أزمة اليورو... أين وصلت؟ وما هي مآلاتها النهائية؟!

  يشكل البناء المؤسساتي (institutional construction) للوحدة الاقتصادية لدول منطقة اليورو أحد أهم العناصر الفاعلة في  أزمة اليورو, من حيث كونه يشكل قصراً في عملية التكامل الاقتصادي لدول منطقة اليورو, ومن حيث كونه بناء نيوليبرالياً (ليبرالياً مالياً) شرع الباب على مصراعيه لتثبيط عوامل النمو داخل الاقتصاد الأوروبي. إن المشكلة الأساسية للبناء الأوروبي تتجلى في عدم وجود حكومة اقتصادية واحدة (ميزانية) ذات حجم كاف، قادرة على تأريض وامتصاص آثار التفاوت البنيوي والجاري (conjunctural) بين اقتصادات دول منطقة اليورو، مما جعل هذا الاتحاد النقدي وسيلة لاستغلال دول المحيط الأوروبي من جانب المركز, ولتعميق استغلال الرأسمال الأوروبي لكل الطبقة العاملة في أوروبا. والمقصود بدول المركز الأوروبي هو تلك الدول المصدرة المتقدمة صناعياً وتكنولوجياً، وعلى رأسها ألمانيا, بالمقابل فإن دول المحيط تتمثل باليونان والبرتغال واسبانيا وايرلندا بشكل أساسي..

السياسات النقدية

 مع تبني اليورو كعملة واحدة فقدت الدول المشاركة استقلاليتها وإدارتها الذاتية لسياساتها النقدية حيث تم اعتماد سياسة نقدية واحدة لكل دول منطقة اليورو. وتم إيلاء سلطة إدارة هذه السياسة للبنك المركزي الأوروبي كمؤسسة فوق وطنية, و«مستقلة» عن كل سلطة سياسية (بنك الخبراء). إن البنك المركزي الأوروبي يدير السياسة النقدية على أساس المتوسط في منطقة اليورو ككل، ورسم هذه السياسات على أساس المتوسط يعني عمليا أنها سترتسم على أساس أوضاع الاقتصادات الكبرى (تحديداً ألمانيا) لأنها الوحيدة التي تملك الحجم والوزن الكافي المحددين لاتجاه هذه السياسات, إذ يشكل الدخل الوطني الألماني البالغ ٢.٥ ترليون يورو، أكثر من ربع الدخل الوطني لمنطقة اليورو البالغ ٩.٢ ترليون يورو عام 2010. هذا ما يفسر مثلا نسبة التضخم المستهدفة من جانب المركزي الأوروبي (الذي مركزه في مدينة فرانكفورت الألمانية) والمتمثلة بـ2%، لتعكس النسبة المستهدفة في ألمانيا سابقا و«المناسبة» لحالتها الاقتصادية. إذاً، تبني سياسة نقدية واحدة يعني نظرياً أن جميع الدول فقدت الاستقلالية والإدارة الذاتية لتلك السياسة, إلا أن إدارة هذه السياسات حسب المتوسط يعني عملياً استبداد الدول الكبرى بإدارة هذه السياسة على حساب دول المحيط.

إن تبني سياسة نقدية واحدة في ظل معدلات تضخم متفاوتة بين دول منطقة اليورو (دول المركز تتمتع بنسب تضخم منخفضة عكس دول المحيط التي تتمتع بنسب تضخم مرتفعة) انعكس بمعدلات فائدة حقيقية متفاوتة ما بين الدول المشاركة، مما عزز التفاوت بطبيعة واتجاه الأداء الاقتصادي فيما بينها. إذ كانت السياسة النقدية الواحدة ذات طابع انفجاري في دول المحيط, حيث انخفضت معدلات الفائدة الحقيقية تحت الصفر أو جاورته، مما دفع نحو انفجار الطلب المحلي في دول المحيط, هذا الطلب الذي موَّل عبر الاقتراض، وانعكس نفخاً في الفقاعات العقارية وانفجارا في معدلات الدين الخاص، وهو ما شكل مقدمة أزمة الديون السيادية.

 البنك المركزي الأوروبي

لعب ما فرض من قصر في وظيفة البنك المركزي الأوروبي دوراً هاماً في آليات الأزمة الحالية وإطلاق يد الأسواق المالية ومضاربيها بالتحكم في معددلات الفائدة المفروضة على سندات الدين العام، حيث منع عليه إقراض الحكومات أو التعامل مع ديونها وتنقيدها, مما رهن الحكومات الأوروبية لربقة الأسواق المالية, التي باتت المصدر الوحيد للاستدانة العامة, فانتعش سوق المضاربة على سندات الدين الحكومية والمشتقات المالية المتعلقة بها. أما «الاستقلالية» السياسية المفترضة للبنك المركزي الأوروبي (بنك الخبراء)، والتي فرضت بحجة ضمان عدم استخدام السياسة النقدية لدوافع سياسية تتعلق بالانتخابات, بحيث يتم تطبيق سياسات توسعية عشية الانتخابات لرفع أسهم الحزب الحاكم عند جماهير المقترعين, ومن ثم تطبيق سياسات انكماشية بعد الانتخابات الأمر الذي يؤثر على استقرار الاقتصاد.. إن هذه الاستقلالية تجلت في الممارسة تخلياً للدولة عن الدور الاجتماعي تجاه أغلبية المجتمع, وارتباطاً وثيقا بمصالح رأس المال المالي، حيث قدم البنك المركزي الأوروبي تسهيلات ائتمانية للبنوك الأوروبية لم يسبق لها مثيل، مما انعكس بتسارع نمو حجم أعمالها وأصولها عبر سنين تبني اليورو, مقابل امتناعه عن تمويل الدين العام. هذه الحقيقة تغدو شديدة الوضوح على ضوء أزمة عام 2008 حيث شارف عدد من البنوك الأوروبية على الإفلاس, وردا على ذلك قامت الدول بتطبيق خطط إنقاذ للقطاع المصرفي على حساب أموال دافعي الضرائب, وقدم المركزي الأوروبي تسهيلات بالسيولة كبيرة جدا لهذه القطاعات اذ خفض معدل الفائدة على اقراض البنوك ل 1%. بالمقابل وازاء أزمة الديون الحالية (التي هي نتيجة أزمة المصارف كما سنبين لاحقا) رفض المركزي الأوروبي تقديم أية مساعدة حقيقية للدول الأوروبية المشارفة على الإفلاس !!! مقابل تطبيق خطط التقشف التي تهدف إلى تحميل الطبقات الكادحة المنتجة وزر الأزمة. إذا تبين الوقائع بان فكرة الاستقلالية السياسية للبنك المركزي ليست سوى غطاء أيديولوجي يهدف إلى التغطية على حقيقة تخديم هذا البنك لراس المال وقمعه للدور الاجتماعي للدولة تجاه أوسع الشرائح الاجتماعية.

السياسات المالية

على عكس السياسات النقدية, بقيت إدارة السياسات المالية مسؤولية وطنية، ولكنها تخضع للقيود المعرَفة باتفاقية الاستقرار والنمو (التي تعتبر بمثابة النظام الداخلي للاتحاد الأوروبي). هذه الاتفاقية تمنع على الدول الأوروبية (ليس فقط دول منطقة اليورو) أن يتجاوز دينها العام نسبة 60% من الدخل الوطني ونسبة العجز في ميزانيتها 3% من الدخل الوطني، كما منعت على البنك المركزي وعلى الدول الأعضاء أن تقوم بعمليات إنقاذ للحكومات ذات مستويات المديونية المرتفعة من خلال ما يسمى بـ bail out. إن المنطق الكامن وراء هذه الممنوعات هو الرغبة بجعل اليورو عملة عالمية وبالتالي خطورة أن تقود إحدى الدول الأوروبية سياسات توسعية ترفع مديونيتها وعجزها لنسب تهدد قيمة اليورو العالمية.

ولكن مقابل فرض القيود على الدين العام, لم يتم فرض أية قيود على الدين الخاص الذي يتحول، وتحول فعلاً إلى دين عام أثر انفجار الفقاعات العقارية واندلاع الأزمة الاقتصادية العالمية 2007، ليتبين مرة أخرى الطابع الاجتماعي للبناء المؤسساتي الأوروبي, حيث تم إطلاق العنان للدين الخاص (الذي بلغ نسب خيالية في دول المحيط) وبالتالي لاستثمارات رأس المال المالي في ديون الطبقات الشعبية والوسطى. هذا من ناحية, ومن ناحية أخرى تم تكبيل الدين العام عمليا في أي إنفاق اجتماعي تنموي مقابل تسخيره في خدمة إنقاذ رأسمال المصارف عشية إفلاسها.

إن تبني سياسة نقدية واحدة دون وجود حكومة اقتصادية (ميزانية واحدة) خلق منطقة نقدية ذات طابع تنافسي فيما بين الدول المشاركة في منطقة اليورو، وعزز المواقع التنافسية لدول المركز مقابل سلب دول المحيط أداتها النقدية التي تساعدها على تحسين تنافسيتها من خلال سعر الصرف. إن عوامل التنافسية البنيوية بقيت على حالها إن لم نقل تعمق فيها التفاوت التاريخي بين دول المحيط ودول المركز. هذه العوامل التي تتجلى في التخصص العالمي ومستوى التطور الصناعي والتقني. أما عوامل التنافسية الجارية التي يظهر التعبير الأخير عنها من خلال سعر الصرف الحقيقي, فقد ساعد البناء الأوروبي على زيادة التفاوت فيها لمصلحة دول المركز، إذ أن اختلاف سعر الصرف الحقيقي لليورو من بلد لآخر, يتبع لاختلاف مستويات الأسعار المحلية بينهما..

العامل الأخر الهام والذي يلعب دوراً في تشكيل مستويات الأسعار والذي يستخدم كأحد مقاييس التنافسية هو التكلفة الاسمية لوحدة العمل. هذه التكلفة ارتفعت بمستويات عالية جدا في دول المحيط، حيث كان نمو سعر وحدة العمل في المحيط أسرع من نمو إنتاجية العمل, بالمقابل بقيت تكلفة وحدة العمل الاسمية شبه ثابتة في دول المركز الأوروبي، والمترافقة مع سرعة نمو بالإنتاجية أعلى منها. بناء على هذه الحقيقة يستنتج الاقتصاديون الليبراليون بأن سبب الأزمة في منطقة اليورو هو مستويات الأجور العالية في دول المحيط, في حين أن المشكلة الحقيقية تكمن في مكان آخر، هو مستويات الأجور المنخفضة في دول المركز الأوروبي (مستويات الأجور مقارنة بالإنتاجية). تتوضح هذه الحقيقة تحديداً في الاقتصاد الألماني, حيث انخفضت نسبة نمو الأجور (المعدلة بالتضخم) 0.11 % خلال سني وجود اليورو مقابل نمو بالإنتاجية بنسبة 1.57 % بين 1999 و2007. على صعيد منطقة اليورو كانت نسبة نمو الأجور خلال الفترة نفسها هي 2.6% في حين أن المفترض أن تكون 3.1% أخذين بعين الاعتبار معدلات نمو الإنتاجية ومعدل التضخم, أي أن العمل قد خسر من حصته في الانتاج مقابل رأس المال الذي رفع حصته, ليتبين مرة أخرى الطابع الاجتماعي للسياسات الاقتصادية الأوروبية بما تمثله من إفراز لسلطة رأس المال.

النتيجة..

إن التزايد في التفاوت بالتنافسية, في منطقة من أكثر مناطق العالم تكاملاً بالتبادل التجاري, انعكست صورته على وضع الحساب الجاري (الذي يجمع الميزان التجاري وحساب رأس المال) للدول المشاركة في منطقة اليورو. حيث ازدادت فوائض الدول صاحبة الفوائض أصلاً (ألمانيا تحديداً) وازداد عجز الدول صاحبة العجز أصلاً. وفي العموم فإن تحقيق عجوزات وفوائض في الحساب الجاري لدول منطقة اليورو ليس بالظاهرة الجديدة، إلا أنه تسارع خلال سنين تبني اليورو، إذ ازداد المجال بين أكبر فائض وأكبر عجز من (-5 إلى 7 % من الدخل الوطني) عام 1998 إلى (-14 إلى 8 %) عام 2007. حيث سجلت بلدان المركز الأوربي (النمسا بلجيكا ألمانيا فنلندا هولندا وفرنسا) فوائض في الحساب الجاري بلغت بالترتيب 1,47%, 3,20%, 5,78%, 3,08%, 5,53%, 0,5%. بالمقابل سجلت دول المحيط (اليونان، إيرلندا، إيطاليا، إسبانيا، البرتغال) عجزاً بلغ على الترتيب -8,60%, -2,0%, -1,30%, -9,14%, -5,88% وذلك في الفترة الواقعة بين 1999-2008.

أخذت ألمانيا في أوروبا دور الصين عالمياً، حيث تحولت إلى «ورشة أوروبا» من ناحية الإنتاج, إذ تبلغ صادرات ألمانيا إلى دول منطقة اليورو ما يعادل ثلثي المجموع الكلي لصادراتها. وقد اعتمدت ألمانيا في دفع صادراتها على انتعاش الطلب في دول المحيط الأوروبي. هذا الانتعاش الناتج ليس عن زيادة حقيقية في الدخل الوطني لتلك الدول وإعادة توزيعه لمصلحة مكونات الطلب, وإنما أتى انتعاشه كإحدى نتائج السياسات النقدية الواحدة التي تجلت انخفاضا في سعر الفائدة الحقيقي لما تحت الصفر، الأمر الذي خلق الشروط الملائمة للنفخ في الفقاعات العقارية في هذه الدول، حيث ارتفعت أسعار العقارات في الفترة الواقعة بين 2002 و2007 بنسبة 80% في إسبانيا و45 % في ايرلندا, وتسارع نمو الدين الخاص بنسب مرعبة ليشكل جزءاً أساسياً من الطلب على إنتاج المركز الأوروبي إذ بلغت نسبة نمو القروض إلى الاقتصاد الحقيقي 20% ما بين 2002 و2007 مقابل حالة ركود في هذه النسبة في بلد مثل ألمانيا, وقد بلغ معدل استدانة الطبقات الوسطى 100% في ايرلندا والبرتغال واسبانيا.

 الجدير بالذكر بأن مصادر تمويل هذه الفقاعات هي نفسها فوائض دول المركز (بشكل أساسي) والمحققة نتيجة التبادل التجاري داخل المنطقة (إلا فرنسا التي لم تحقق فوائض جدية ولكنها لعبت دور وسيط مالي). أي أن الأرباح التجارية لرأسمال المركز والمحصلة نتيجة التفاوت بالتنافسية لمصلحتها, تم توظيفها كاستثمارات مالية على شكل قروض مقدمة لدول المحيط.

 أزمة الدين العام

خلال الفترة الواقعة بين 2000 و2007 لم يتجاوز الدين العام في دول منطقة اليورو الحدود المنصوص عليها في اتفاق الاستقرار والتنمية. إلا أن الحال ما لبثت أن تغيرت على أثر الأزمة الاقتصادية العالمية وأزمة المصارف التي طالت المصارف الأوروبية, حيث تجاوز متوسط العجز في منطقة اليورو لـ6.3 %, 14.7% في ايرلندا و5 % في ألمانيا. إذ أنه على أثر مشارفة العديد من البنوك على الإفلاس قامت حكومات دول منطقة اليورو بتطبيق خطط إنقاذ للقطاع المصرفي. هذه الخطط تم تمويلها من خلال رفع الدين الحكومي (الدين العام) وهنا تم انتقال الدين الخاص إلى دين عام, بالإضافة إلى ارتفاع المصاريف الاجتماعية للحكومات الأوروبية نتيجة ارتفاع معدلات البطالة وانخفاض مداخليها من الضرائب نتيجة حالة الكساد التي دخلها الاقتصاد, الأمر الذي أدى إلى ارتفاع معدلات العجز في الميزانية.

تعبر هذه الأزمة عن أزمة نمط الإنتاج الرأسمالي حيث أن التوزيع غير العادل للثروة يؤدي إلى فيض في رأس المال الإنتاجي, رأس المال هذا يبحث عن توظيفات ذات «ربحية» عالية وهو الأمر الذي يتم تأمينه عبر النفخ في الفقاعات المالية والعقارية.

 القطاع المصرفي وعدوى الأزمة

إن وجود (دورة مالية) بين بلدان المحيط وبلدان المركز, يتم من خلالها تحويل لرؤوس الأموال من دول المركز نحو المحيط على شكل قروض وديون قد انعكس بانكشاف كبير وخطير لبنوك ودول المركز على بنوك ودول المحيط بسبب ارتفاع معدلات الرفع المالي. حيث أن الانكشاف المصرفي هو تعبير اقتصادي يعبر عن العلاقة بين الأصول الحقيقية للبنوك (رأس مالها, حقوق ملكيتها) وأصولها على شكل ديون عند الآخرين. اذ بلغ مقدار انكشاف بنوك دول المركز على بنوك ودول المحيط 1.4 (مليار) دولار. وبلغ مقدار رؤوس أموال هذه البنوك 0.6 مليار عام 2008 (هذا الرقم متوافر لهذا العام فقط), أي أن مستوى انكشاف بنوك المركز على بنوك المحيط يبلغ 2.6 مرة من حجم رأسمالها الحقيقي.

 يبلغ مقدار ما تملكه ألمانيا من مجموع سندات الدين الاسبانية المملوكة بالخارج 24 % و30 % من البرتغالية و15 % من اليونانية أما فرنسا فتبلغ حصتها من الديون السيادية الاسبانية 24 ٪ و30 % من البرتغالية و26 % من اليونانية. إن ارتفاع مخاطر عدم سداد الديون السيادية وعدم مقدرة مديني دول المحيط على سداد قيمة ديونهم يعني انخفاض في قيمة أصول مصارف المركز الأمر الذي سيؤدي إلى أزمة مصرفية جديدة ستطال اقتصادات العالم أجمعه هذا ومن ناحية. من ناحية أخرى ستجبر الأزمة المصرفية دول المركز على التدخل بخطط انقاذ للقطاع المصرفي سترفع الدين العام لديها لتصبح أزمة الدين العام أزمة شاملة تطال معظم دول منطقة اليورو. الأمر الذي يبين فداحة أزمة اليورو الحالية وعمقها ومخاطرها ليس على الدول الأوروبية وحسب وإنما على الاقتصاد العالمي ككل.

 

«المعالجات» الأوروبية تسرع انفجار الأزمة

 الإجراءات الرسمية التي اتخذتها الإدارة الأوروبية جاءت لتزيد من تعقيد مشكلة الدين العام، إذ راحت تفرض خطط التقشف من أجل تحقيق فائض في الميزانية يسمح بحل أزمة الدين. الخلل الأساسي في هذه الإجراءات هو أنها تتعامل مع نتيجة الأزمة وظاهرها كما لو أنه سبب الأزمة. هذا من ناحية, ومن ناحية أخرى إن خطط التقشف كما تثبت التجارب عاجزة عن حل مشكلة الدين العام، لا بل إنها تزيد من تسارع نمو هذا الدين. فالخروج من أزمة الدين العام يتطلب كسر آليات زيادته والخروج من ما يسمى بلغة الاقتصاد (تأثير كرة الثلج). إن كسر هذه الآليات يعتمد على العلاقة بين معدل النمو الحقيقي, ونسبة مبالغ خدمة الدين العام (الفوائد التي تدفع على الدين العام) إلى الدخل الوطني. فإذا كان الأول أعلى من الثاني تكون معدلات الدين العام بانخفاض, والعكس صحيح.

إذاً، من أجل الخروج من دوامة الدين العام وازدياده لابد من تطبيق سياسات اقتصادية تعمل على حفز معدلات النمو, وبشكل أساسي سياسات مالية انفجارية, أي سياسات تنشيط الطلب الكلي من خلال زيادة الإنفاق الاستثماري والجاري. إلا أن الإدارات الأوربية ذهبت بالاتجاه المعاكس تماماً, حيث أخذت تفرض خطط التقشف، والتي تؤدي إلى الإضرار بنسب النمو جراء ضرب كل مكونات الطلب من خفض للإنفاق الحكومي وخفض لكتلة الأجور وتسريح العاملين بالدولة وزيادة الضرائب ورفع ضريبة القيمة المضافة.

إن الحالة اليونانية من أهم الأمثلة على سوء إدارة الأزمة وتعقيدها، إذ أنه دفع المضاربات على سندات اليونان إلى أقصاها بعد تخفيض تصنيفها الائتماني, فأوصل سعر الفائدة المطلوب على سندات التأمين إلى معدلات قياسية، مما أثار الشكوك حول جدية تضامن منطقة اليورو ومستقبل الاتحاد الأوربي بشكل عام.