بكين - واشنطن حدود التعايش والصراع
تحليلات مبسطة كثيرة تطفو على السطح لدى الحديث عن العلاقات الصينية- الأمريكية، وتغيراتها، ومستقبلها القريب والبعيد. من تلك التحليلات مثلاً ما يؤكد على عزم الصين للإغارة على واشنطن بالأسلحة، ومنها ما يروج لاستعداد صيني للتكتل مع واشنطن ضد موسكو. وتبقى الحقيقة مغايرة لهذا وذاك.
إعداد: رنا مقداد
لا تريد الصين- وحليفها الروسي- انهياراً كارثياً للولايات المتحدة. فما تصارع الدولتان من أجله، وما تعلناه فوق المنابر الدولية، لا يتعدى السعي لاستعادة حقوقهما العالمية، ودفن النظام الدولي القائم على الهيمنة الأمريكية، لمصلحة نظام آخر متعدد الأقطاب.
تختلف العلاقات الصينية- الأمريكية الحالية في طابعها عن الجو الذي ساد علاقات الولايات المتحدة مع الاتحاد السوفييتي أو كوريا الديمقراطية أو إيران، وغيرها من الدول، حيث أن العوامل الدافعة نحو المواجهة الحامية والاستقطاب الثنائي الحاد بين الدولتين لا تزال مضبوطة بالمحددات الدبلوماسية.
لكن العلاقات الصينية- الأمريكية لها تعقيداتها الخاصة، وصراعاتها الخفية والمعلنة، الظاهرة والكامنة، العاجلة والآجلة. وهنا، يمكننا أن نشير إلى خلافين رئيسيين يشوبان العلاقات الصينية- الأمريكية، ويتعلقان أولاً وأخيراً بتغير موازين القوى والنهوض الصيني في آسيا والعالم.
إما واقعية وإما خسارات
مع النمو السريع للقدرات الصينية الشاملة، شهد ميزان القوى بين القوتين التقليديتين في شرق آسيا (الصين واليابان) انقلاباً لمصلحة الصين، ما تسبب في مخاوف متزايدة لدى حلفاء الولايات المتحدة من الوزن والنفوذ المتزايدين للصين في المنطقة، ودفع واشنطن في عام 2010 للقيام بتعديل في استراتيجيتها العسكرية، للتركيز على منطقة شرق ووسط آسيا، وطرح مشروع «الشراكة العابرة للمحيط الهادي»، في تحدٍ سافر للنفوذ الصيني في آسيا.
وإلى جانب المناورات الدبلوماسية، تجري الولايات المتحدة سلسلة من المناورات العسكرية مع حلفائها في المنطقة، في محاولة منها لطمأنة حلفائها، والقول للصين بأنها لا تزال قوة تقليدية في منطقة شرق آسيا.
في المقابل، تعاملت الصين مع هذا الحشد الأمريكي بواقعية كبيرة، مصرحة عبر أقنيتها الدبلوماسية بأنها ترى أن أمريكا لاعب رئيسي في آسيا. لكن، وفي الوقت ذاته، لم تقبل الحكومة الصينية بتهديد النفوذ الصيني في المنطقة، مؤكدة على علاقتها الندية مع واشنطن، وفق النظام الدولي الذي يتشكل اليوم.
رغم ذلك، لا تزال الحكومة الأمريكية مترددة بين الاستجابة للخيار الصيني- الذي يعني تعامل واشنطن وفق الأوزان الجديدة- وبين الاستجابة لمصالح المتنفذين فيها وحلفائهم في العالم- وهذا يعني خسائر تكتيكية واستراتيجية للولايات المتحدة، لأن سياساتها عند ذلك ستكون غير متوافقة مع الوقائع العالمية.
استثناء الصين.. أو احتواؤها
لم يعد تراجع القوة الأمريكية محض تكهنات من خبراء السياسة فحسب، بل حقيقة أثبتتها جملة من الوقائع خلال السنوات الأخيرة، فالولايات المتحدة لم تعد الدولة التي تقرر السلم والحرب، بل تبدي اليوم أكثر فأكثر عجزاً وتردداً أمام العديد من القضايا. في الوقت ذاته، يعاني حلفاؤها التقليديون في بعض حكومات أوروبا تقهقراً متزايداً في القوة الشاملة والنفوذ، ما يلقي مزيداً من الأعباء على واشنطن، للمحافظة على تماسك النظام الدولي الذي تتزعمه.
ومع تزايد الوزن العالمي للصين، حاولت الأخيرة أن تحصل على دور أكبر داخل المؤسسات الدولية والشؤون الدولية عموماً، لكن إلى حد الآن، لا تزال الصين تجد عقبات كبيرة في ممارسة نفوذ يضاهي مكانتها- كثاني اقتصاد عالمي- داخل «البنك الدولي» و«صندوق النقد الدولي»، وغيرهما من المؤسسات الدولية.
في المقابل، نسمع من حين إلى آخر، دعوات من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي للصين بتحمل المزيد من المسؤوليات الدولية، والمشاركة في إدارة الشؤون الدولية. لكن، كل هذه الدعوات لا تزال تأتي من منطلق المصلحة الغربية، ولا تعبر عن رغبة حقيقية في إصلاح النظام الدولي، بل من رغبة أمريكية أوروبية في الاستعانة بالدور الصيني للمحافظة على استمرارية النظام الدولي الحالي كما هو، وقد تبيّن هذا جلياً في دعوات الدول الغربية الصين للمشاركة في شؤون الشرق الأوسط، في المرحلة التي أبدت فيها الحكومة الصينية أعلى درجات المساندة للصديق والحليف الروسي في المؤسسات الدولية.
يمكن القول إن هذا المسعى الغربي شبيه بعملية إدماج اليابان وألمانيا- بعد الحرب العالمية الثانية- في النظام الدولي، لضمان فاعلية أكبر لهذا النظام الذي تولت فيه واشنطن دور القيادة، دون أي اعتبار لمصالح الدول ومواطنيها.
ونظراً لتمسك الدول الغربية بعدم إجراء إصلاحات حقيقية داخل النظام الدولي، تسعى الصين إلى تعزيز التعاون مع بقية الدول النامية، وتأسيس مؤسسات تضطلع بدور دولي كبير، على غرار بنك «الاستثمار في البنى التحتية»، وبنك «التنمية» التابع لمجموعة «بريكس».
«الحقائق أشياء عنيدة»
تخضع العلاقات الصينية- الأمريكية اليوم إلى «نظرية الردع»، فالصين وحلفاؤها، والولايات المتحدة وحلفاؤها، يمثلان اليوم قوى عسكرية كبيرة، ما يعني أن خيار المواجهة سيكون مدمراً للجانبين، وللعالم كله. وهذا ما يدفع للاستنتاج بأن التحركات العسكرية التي تجريها واشنطن مع حلفائها في آسيا، ولا سيما اليابان، محكومة في النهاية بضوابط التطور العسكري الذي يهدد بفناء البشرية كلها. وفي المقابل، فشلت المحاولات الأمريكية جميعها في تأليب الصينيين على حكومتهم، سواء من خلال «الثورات الملونة»، أو عبر صب الزيت على نار الخلافات الثانوية بين الحكومة المركزية الصينية والمقاطعات المتمتعة بحكم ذاتي، كتلك المحاولة التي حصلت في هونغ كونغ، والتي أثبت فيها الشعب الصيني تمسكه بتوجهات السلام والحفاظ على أراضيه من نيران الفوضى العارمة التي تعرضت لها كثير من حكومات العالم.
ونظراً لذلك، تتوقف طبيعة العلاقات الصينية- الأمريكية اليوم على السياسة التي ستلجأ إليها واشنطن في التعامل مع الوقائع الدولية الجديدة، فإذا لجأت إلى مزيد من محاولات الفوضى، سواء عبر «الثورات الملونة» أو من خلال محاولات إشغال الصين في توترات آسيوية، فإن نهاية المطاف ستكون مأساوية على الولايات المتحدة، قبل أن تكون مأساوية على العالم كله. وإذا تعاملت واشنطن مع الوقائع الدولية الجديدة بعين واقعية كذلك، فإن تطوير العلاقات مع الولايات المتحدة، في ضوء وزنها الجديد، سيكون ممكناً جداً.
عن «الشعب» الصينية.. بتصرف