محمد جمال باروت محمد جمال باروت

خلفية حركة الاحتجاجات في سورية.. أسئلة التنمية والديمقراطية: نهاية النظم التسلطيّة الملبْرلة  

  تشير حصيلة التجربة في بعض البلدان العربيّة، ولاسيّما مصر وتونس وسورية، إلى عدم وجود علاقةٍ ضروريةٍ بين التحريرية الاقتصاديّة (اللبْرلة) وبين التحريريّة السياسية، إذ إنّ عملية التحرير يمكن أن تتمّ في إطار تسلّطي سياسي ينتج نموذج اللبْرلة التسلطية التي تضفي على التّنمية الطابع التسلّطي وتقصيها عن الديمقراطية. وهذا ما يميّز التسلّطية الملبْرلة عن الدّمقْرطة. وعلى هذا النحو ثمّة فارق جليّ بين التحوّل اللّيبرالي (الاقتصادوي) والتحوّل الدّيمقراطي، وبين «اللبْرلة» و«الدمقْرطة».

هناك أهميّة للتّمييز بين ثلاثة مفاهيم في العلاقة بين التّنمية والديمقراطية في العالم العربي لفهم خلفيّة حركة الاحتجاجات والثّورات الجديدة التي لا تزال تشهدها أكثر من دولة عربيّة. وهذه المفاهيم هي «الإصلاح» و«التحرير» (التلبْرل) و«الدمقْرطة». وينهض هنا الالتباس بين مفهوميْ «الإصلاح» و«االتلبْرل» الذي يعود، بدرجة رئيسة، إلى شيوع مفهوم المؤسّسات الدوليّة للمطابقة بين عمليّتيْ «الإصلاح» و«التلبْرل» وتعميمها تحت مصطلح برنامج الإصلاح الاقتصادي والتّكيّف الهيكلي.

وهذا البرنامج، في حقيقته، ليس برنامج «إصلاح» بل برنامج «لبْرلة» اقتصادوي، تشكّل الليبراليّة الجديدة مرجعيّته، وتتركّز أولويّاته على إعادة هيكلة الاقتصاد باتّجاه تحريره أو لبْرلته، وتحوّله إلى نظام اقتصاد السّوق المندمج أو القابل للاندماج في الاقتصاد العالمي بعد إعادة هيكلته، أكثر ممّا تتركّز على ربط التحوّلات الاقتصاديّة بقضيّة التّنمية البشرية. وقد تمّ تطبيقه نمطياً في جميع الدّول العربيّة التي طبّقته بطريقة «الوصفات» أو «الجرعات» و«الحقن» التي يضطلع فيها الخبراء بوظيفة الأطبّاء بالنّسبة إلى «الأجسام المريضة».

 

الإصلاح والدمقْرطة والتنمية

لا يقود الإصلاح المؤسّسي التّنموي بالضّرورة إلى التحوّل الديمقراطي، فهو قد تمّ في دول غير ديمقراطية سياسياً، لكنه يؤثّر فيه من طريق عقْلنة العلاقة بين الدولة والمجتمع، وإعادة تنظيم البنيات الاقتصادية- الاجتماعية وإصلاحها، ليشمل إدخال تغييرات جوهرية فيها. إنّ التوزيع العادل نسبياً للسّلع العمومية (المنافع العامّة)، مثل التربية والصحّة والضّمان الاجتماعي، ومضاعفة حصّة الفرد من الناتج المحلّي الإجمالي، ومحاولة التّشغيل الكامل لقوّة العمل، وبناء قدراتها، كلّها عناصر أساسيّة تساهم في تعزيز العلاقة بين التّنمية والدّيمقراطية، إذ تعتبر تلك السّلع من العناصر الأساسيّة للديمقراطية الاجتماعية. وعلى سبيل المثال، فإنّ جودة التعليم في تلك النّظم توفّر الأدوات اللاّزمة للفرد كي يصبح مواطناً قادراً على استيعاب حقوقه الديمقراطية وممارستها. إنّ المشاركة والمساءلة والشّفافية عناصر مشتركة بين المؤسّسية التنمويّة والديمقراطية. والمؤسسية التي ترسخ قواعدها في حياة الدولة تيّسر عملية التحوّل الديمقراطي أمام الدّيمقراطيين وتختصره، وحين يتم التحوّل الديمقراطي بفعل ديناميات الثورة أو ديناميات تغيرية أخرى فلا مفر، في حال النقص المؤسّسي، من أن تترافق عملية بناء النظام الديمقراطي مع بناء النظام المؤسّسي في صيغة النظام المؤسّسي الديمقراطي، الذي يدمج عضوياً قضايا الإصلاح بمعايير الحكم الصالح، وهي معايير ديمقراطيّة بالضّرورة.

يتمثّل الأثر الصافي للإصلاح المؤسسي في قضيّة الدمقْرطة في تعزيز بناء الدولة الحديثة التي تشكّل المواطنة وحقوقها السياسية والاجتماعية مبدأَها الأساسي. إذ لا يقف عند حدود الإطار النّظري والعملي الاقتصادي الجزئي (Micro-economique) لليبراليّة الاقتصادوية أو لفاعلية المنشأة (قياس الجودة، إدارة المشاريع، معايير حوكمة الشّركات، بيئة الاستثمار، المشاريع المتوسّطة والمتناهية في الصغر... إلخ)(4)، بل يستوعب هذه الفاعليّات، ويتخطّاها في الوقت نفسه إلى الإطار الاقتصادي الكلِّي (Macro-economique) والاجتماعي والقانوني، معيداً تقويمها بوضعها في هذا الإطار عبر الإدارة الدّيمقراطية والشفّافة للسوق باسم المصالح العامّة للمجتمع، وعبر التوافق التفاوضي بين الأطراف الاقتصاديّة والاجتماعية وفق فلسفة «الملعب المستوي»، وليس وفق مصالح لاعبين بأعينهم من شريحة «رأسمالية الحبايب والقرايب» فعلياً. ولذلك يفرض الإصلاح المؤسّسي نفسه على النظم كلّها في مرحلة ما قبل التحوّل الدّيمقراطي أو خلالها أو بعدها، بمعنى أنّ الإصلاح المؤسّسي حلقة جوهرية أساسيّة في عملية الدمقْرطة.

يُبنى نموذج الإصلاح أو الإصلاح المؤسسي مرجعياً، كما تمّ في دول شرق آسيا وحتى ولو تمّ في إطار غير ديمقراطي، على التنمية البشرية التي تربط النموّ والتنمية، بالتمكين والتحرير، وبناء القدرات البشرية لقوّة العمل بتحقيق معدّلات نموّ اقتصادي مرتفعة. وتشكّل بذلك حلقة ضمنيّة في تدعيم عناصر التحوّل لاحقاً إلى الديمقراطية. فقد بيّنت نتائج عمليّة بناء القدرات البشريّة أنّ معامل التنظيم المؤسّسي يمكن أن تضيف نقطة أو نقطتين مئويتين إلى معدّل نموّ الناتج المحلّي الإجمالي من دون الحاجة إلى القيام باستثماراتٍ ماديّةٍ ملموسةٍ على نطاقٍ واسعٍ.

ما هو مشترك بين التجارب المصريّة والتونسية والسوريّة في عمليّات «التلبرل» الاقتصاديّة في إطار آليّات ضبط تسلّطية هو اختزال عمليّة الإصلاح المؤسّسي إلى عمليّة تحريرٍ أو لبْرلةٍ اقتصادية، وتطبيق سياسات الإصلاح الاقتصادي للمؤسسات الدولية وبرامجه بروح «وفاق واشنطن» التقليدي، وليس حتى بروح «وفاق واشنطن الموسّع». بإمكان النظم التسلّطية المتلبْرلة في العديد من دول العالم أن تحرّك معدّلات نموّ اقتصادي مقبولة، بل ويمكن في شروط معيّنة أن تكون هذه المعدّلات مرتفعة، فقد حقّقت تونس مثلاً معدّلات نموّ مرتفعةً قياساً على معدّل النموّ السكّاني، كما حقّق النظام العسكري السابق في البرازيل معدلات نموّ تفوق10%، لكنها تفضي، في ظلّ هشاشة المعامل المؤسّسي، إلى اختلالات التّنمية على المستوى المناطقي بين المراكز والأطراف، وتخفق في التّوزيع المنصف للدّخل، وتفاقم فجواته، وارتفاع معدّل الفقر والبطالة في الأقاليم، واتّساع حجم الفئات الضعيفة والهشّة والمهمّشة، وتساقط ثمار النموّ في سلّة حفنةٍ من رجال الأعمال الجدد من «رأسماليّة المحاسيب» و«الحبايب والقرايب». ولهذا امتزجت في كافة الثّورات والاحتجاجات التي اندلعت في العالم العربي، ولاسيّما حركات وثورات تونس ومصر وسورية التي تشترك فيما بينها بخصائص النّظم التسلطيّة الملبْرلة، قضايا الحريّة بقضايا العدالة والإنصاف الاجتماعية، واسترداد حقوق المواطنة السياسيّة والاقتصادية والاجتماعية التي صادرتها النظم التسلّطية، والمحكومة بأجهزة الاستخبارات والقوانين الاستثنائية. إنّ التنمية تغدو حليفاً استراتيجياً للديمقراطية في حالةٍ واحدةٍ فقط حين تكون قد أنجزت مرحلة الإصلاح المؤسَسي التي تمهّد الطريق لتحوّل ديمقراطي آمن.

أفرزت العلاقة بين التحوّل الليبرالي والتحوّل الديمقراطي في هذا السّياق ثلاثة أنماط تميّز ما هو مشترك فيها، أي نمط النّظم التسلّطية الملبْرلة، وهي: النمط المصري، ويتمثّل في قيام نظام تسلّطي مركزي يسمح بقدر معيّن ومضبوط من حرّيات الصّحافة والتجمّع وتأليف الأحزاب والجمعيّات بما لا يُدخل تغييرات جوهريّة على البنية التسلّطية الحاكمة، في إطار نمط الحزب التسلّطي المسيطر؛ والنمط التونسي الذي يتمثّل في قيام نظام تسلّطي (بوليسي) متلبرلٍ اقتصادياً، ويحرّك معدّلات نموّ جيّدة في إطار مركزية رئاسيّة عائليةٍ وقرابيةٍ ومحسوباتيّة تقوم على تأميم المجتمع المدني، وعلى تمثيليّة محدودة من أحزاب الموالاة، لكنه يخفق في التّوزيع المنصف للدّخل، وفي التنمية المناطقيّة. أمّا النّمط الثالث فهو النّمط السوري الذي انطلق في العشريّة الأخيرة من مرجعيّة خطاب الإصلاح المؤسّسي المنفتح على معايير الحكم الصالح، في صيغة إصلاح مؤسّسي ذي عناصر ديمقراطية، ثمّ تمَّ اختزاله في عملية «لبْرلة» يقودها تحالف البيروقراطيّة مع شريحة رجال الأعمال الجدد التي أعيد تكوينها لهذا الغرض، وترسيم هذا الاختزال سياسياً تحت عنوان «التحديث والتطوير» كسقف لحدود العلاقة بين التلبْرل وقضية التحوّل الديمقراطي، في إطار ما يمكن أن نطلق عليه اسم «حزب الواحد والنصف» (الجبهوي). وبهذا الشكل اختزلت التغييرات الجوهريّة التي تنطوي عليها عمليّة الإصلاح المؤسّسي في تعديلات بسيطة لا تغيّر شيئاً من البنى والدّيناميات التسلطيّة الحوكمية المسيطرة، ومن علاقاتها الزبائنية النمطيّة الموروثة من المرحلة السّابقة.

 

التجربة السورية: من تفسيخ التوتاليتارية إلى التسلطية الملبْرلة

ما يدعوه الاقتصاديون إعادة هيكلة اقتصادية، هو ما يدعوه السوسيولوجيون عمليّة تغيير اجتماعي، والأنثروبولوجيون عمليّة تغيير ثقافي. ويعني ذلك أنّ عمليّة إعادة الهيكلة وإن كانت، في المنظور الاقتصادوي عمليّة اقتصادية، إلاّ أنها في العمق عمليّة تغيرٍ اقتصاديةٍ - اجتماعيةٍ - ثقافيةٍ تفرز أنماطاً جديدةً من السلوك والحياة ومن التغيّرات الكبيرة في شتّى زوايا الحياة الاجتماعيّة.

في إطار هذا الفهم فإن عملية إعادة الهيكلة الاقتصادية- الاجتماعية- السياسية التحريرية في العشريّة الأخيرة وما رافقها من العولمة، وإرغامها كافة اللاعبين على «التعولم»، أدّت إلى تفكيك الخصائص الشّمولية ( التوتاليتارية) التي اكتسبتها الجمهورية الشعبوية البعثية في فترة (1984 -2000) إبان المواجهة الدامية بين السلطة والجماعات الإسلامية المسلّحة في الثمانينيات (1976 -1983). وبحلول نهاية العشريّة الأولى كانت معظم هذه الخصائص قد انحلّت وتفسّخت، أو خمدت جراء عوامل موضوعيّةٍ وذاتيّةٍ مركّبةٍ.

كان أبرز ما تفسّخ من السّمات الشمولية (التوتاليتارية) السابقة، هو نموذج «القائد الكاريزمي» المؤسّس على أيديولوجيا وطنيّةٍ وقوميّةٍ رساليةٍ، والذي يمثّل في شخصيّته وحدة الحزب والدّولة والمجتمع، وتفسّخ احتكار الدولة للاتّصالات والإعلام والاقتصاد بما في ذلك تفسّخ احتكارها سياسة المحاصيل والتّسويق في القطاع الزراعي بوتائر مختلفة، والتخلّي عن مبدأ احتكارها التعليم بتحريره وفتحه بمختلف مراحله أمام استثمارات القطاع الخاصّ، بحيث تحوّلت الدولة من مسيطر على بعض هذه المجالات إلى مجرد لاعب بين لاعبين آخرين منافسين لها يمتلكون مصادرَ جديدةً في قوّتهم الاجتماعيّة والسياسيّة.

اقترنت عمليّة التفسّخ الموضوعيّة (آثار ثورة الاتصالات وتعولم العالم) والتفسيخ (السياساتية) بحدود معيّنة للآليات التوتاليتارية السّابقة، وفي حدودٍ ومجالات معيّنة لبعض الديناميات التسلطيّة الصّرفة مع رفع وتيرة التّحرير أوالتلبْرل، بانحلال العقد الاجتماعي - السّياسي - الاقتصادي المرجعي بين سلطة الحزب والمجتمع بوصفه دستورياً «الحزب القائد للدولة» من جهة، و«المجتمع» من جهة أخرى، والتحوّل من نظام «الاشتراكية» إلى نظام «اقتصاد السوق الاجتماعي»، ومن مفهوم «البورجوازية» إلى مفهوم «رجال الأعمال» ما يمكن وصفه بخضوع أيديولوجيا الحزب- الدولة إلى عملية إحلال أيديولوجي متلبرلة الشكل، وإعادة تعريف الأدوار الاجتماعية لكلٍّ من الدولة والحزب والقطاعات العامّة والخاصّة والمنظّمات وغرف الأعمال... إلخ، وإدخال تعديلات جوهريّة على وظائفها ومكانتها، وإدماج أدوار جديدة للاعبين اقتصاديّين- اجتماعيّين جدد في عملية التّحرير أو التلبرل.

 في عملية إعادة تعريف الأدوار ظلّ الحزب رسمياً «قائد الدولة والمجتمع»، لكن الدّور الأساسي للقيادة القطرية تراجع وتغيّر لمصلحة اللجنة السياسية العليا التي انحصر دورها في العمل اليومي مع المنظّمات الشعبية والمهنية «الكوربوراتية» (التضامنية)، كما رفعت الحصانة السياسية عن القيادات الحزبية وقيادات الفروع في حال ارتكاب مخالفات أو استغلال نفوذ تستدعي التحقيق معهم أو مثولهم أمام القضاء. لقد تغيّرت المكانة، وهي معلم من معالم تغيّر القوّة.

 تغيّر أدوار اللاّعبين

يفهم تغيّر أدوار اللاّعبين على أنه نتيجة عملية تغيّر اجتماعي، وبوصفه كذلك فإنّ الأدوار كما في المسرح، شخصيات تتوارى وتظهر ضمن قواعد اللعبة المسرحيّة لعلاقات القوّة الاجتماعية والسلطة، وهي في ذلك تغيّر مواقع النّفوذ والتأثير، وتُعلي منزلة لاعبين معيّنين، بينما تحطّ من منزلة بعضهم الآخر. كان أبرز اللاّعبين الجدد أولئك الذين ينتمون إلى قوى السوق في مرحلة تغيّر العلاقة جوهرياً بين القطاعيْن العامّ والخاصّ، بحيث غدا لممثّلي القطاع الخاصّ، وبشكل أكثر تحديداً لرجال الأعمال الجدد وشركاتهم القابضة التي مثّلت بوّابة دخول الاستثمارات إلى سورية، «صوت مسموع» ومؤثّرٌ في استراتيجيات الهيمنة الأيديولوجية. فحتّى أواخر العقد المنصرم تمّ منْح تراخيص لأكثر من 192 مطبوعة ثقافية - إعلامية - اقتصادية. وتمّ منح ترخيص لــ 13 إذاعة تجاريّة خاصّة، باشر العمل منها 12 إذاعة، وظهرت محطّتان تلفزيونيتان، استمرّت واحدة منهما يملكها عددٌ من كبار رجال الأعمال السّاعين إلى التأثير في السّياسة وفي تشكيل الرّأي العام، وهي محطّة «الدنيا». والجوهري في ذلك هو الارتباط بين عمليّة تحرير الإعلام وبين دور القطاع الخاصّ فيه، وإعادة تعريف دوره بوساطته نفسه كقطاع يعمل في إطار قواعد اللعبة من أجل ذاته، إلى درجة طرح فكرة دمج رجاله الكبار في الحزب على غرار تجربة لجنة السياسات في الحزب الوطني المصري السابق، ووضع شبكة الإعلام الخاصّ في فضاء النّشاط الاقتصادي والاجتماعي لرجال الأعمال ولاسيّما الجدد منهم وغرفهم وعشاءاتهم ولقاءاتهم وأفكارهم ومشاريعهم، وطقوس مهابتهم، ومحاولتهم الاضطلاع بدور نجوم الرّأي العام. ويقترب التّداخل بين هذا النّشاط ودمج عدد من المثقّفين والصّحافيين والشّخصيات الاجتماعية والسّلطوية البارزة، من روحية اجتماعات (الروتاري) القائمة على دمج الشّخصيات العامة برجال الأعمال في إطار رؤيةٍ (روتاريةٍ) كانت قد مثّلت رؤيةً مسبقةً للتعولم.

كانت تلك محاولة لإعادة تعريف دور الحزب وحلفائه «الجبهويين» المتحدين معه (حزب الواحد والنصف) في سياق ما أفرزته عملية «التلبرل» من تغييرٍ في أوزان الأدوار الاجتماعية ومكانتها في تراتبية العلاقة بين مصادر القوّة وسياسات السّلطة المتلبرلة، ومحاولة إعادة هيكلة وظيفته على أساس «الفصل» بينه وبين الحزب، بحيث يضطلع الحزب بالوظيفة السياسيّة وحدها، بينما تعمل أجهزة السلطة التنفيذيّة وفق أصولها من دون تدخّل حزبي في يوميّاتها على أساس الوظيفة التنفيذية. وعلى الرغم من أنّ هذه الصّيغة أخفقت، ووجدت معارضة من الحزب، فإنّها طرحت أوّل مرّة، تحديد دور الحزب على جدول الأعمال، في محاولة لفضّ مشكلات التشابك والتداخل والتراكب بين الحزب والدولة على أساس تحديد الوظائف و«فصلها». وطُرح على بساط البحث التخلص من قيادة الحزب للدولة والمجتمع التي غدا كثير من مؤشّراتها رمزياً وقطاعياً لمصلحة قوى السّلطة والمال بالمعنى الضيّق. وحدث الشّيء نفسه حتى قبل اندلاع الأحداث الأخيرة في شأن تحديد وظائف الأجهزة الأمنية الأربعة التي كانت تتدخّل في أيّ شيء أكان في نطاق وظائفها أم لا.

 من نظام تسلطي شعبوي «صلب» إلى نظام تسلطي «مرن»

نتج من عملية إعادة تعريف أدوار اللاعبين الاجتماعيين- الاقتصاديين- السياسيين في مرحلة التلْبرل توليد نظامٍ جديدٍ تسلطي متلبْرلٍ، يشكّل «رجال الأعمال الجدد» قاطرته في الاستثمارات والتحالف مع الاستثمارات الخارجية، لرفع معدّل النموّ الاقتصادي. لم ينسف هذا النظام الوليد البنية المؤسسية «الكوربوراتية» الشعبوية التقليدية للتسلّطية البيروقراطية المؤلّفة من منظمات الحزب الشعبية بدرجة أساسيّة لكنه أضعفها كثيراً. لقد كانت «الكوربوراتية» التقليدية الحزبية والمنظّماتية ملازمةً لنظام الحكم البيروقراطي التسلّطي القديم، وتشكل منظومته في احتواء القطاعات الشعبية، وإدماجها في ديناميات المشاركة السياسية والمجتمعية، وأدوات ضبطه السياسي والاجتماعي. بينما تعزّز دور هيئات القطاع الخاص المؤسّسية التقليدية (غرف التجارة والصناعة) التي انتعشت حياتها المؤسّسية الداخلية، وباتت تشهد حياة انتخابية تنافسيّة مضبوطة عموماً برضاء مراكز القوى التّسلطية، واشتداد الصّراع الانتخابي بين قوائمها، وبرز فيها ظاهرة «العشاءات الانتخابية»، كما ظهرت هيئات مجتمع مدني جديدة مرتبطة بأقوياء المجتمع مثل مجالس رجال الأعمال، ورجال الشّركات القابضة، والتي عملت فعلياً كـهيئاتٍ منظّمةٍ تتمّ في داخل قنواتها الصّفقات، وتحديد «الكعكات» الاستثمارية وتقاسمها.

 يمكن القول في سياق المقارنة بين النموذج البيروقراطي التسلّطي (الكورربوراتي) القديم وبين النظام التسلّطي (الملبْرل) الجديد إنه قد حدثت تعديلاتٌ جوهريّة في شدّة قوّة التسلّطية طوال العشريّة الأخيرة، من تسلّطية «صلبة» أو «قاسية» شعبوية محافظة و«منغلقة» مفرطةٍ في استخدام حالة الطوارئ، وأكثر اعتماداً على أهل الثّقة من اعتمادها على أهل الكفاءة، وذات خصائص شموليّة، إلى تسلّطية مرنة أو ليّنة منفتحة نسبياً وأكثر عصريّة وحداثةً وانفتاحاً وقابليةً للتعولم وأدنى «عقائدية» من التسلطية «الصلبة»، وأقلّ منها في اللجوء إلى استخدام حالة الطّوارئ، بدليل تقلّص الاعتقال السّياسي في «المرحلة الصلبة» إلى اعتقالٍ بالعشرات في المرحلة «الليّنة» (ما قبل اندلاع الأحداث الأخيرة). وبينما كان الموقوفون يعتبرون من الناحية الشكلية في حكم مجهولي المصير من دون محاكمةٍ في المرحلة «الصلبة» فإنّ السلطات باتت تقدّمهم إلى محاكمَ علنيةٍ في المرحلة «المرنة»، بغضّ النّظر عن مدى عدالة الأحكام التي تصدرها هذه المحاكم، وصارت تتعامل مع الأقوال والأفكار المرتبطة بالرّأي كجناياتٍ تطبّق عليها بشكل متشدّدٍ ومفرطٍ الأحكام القانونية. وبينما كان الانتساب إلى جمعيّات حقوق الإنسان وهيئاتها يجرّم بوصفه انتماءً إلى جمعيات سرّية، تمّ غضّ النّظر نسبياً عن النّشاط الإعلامي لهذه الجمعيّات والمنظّمات غير المرخّصة أو المسجّلة قانوناً. وبالمقارنة بين النّظامين التسلطيّين الصّلب والمرن شكّل نشوء نظام تسلّطي مرن خلال سنوات العقد الماضي نوعاً من عقلنةٍ وضبطٍ للتسلّطية، يتداخل فيها «حوض» كبير لمصالح اللاّعبين الاقتصاديّين- الاجتماعيّين النازلين والصّاعدين في مرحلة تغيّر أدوارهم. وفي الخلاصة حرّر النّظام من السّمات الشمولية لكنه عصْرَن الخصائص التسلّطية، مع بقاء هياكلها القديمة التي تآكلت وظائفها متعايشةً مع هياكل وتنظيمات جديدة في طور التكوّن.

 

 

■ مقتطف من دراسة «العقد الأخير في تاريخ سورية: جدلية الجمود والإصلاح» (ج4)