خلفية حركة الاحتجاجات في سورية.. الأزمة القائمة.. والأبعاد والدلالات والتّحالفات التي سبقتها
تشترك الحركات الاحتجاجية التي دشّنها المشهد التونسي بين أواخر العام 2010 ومطالع العام 2011 في ردّة الفعل على سياسات إعادة الهيكلة والخصخصة في الثمانينيات (تظاهرات الأردن في العام 1989، وتظاهرات الجزائر والمغرب وتركيا في العام 1990)، بينما تختلف عنها في بروز مطالب الديمقراطية وحقوق المواطن، ودمجها بشكل عضوي بالمطالب الاجتماعية بما يمكن تكثيفه تحت اسم الحقوق الاجتماعية والسياسيّة للمواطن.
إطار تاريخي قريب
لقد أفضت حركة الاحتجاجات الأولى إلى انتزاع تنازلاتٍ سياسيةٍ ذات طابع انفتاحي ديمقراطي من النّظم العربية الحاكمة التي واجهها اندلاع هذه الحركات. وتمثّلت هذه التنازلات في توسيع رقعة استواء الملعب السياسي. وحتى نهاية العام 1992 كانت الكويت واليمن وتونس والجزائر وسورية قد أجرت انتخاباتٍ نيابيةً، كما شكّل أمير البحرين مجلساً استشارياً، وعمّ حراك المثقفين ولا سيّما «حركة الحقوق الشّرعية» أوساط الفئات الوسطى في المملكة العربية السعودية. وترافقت هذه الحركات الاجتماعية مع عملية تغيّر العالم، وإطلاق آليّة عولمته بعد نهاية الحرب الباردة. وفي هذه الفترة انهارت المنظومة السوفياتية ثم انهار النّظام السوفياتي نفسه، ووقعت حرب الخليج الثانية.
كانت وضعية سورية في هذا السياق وضعية دولةٍ خرجت للتوّ، بفضل حرب الخليج الثانية، من العزلة الإقليمية العربية والدولية، واستعادت مكانتها كدولةٍ إقليميةٍ، كما تحوّل نظام الحكم الذي كان مهدَّداً بمحاولة التطويق من الداخل في آذار 1989 بفعل التحالف بين ياسر عرفات وميشال عون والمعارضة السورية في الخارج، ومن خلفهم العراق إلى نظام قويّ بعد إحباط القيادة الداخلية للتجمع الوطني الديمقراطي مؤامرة «مؤتمر جنيف» ( آذار 1989) بسحب الشرعيّة عنها، وإسقاطها سياسياً جراء افتتاحيّة في نشرة التجمع.
اقتصرت حدود إصلاحات الرئيس حافظ الأسد السياسية على الإفراج عن عددٍ كبيرٍ من المعتقلين السياسيّين، وانتخاب مجلس شعب في أيار 1990 وزيادة عدد مقاعده من 195 إلى 250 مقعداً لتوسيع تمثيل المستقلّين الذين نالوا ثلث المقاعد تقريباً، بينما خصّص للبعث 137 مقعداً، و31 مقعداً لحلفائه الجبهويين (جبهة حزب الواحد والنصف). ويمكن تمييز المجموعات الفرعية التالية في مجموعة المستقلّين: صناعيّون ورجال أعمال تمّ تيسّر وصولهم كتعويض مطالبهم بتأليف حزبٍ للفاعليات الاقتصادية، وممثلو الأكراد القريبون من حزب العمال الكردستاني (PKK) الذي كان متحالفاً مع السلطة، ووجهاء تقليديون، وبعض النخب المهنية المدينية الحديثة، وبعض النّخب العلمائية المستقلّة نسبياً لكنها مسايرة للنظام أو قابلة للعمل في إطار قواعد لعبته(29). ثم أصدر الأسد قانون تشجيع الاستثمار في العام 1991 الذي شكّل نقطة دفعٍ كبيرةٍ للقطاع الخاصّ للتوسّع، ونهاية «عصر الـتأميم».
عبّرت عملية زيادة عدد أعضاء مجلس الشعب عن توسيع مسرح اللعبة السياسية التي تتمّ بكاملها في إطار القواعد العامّة للنّظام السياسي القائمة على الاستيعاب، أكثر ممّا عّبرت عن تحويله إلى «برلمان» بالمعنى الدّيمقراطي. فالنّظام الدستوري السوري يقوم، من وجهة نظر القانون الدستوري، على الفصل بين الوظيفتين: السّياسية (تتولاّها القيادة القطرية بحسب المادّة الثامنة من الدستور التي تنصّ على أنّ حزب البعث العربي الاشتراكي هو قائد الدولة والمجتمع)، والإدارية (مجلس الوزراء كتجسيد للهيئة التنفيذيّة العليا)، وعلى «التفريق» بين السّلطات وليس على «الفصل» بينها.
باستثناء العام 1997 الذي أنجز فيه الأسد اتّفاق مبادئ مع جماعة الإخوان المسلمين يتضمّن عودة الجماعة إلى سورية، وتمثيلها بحزبٍ إسلامي ينضمّ إلى الجبهة، أحبطته أجهزته السياسية والأمنية، لم تشهد التّسعينيات أيّة محاولةٍ للانفتاح السياسي. وبعد انتقال السّلطة في العام 2000 كانت هناك فرصة سانحة لتوسيع الإطار السياسي المؤسسي، لكنها هدرت في سياق هدر فرصة الإصلاح المؤسّسي الذي كان يمكن أن يفتح الباب أمام عملية التحول الديمقراطي في غضون العشريّة الأولى. وكانت هذه الأجهزة قد غدت منذ «محنة الثمانينيات» سيّدة الدولة، أي «أصحاب الحكم»، وتحوّلت معها الدولة السورية إلى نمط من أنماط «الدولة الأمنيّة» في علاقاتها الخارجية-الداخليّة مع لبنان، أو المتغوّلة بشكل مفرط في علاقة الدّولة مع المجتمع.
هشاشة الدولة
وصل برنامج التحرير الاقتصادي التسلّطي في السّنوات الثلاث الأخيرة من العشريّة المنصرمة إلى مفرق الأزمة، وأنتج ما أنتجه في شروط وقوع الأزمة الماليّة الدولية، وآثار موسم الجفاف في سورية، كارتفاع الفجوة على مستوى الاختلال في التّنمية المناطقيّة، وارتفاع معدّل الفقراء، وازدياد تشوّهات توزيع الدّخل، وإفلاس مئات المصانع الصّغيرة والمتناهية في الصّغر بفعل تحرير التّجارة الخارجية، وتركّز رأس المال السّوري في قبضة «المئة الكبار» من مؤسّسي الشّركات القابضة الكبرى، وارتفاع معدّل البطالة، ونشوب هجرة بيئيّة داخلية قاسية ناتجة عن الجفاف، وارتفاع معدّل الفساد الصغير والكبير في الدولة، وانكشاف شبكات فساد بيروقراطية «مافيوزية» في بعض المحافظات كانت تعمل منذ سنوات كمنظّمة نهب سريّة للدولة، وتُوزّع الغنائم على أطراف الشبكة الضاربين جذورهم في مواقع السلطة، وبروز هشاشة أجهزة العدالة في القبض على المطلوبين بموجب مذكراتٍ غير منفذةٍ، علاوة على ركود وظائفها.
على خلفية هذا التدهور استعادت الأجهزة الأمنية فاعليّتها، وارتفعت وتائر تدخّلها في أجهزة الحكم وشؤون الحياة اليومية باسم التّحقيق في قضايا وشبهات فساد، وقامت أجهزة وزارة الداخلية بين أواخر العام 2010 وأوائل العام 2011 بأكبر حملةٍ لها ضدّ المطلوبين الفارّين من العدالة بسبب التّواطؤ بين الأجهزة البيروقراطيّة وبينهم لقاء الرّشى. وكانت الحملة شديدةً، وذات طابع بوليسي، وسمّمت الحسّ بالأمن في الحياة اليومية، ووضعت المدن في مناخ الطّوارئ الاعتباطي من جديد، لأنها شملت حتّى الذين ارتكبوا مخالفات بسيطة، وتمّت خارج القنوات القضائيّة في التوقيف. كما اتّبعت وزارة المالية سياسة المداهمات للمنشآت الصناعيّة والمكلّفين بهدف الحصول على الدفاتر المحاسبيّة الدّقيقة، وفرض ضريبةٍ واقعية تحلّ مكان الضريبة/ الصفقة بين موظّف الماليّة وبين المكلّف التي تكشف العيوب البنيوية للنّظام الضّريبي، ما أبرز الحكومة وكأنها تعمل كحكومة أشخاص وليس كحكومة دولة أو مؤسّسات، بينما حدث فراغٌ نسبي في القدرات التّعبوية الحزبية نتيجة حلّ قيادات الفروع الحزبيّة، وتشكيل لجانٍ انتخابيةٍ «حياديةٍ» للإشراف على الانتخابات الحزبية. يضاف إلى ذلك انكشاف نتائج النموّ التسلطي المرتبط بدعوى زائفة للتحرير الاقتصادي، وارتفاع درجات الحرمان والفقر المادّي والبشري والبطالة وهشاشة الأمن الإنساني بوتائر ومعدّلات كبيرة، وارتفاع وتائر الهجرتين الخارجيّة والدوليّة في المناطق الشّرقية والطرفية الجنوبية وفي معظم المدن المتوسّطة والصّغيرة الطرفية.
كشف ذلك هشاشة الدولة، لا قوّتها، لأنّ اللجوء إلى القوّة المباشرة من خلال الأجهزة «الصلبة» هو تعويض الهشاشة البنيوية للدولة المتمثّلة في شيخوختها المؤسسية، واستشراء الفساد الصغير والكبير في أجهزتها، ومبادلة تسهيل المعاملات بالارتشاء، وتعيّش كثير من موظفيها على هذه الرّشى مع ضعف حسّهم بالواجب.
لقد حكمت هذه الخلفيّة الاجتماعيّة- الاقتصاديّة اندلاع حركات الاحتجاج الحادّة في المدن الصّغيرة والمتوسّطة والكبيرة السوريّة، وطرحت أسئلةً حادةً عن نهاية حقبةٍ كاملةٍ من نموذج النموّ التسلّطي الملبرل. وعبّرت عن نفاد الصبر من تسلّطية نظام قديم غدَا هشاً في بنيته المؤسّسية، بينما بات هذا النّظام غير قابل للاستمرار وفق ديناميّاته السّابقة، ووهنت استراتيجيّاته في الهيمنة، وتقوّضت قواعد عقده الاجتماعي فما عاد النّظام قادراً على الحكم بالوسائل القديمة من دون أن يتحوّل إلى قوّة قمع عاريةٍ، كما صار المجتمع غير قابل لاستمرار الانصياع له من دون تغيير جوهري في بنياته. وهي حركاتٌ احتجاج على عشر سنوات تحقّق فيها بعض نقاط القوّة في معدّلات نموّ اقتصادي جيّدة نسبياً، ونقاط الضعف التي تمثّلت في عدم توازن التنمية واختلالها المناطقي، وتكديس ثمار النموّ في قبضة الأقوياء وحفنةٍ من رجال الأعمال أو حفنة «المئة الكبار». الذين ينتمي كثير منهم إلى «أصحاب الأعمال» بالمعنى السلبي وليس إلى رجال الأعمال بالمعنى الإيجابي، وهم أقرب إلى ما أطلق عليهم في روسيا للسخرية «الشبّان الرائعون». وجرى خلال هذه العشرية التحوّل من الوعود المؤسّسية الإصلاحيّة التي تفتح أفق التّحوّل الدّيمقراطي لمصلحة نموّ تسلّطي ملبرل يغلق هذا الأفق، ويزيد المهمّشين تهميشاً، والفقراء فقراً، والدّيناميات السياسية والحوكميّة تسلّطاً.
تحضر هذه الخلفيّة الاقتصادية- الاجتماعية كخلفيةٍ أساسيةٍ في فهم الحركات الاحتجاجيّة الأخيرة التي اندلعت في المدن السورية منذ التّجمهر العفوي لاندلاع أولى بؤرها متمثلةً في حادثة الحريقة (19 شباط 2011) في قلب مدينة دمشق التاريخية التي تسجّل بدء انطلاق حركة الاحتجاج وانتشارها وحتّى أواخر أيار 2011.
التحالف الاستراتيجي بين الشّركات القابضة
ورأس المال الخليجي والأجنبي
كشف نشاط الشركات القابضة عن ارتفاع وتيرة تعولمها واندماجها برؤوس الأموال الخليجية والأجنبية من خلال صيغ التحالف الاستراتيجي. ويمكن القول إنّ النخب القويّة في القطاع الخاصّ السوري، والمؤسّسة لهذه الشركات، قد دخلت في دورات هذا التحالف بوساطة نخبتها القائدة الصّاعدة في الشركات القابضة التي تنفّذ مشاريعها بالتّحالف مع رؤوس الأموال تلك. ولا تخلو «دهاليز» هذا التّحالف من أبعاد «ريعيّة» غير «مرئيّة»، بين الاستثمارات الخليجية والأجنبية وبين الشركات القابضة باعتبار أنّ هذه الأخيرة هي التي حصلت على الموافقة الحكومية لإقامة هذه المشاريع. فلقد احتلّ أقوياء الشركات القابضة، النّافذين في وسط البيروقراطية الحكومية الصانعة للسياسات والقرارات، مكانة «بوّابة» الاستثمارات المتدفّقة، للاستثمار في سورية، وتسهيل تمرير مشاريعها، وضمان أرباح مرتفعة لها بشكل مسبق، وتخريج صيغ متعددة للتشارك المتبادل المصالح معها تحت اسم التحالف.
يمكن اعتبار التحالف دينامية اجتماعية، أي سيرورة وعمليات. ويمثل التحالف بهذا المعنى دينامية اجتماعية لمبادلة المصالح الاستثمارية/ الخدمية، فهي دينامية تسهل التعقيدات البيروقراطية أمام الاستثمارات، وجني أكبر قدرٍ ممكنٍ من خدمات الدولة. ولا تخلو هذه الدينامية من ريعية ضمنية للخدمات التي تقدّمها نخب الشركات القابضة للاستثمارات الحليفة. ويتأسّس هذا النوع من «دهليزية» المصالح لرؤوس الأموال الخليجية في الاستثمار السياحي في سورية بحكم تنوّع الموارد السياحية السورية على مستوى العرض، وارتفاع الطلب السياحي عليها. فقد جذبت سورية في العام 2005 نحو 77% من إجمالي السياحة العربية البينية التي تصل إلى نحو 40%. وشكّل ذلك أحد عوامل فتح شهيّة رؤوس الأموال تلك للاستثمار في سورية وجنْي أرباح كبيرة وسريعة. وبشيءٍ من توسيع مفهوم مركز العجلة وأذرعها وتكييفه [hub-and-spoke effect]، فإنّ الاستثمارات الخليجية والأجنبية تمثّل مركز العجلة، بينما تمثل الشركات القابضة أطرافها بمرتبة حلفاء. ولأنّ تحالفها ما فوق وطني أو فوق قومي فإنّها تمثّل في الوقت نفسه ديناميةً من ديناميات التعولم في المجال الخدمي.
أمّا في المجال السلعي، وعلى الرغم من أنّ سورية ليست حتى الآن طرفاً في المنظومة الأورو- متوسطية أو في منظّمة التجارة العالمية، فقد قطعت شوطاً كبيراً في تأهيل اقتصادها للتكيّف مع معايير تلك الشراكات، بل إنّ الشراكة السورية- التركية التي جرى تطويرها إلى مجلس تعاون استراتيجي صارت تمثّل نموذجاً مصغّراً مطوّراً عن اتّفاقية الشّراكة الأورو- متوسطية. وفي هذا السياق حقّقت سورية أهمّ ديناميات التعولم وهي تحرير التجارة الخارجية التي تنعكس على المجالات الخدمية [المرتبطة بقيادة نخب الشركات القابضة] والسلعية [المرتبطة بالقطاع الصناعي الإنتاجي السلعي].
وتؤدّي ديناميات التعولم المتسارعة إلى تحويل سريع للنمط التنموي السّوري من نمطه التاريخي أي «الموجّه إلى الداخل» إلى نمط «التوجّه إلى الخارج، وينعكس ذلك في دينامية من ديناميات التّحالف والاندماج بين الصناعة السورية وبين رأس المال الخليجي والأجنبي الذي يعمل في مجال الإنتاج السّلعي، لكنها تتّسم بدورها بعدم تكافؤ الثّقل بين مركز العجلة وأطرافها. ويمكن فهم انتشار نمط «العقد من الباطن» فهماً يتخطّى الأبعاد الاقتصادوية في ضوء مفهوم عدم التكافؤ بوصفه من ديناميات التعولم. وعلى الرغم من أن التعاقد من الباطن يشمل في الحقيقة مجالات الإنتاج كلها بما في ذلك الزراعة التعاقدية وصادرات الخدمات والسلع، فقد بات شائعاً لجوء الشركات المنتجة للخدمات والسّلع إلى تطبيق استراتيجيات دولية متكاملة في إنتاج الخدمات من خلال تجزئة عمليات إنتاج الخدمات وتنفيذها في عدّة بلدان. وفي النّمط السوري وفي سياق تشابكات الأسواق والتكاملات الإقليمية، فإنه يرتبط بشكل خاصّ بتولّي مركز العجلة استقطاب المشروعات الصغيرة والمتوسطة التي تتّسم بالمهارة وبالقدرة على التكيّف مع مواصفات الشركات المتعاقدة. ويختلف مستثمرو هذه المشاريع عن المستثمرين في الشركات القابضة في أن تكوينهم السوسيولوجي- الثقافي قد تمّ أساساً في فضاءات اجتماعية-ثقافية تقليدية، بينما تطوّر تكوين مستثمري الشّركات القابضة في فضاءٍ حديثٍ قابل للتعولم ومعولم. لكن نمط «التعاقد من الباطن»، بما هو دينامية تعولم «تبعيّة» ومتبادلة المصالح، يمكن أن يفضي إلى تغذية راجعةٍ تنطوي على شحنةٍ متعولمةٍ جديدةٍ في التكوين التقليدي لأولئك المستثمرين.
يشتغل النّمط الشّائع لهذا النظام بالتّصنيع بقصد التصدير، وينطوي على جوانبَ إيجابية من ناحية التطوّر التقاني، واكتساب مزايا تنافسية نسبية. وإذا كان هذا الأسلوب قد ارتبط تقليدياً بالتصنيع الذي يعتمد على كثافة عماليّة، فإنّ اللاّمركزية واللاّرأسية في حلقات الإنتاج العالمية تفضيان بصورةٍ أساسيةٍ إلى استخدامه في شراء أو تصنيع حلقات منتجات متخصّصة تعتمد على الكثافة التقانية، أو من خلال إصدار التراخيص ومنح العلامات التجارية، أو من خلال إقامة بعض العمليات مقابل الحقّ في استخدام العلامة التجارية وترخيص استخدامها، وهو أمر شديد الأهمية في استراتيجية التسويق التي تشكل العلامة التجارية إحدى أبرز محدداتها. وتتمثل الدلالة الجوهرية لهذا النوع الاستثماري في زيادة اندماج الاقتصاد السوري بنيوياً في سلاسل الإنتاج في الاقتصاد العالمي، وفي تحوّل هذا الاندماج إلى علاقةٍ داخليةٍ أو سمةٍ بنيويةٍ من سمات الاقتصاد السوري يزول فيها كثير من مقيّدات ثنائيات الداخل والخارج، ويغدو مفهوم «الصناعة الوطنية» فيها ضعيفاً أو يتلاشى في اقتصاد عالمي متكامل ومندمج وموزّع الحلقات. وفي الآونة الأخيرة أخذ شيوع هذا النمط ينتشر في إطار التكامل السوري- التركي. وتتمثّل حركته الأساسية السائدة في سورية في تراتبيةٍ على مستوى القوّة بين «معلّم» متعاقد [مركز العجلة] من الخارج مع «صانع» ماهر متعاقَد معه من الداخل [أذرع العجلة].
محاولة تركيب
شكّل مشروع الإصلاح المؤسّسي حين اختزل في تحرير اقتصادوي، الإطار السياساتي الذي أُعيدَ فيه تشكيل طبقة رجال الأعمال السورية، وبروز شريحة رجال الأعمال الجدد الذين شكّلوا «شركات قابضة» لقطف ثمار الاستثمارات الكبيرة المتدفّقة على سورية في مرحلة الفوائض المالية الخليجيّة. وقد برزت فاعليّة هذه الشّريحة في قيادة التوسّع في مجال القطاعات العقارية والسّياحية والمالية الخدميّة من قطاعات الخدمات الإنتاجية، عبر «التّحالف» مع رؤوس الأموال الخليجيّة والأجنبية وفق قاعدة مركز العجلة وأذرعها. وقام تشكيل نخب قطاع الأعمال على أساس «متعولم»، الذي سرّع وتائر عملية التعولم الداخلية للاقتصاد السوري، وتكيّفه مع السياسات التحريرية «الليبرالية» الجديدة في ضوء منظور يقول إن «تحرير التجارة والخدمات يقود النموّ». ويمثّل تشكيل هذه الشّريحة بهذا المعنى أحد أبرز إفرازات عملية إعادة الهيكلة الجارية في المجتمع السوري، والتي تتخطّى الأبعاد الاقتصادوية لعملية إعادة الهيكلة إلى الأبعاد الاجتماعية والأنثروبولوجية والثقافية والرمزية والعمرانية في ديناميات عملية «التغيير الاجتماعي» الجارية في سورية. وقادت هذه الشّريحة بما في ذلك شركاتها الفرعيّة وشركات مؤسّسيها، عملية النموّ الاقتصادي في سورية خلال النّصف الأخير من العشرية الأولى في القرن الحادي والعشرين، وجذب الاستثمارات إليها، وساهمت، على الرغم من سنوات الجفاف وتأثيرات الأزمة المالية الدولية المباشرة وغير المباشرة في الاقتصاد والمجتمع السوريّين، في تحقيق معدّلات نموّ اقتصادوية معقولة. لكن تشوّهات توزيع الدّخل من الناتج المحلّي مثّلت الوجه الآخر لهذا النموّ. فما هي حصيلة النموّ الاقتصادي خلال تلك الفترة وفترة العشريّة الأولى؟ وما دورها في إنتاج الفقر؟ وما العوامل التي تحكّمت في ارتفاع نسبة مَن هم تحت خطّ الفقر في سورية؟