجية لا تهدف إلى تشجيع الديمقراطية إكراما للديمقراطية والحرّية، بقدر ما تشكّل اعترافا بواقع هذه «الصحوة السياسية العالمية» والتصدّي لمعالجتها والتلاعب بها على نحو يخدم مصالح الولايات المتّحدة. إذا، نحن أمام سيناريو يشابه القول: «دعهم يأكلون البسكويت!». إذا صاح العالم العربي مطالبا بالديمقراطية والحرّية، فامنحوه الصنف المدعوم أمريكيا من الديمقراطية والحرّية، وبالتالي تتمكّن أمريكا من تقويض قوى ومطالب التغيير في المنطقة والاستيلاء عليها. إن حصل ذلك، فستكون نتيجته تهدئة مقاومة الهيمنة الأمريكية على المنطقة، وشرعنة حكومات دمى جديدة بوصفها «ديمقراطية» و«تمثّل» الشعب، ما سيخلق بالتالي بيئة مستقرّة وآمنة للمصالح الأمريكية. باختصار، إنّها استراتيجية متناسقة لمواجهة انبثاق صحوة سياسية عالمية في العالم العربي، وتهدئتها والتلاعب بها. إنّه انقضاض على صحوة العرب.

في مقالتي الأخيرة حول هذا الموضوع، عرّفت هذه الاحتجاجات بوصفها نموا عضويا، صرخة تعبئة للظفر بالحرّية في العالم العربي، من دون أن يعني ذلك استبعاد وجود مؤامرة أمريكية سرّية لتنصيب أنظمة جديدة. مع ذلك، يتطلّب الوضع مزيدا من الاختبارات الدقيقة والمستفيضة، ليس للتأطير داخل سياق أسود أو أبيض، بل في محاولة لتوضيح الوقائع والتحدّيات وفرص الصحوة والانتفاضات. 

*أندرو غيفين مارشال باحث مشارك في مركز أبحاث العولمة..