واشنطن في أوروبا ماذا عن المستقبل؟
ترجمة وإعداد: رنا مقداد ترجمة وإعداد: رنا مقداد

واشنطن في أوروبا ماذا عن المستقبل؟

تكتسي المنطقة الأوروبية أهمية بالغة بالنسبة للولايات المتحدة وطموحاتها في العمل كقوة عالمية. وتعود العلاقات بين الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية إلى القرنين السابع والثامن عشر، عندما بدأ المستوطنون الأوروبيون رحلتهم نحو «العالم الجديد»، حيث العلاقات التي نشأت بين هذه الكيانات العالمية لم تكن سياسية وعسكرية فحسب، بل أيضاً تاريخية واجتماعية.

ظاهرياً، تشترك دول أوروبا الغربية، بهذا الشكل أو ذاك، «القيم» المعلنة نفسها مع الولايات المتحدة، المتعلقة بـ«حقوق الإنسان والحريات والديمقراطية»، وغير ذلك.. لكن المصالح الأمريكية في أوروبا نمت بسرعة كبيرة بعد الحرب العالمية الثانية، وكذلك الاستقطاب الثنائي في العالم، عندما نظر إلى صعود الشيوعية والاتحاد السوفييتي في العالم بوصفه تهديداً وشيكاً لأوروبا، وبالطبع للقوة العالمية الصاعدة الجديدة في ذلك الحين: الولايات المتحدة.

بقلم: إيغور بيجيك*

 

تحوز المنطقة الأوروبية على ثلاثة جوانب رئيسية ترفع من أسهم أهميتها الجيوسياسية بالنسبة للولايات المتحدة. يشتمل الجانب الأول على القطب الشمالي أو ما تسمى منطقة الشمال العليا، وهي المنطقة التي تحتوي أراض (بحرية وبرية) تابعة لثمانية بلدان، ستة منهم في أوروبا، بما في ذلك روسيا. 

مع مرور السنوات، ترتفع أهمية المنطقة القطبية الشمالية في السياسة العالمية، ولا يعود ذلك فقط إلى وجود مخزون هائل من الموارد كالغاز الطبيعي والنفط، بل لأن تلك المنطقة ذات الكثافة السكانية القليلة، ومع ذوبان الجليد في القطب الشمالي، من شأنها أن تصبح معبراً ملاحياً رئيسياً، قادراً على أن يقلص طريق السفن من هامبورغ إلى شنغهاي إلى نحو 4000 ميل، ليشكل ذلك دفعة قوية لشركات النقل البحري في أنحاء العالم جميعها نحو تلك المنطقة التي تتقلص فيها أيضاً فرص وجود القراصنة. ولدى الولايات المتحدة السبيل الأفضل لخوض النزاع في هذه المنطقة من أوروبا، فدول الشمال تملك بنية تحتية جيدة، وخبرة في منطقة القطب الشمالي، كما أن قربها من روسيا يمكن أن يكون مفيداً في حال حدوث النزاع.

البلقان: روسيا هدف

يتمثل الجانب الثاني في إمكانية الوصول الأوروبي إلى الشرق الأوسط من خلال البلقان، فرغم أن البلقان مستقرة نسبياً بوجود صراعات شبه مجمدة فيها، إلا أن معظم دول «الناتو»، وبالطبع تركيا، الحليف الأكثر أهمية في هذا الجزء من أوروبا- يمكن أن توفر الدعم اللازم كله للوصول إلى منطقة الشرق الأوسط، ويمكن أن تضاف منطقة القوقاز، ومضيقا البوسفور والدردنيل، كنقاط جيوسياسية محط اهتمام كبير للولايات المتحدة.

ويتجسد الجانب الثالث بالبحر الأبيض المتوسط وشمال أفريقيا، حيث تقدم دول في جنوب أوروبا البنية التحتية البحرية الكبيرة، وقدرات إسقاط الأنظمة في أنحاء البحر المتوسط جميعها، كما يمكن أن تقدم هذه البلدان قاعدة الانطلاق للوصول إلى شمال أفريقيا، وهذا ما كانت ملاحظته ممكنة خلال السنوات الأولى من التحركات والحرب الأهلية في ليبيا. وتلك الجوانب المجتمعة، تجعل من المنطقة الأوروبية منطقة حاسمة بالنسبة للولايات المتحدة، خاصة أن الهدف من ذلك هو كبح جماح روسيا الصاعدة.

ألمانيا «خارج السرب»

إلى جانب المصالح الجيوسياسية الأمريكية، لدى الولايات المتحدة بعضاً من حلفائها الأقرب في أوروبا، كالمملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا. إذ تملك هذه الدول الثلاث قوة عسكرية واقتصادية كبيرة، كما تقود الاتحاد الأوروبي. وواحدة من أهم العلاقات الثنائية تقوم اليوم بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، حيث تشترك الدولتان بالكثير من المصالح المشتركة، وغالباً ما تكون حكومة المملكة المتحدة أول داعم لتصرفات الولايات المتحدة، العسكرية والسياسية على السواء، كما لدى الدولتان درجة عالية من التعاون العسكري والاستخباراتي، وحتى في مجال بعض التكنولوجيا النووية، بينما لا تزال فرنسا واحدة من أكثر أعضاء حلف «الناتو» إنفاقاً عسكرياً، بنسبة وصلت إلى 1.9% من ناتجها المحلي الإجمالي. وبوجود بنية تحتية جيدة، وصناعات عسكرية واسعة، وقدرات نووية، فإنه كان لدى فرنسا قوة ردع صلبة تعزز هيكل «الناتو» بأكمله. غير أن الأزمة الاقتصادية التي انعكست في خفض الوظائف في وزارة الدفاع، وانخفاض الميزانية العسكرية، أصابت الولايات المتحدة التي تعول على نهج عسكري أكثر نشاطاً لحلفائها في أوكرانيا والشرق الأوسط، بالإحباط.

وكقوة في أوروبا، لا تلتزم ألمانيا بالكامل في «الناتو» أو في التصرفات العسكرية للولايات المتحدة، ونسبة الـ1.3% من الناتج المحلي الألماني الإجمالي، المسمى إنفاقاً عسكرياً، غالباً ما يصرف إلى أجور الموظفين وإيجارات المباني.. إلخ، مما يؤدي إلى انخفاض التكاليف المدفوعة على المعدات العسكرية. وعلاوة على ذلك، خفضت الحكومة الألمانية عدد جنود الجيش من 205.000 إلى 185.000 جندي. كما تفتقر ألمانيا إلى القدرة على النقل الجوي التكتيكي والاستراتيجي، فيما تخطط الحكومة لخفض المشتريات، وتلجأ إلى القدرات المحدودة، مما سيؤثر غالباً على الجيش والقوى الجوية.

خمسينات القرن الماضي.. مضت

وصل الوجود العسكري الأمريكي في أوروبا ذروته في خمسينيات القرن الماضي، عندما كان هناك ما يزيد عن 450.000 جندي يعملون في أكثر من 1200 موقع. وبعد نهاية الحرب الباردة، تقلص الوجود الأمريكي بسرعة كبيرة إلى 213.000 جندي. وبعد ذلك في عام 1993، انخفضت إلى ما يقارب 112.000 جندي. أما اليوم، فقد انخفض العدد إلى 67.000 جندي أمريكي يتمركزون بشكل دائم في أنحاء أوروبا. ويمكن تصنيف البنية التحتية العسكرية والوجود العسكري الأمريكي في أوروبا (القيادة الأوروبية الأمريكية) في أقسام عدة.

وإلى جانب القدرات النووية الفرنسية والبريطانية، حافظت الولايات المتحدة أيضاً على عدد كبير من الرؤوس الحربية النووية في أنحاء أوروبا جميعها، فخلال حقبة الحرب الباردة، كان للولايات المتحدة ما يزيد عن 2500 رأس نووي في أوروبا. لكن بعد انتهاء الحرب، وتفكك الاتحاد السوفييتي، انخفض هذا العدد. ووفقاً لبعض التقديرات غير الرسمية، فإن للولايات المتحدة حوالي 150- 250 رأس حربي منتشر في إيطاليا، وتركيا، وألمانيا، وهولندا، وبلجيكا.

حدود الانهيار.. 

وسيناريوهات محتملة

على الرغم من أن الأزمة الأمريكية، وتراجع الهيمنة الأمريكية، قد أجبرا البنتاغون لتخفيض نفقات وجود قواته في الخارج، إلا أنه لا تزال هناك خطوطاً حمراء بالنسبة للولايات المتحدة، كالنقاط الاستراتيجية التي ذكرناها آنفاً، والتي وإن تراجعت القوة الأمريكية عالمياً، فإنها استراتيجياً مجبرة على الإبقاء على بعض من محددات قوتها كقوة عالمية، حتى وإن كانت تتراجع. فأوروبا ليست كما العراق أو أفغانستان، بل إن إزالة المزيد من القوات الأمريكية بات من شأنه أن يسرع في تغيّر موازين القوى الكبرى بشكل مؤذ جداً للولايات المتحدة. وكواحدة من ردود الفعل المحتملة على انهيار الهيمنة الأمريكية، فمن المتوقع أن تكون أوروبا الشرقية، وتحديداً دول البلطيق، هدفاً مستقبلياً للقيادتين الأمريكية والأوروبية. وفي طبيعة الحال، ستنعكس التطورات الاقتصادية والسياسية السيئة على واشنطن، من خلال محاولاتها لتهديد المصالح العالمية في مناطق أخرى، كبحر الصين الجنوبي، وشرق آسيا الأقصى، وشمال أفريقيا.

 

*إيغور بيجيك: بروفيسور في كلية العلوم السياسية، جامعة بلغراد، صربيا