لبنان المُوَّحد..
وسط تخوفات عدد من المراقبين من انعكاسات أي فراغ دستوري لبناني على المشهد السوري الذاهب نحو الحل السياسي
استقالت الحكومة اللبنانية برئاسة نجيب ميقاتي على وقع ثلاثة خلافات رئيسية، الأول هو الخلاف على تفاصيل الاستحقاق الانتخابي الذي عكس أزمة نظام الطائف القائم على المحاصصة الطائفية، والثاني هو فكرة التمديد للواء أشرف ريفي المدير العام لقوى الأمن الداخلي المحسوب على فريق 14 آذار وهو مايعكس الأزمة الأمنية السياسية التي يعيشها البلد، والقضية الثالثة وهي المغيبة إعلامياً هي تصاعد الحراك الاجتماعي الاقتصادي ضد النخب الحاكمة الناهبة والممثل حتى اللحظة بنشاط هيئة التنسيق النقابية، وهو الجانب الذي تحاول هذه المادة تسليط الضوء عليه.
«ها أنتم اليوم موحدون أكثر من أي وقت مضى تمر عليكم التجارب لكنكم تخرجون من الاستحقاقات أكثر قوة ومناعة للحفاظ على القرار الحر النقابي المستقل الذي لا يقهر» هكذا يعبّر رئيس رابطة أساتذة التعليم الثانوي الرسمي «حنا غريب» عن إنجاز «هيئة التنسيق النقابية» ومناصريها على مدى أكثر من سنة من النضال النقابي والمطلبي الذي امتد إلى أبعد من قطّاعات التعليم وموظفي الإدارة العامة ليشمل طلاب وإدارات مدارس وفعاليات تجارية ومجتمعية،تجاوز الطوائف والأحزاب وتقسيماتها للهم اليومي للمواطن المفقّر، وامتد ليشمل كل لبنان.
النضال المتصاعد
على مدى أكثر من عام ونصف _ منذ نهاية صيف 2011 _ بدأ التحرك النقابي أولاً وكانت «هيئة التنسيق النقابية» تعبيراً عن الحاجة لحالة نقابية جدّية وصادقة في ظل ضعف وغياب اتحاد النقابات وخصوصاً الاتحاد العام لنقابات العمال الذي تم شراؤه في التسعينيات من آل الحريري، وعجزه عن أداء دوره الحقيقي ضمن التجاذبات الطائفية – السياسية في البلد، اتخذت المعركة في منتصف 2012 حالة أكثر وضوحاً بين «هيئة التنسيق النقابية» _ (هيئة تنسيق روابط المعلمين والموظفين في القطاع العام ونقابة المعلمين في المدارس الخاصة) _ وبين الحكومة حول اعتماد موارد سلسلة الرُتب والرواتب التي تحدد أوقات الدوام وعمر الخدمة وأحكام الترفيعات والتقاعد وإحالتها لمجلس النواب كي تصبح نافذة، وهنا تجسد تحكم حيتان المال بالقرار الاقتصادي _ والسياسي حتماً _ وحياة المواطن اللبناني حيث ضغطت ما تسمى «الهيئات الاقتصادية»* بقوة ضد السلسلة المذكورة وعملت بحزم لتوجيه مصادر التمويل لتكون من جيوب الفقراء، أي تحسين رواتب تقاعد الفقراء عبر أخذ ضرائب من الفقراء ذاتهم!
استمرت المعركة وطالت المماطلة، ومنذ الصيف وحتى أواخر العام الماضي عانى هذا التحرك من تجاهل قطبي الحكومة اللبنانيين (14 و8 آذار) واستمرار تملص الحكومة من مطالب الحركة. لم تتخذ القوى السياسية الموقف الصحيح من هذا الحراك النقابي – المطلبي الذي تطور إلى أبعد من «مجرد» مطالبة المعلمين بتعديل رواتبهم فقد استطاعت الهيئة أن تنظم مظاهرات كبرى ك«زحف بيروت» بلغ تعدادها الآلاف، كما عاودت المظاهرات بالألوف لتصل إلى طريق القصر الجمهوري، في مشهد وُصف بأنه أكبر تجمع سياسي عابر للانقسام التقليدي.
14 آذار تعارض الفقراء!
تحاول القوى السياسية التقليدية في لبنان تأريض الحراك عبر تكريس المهاترات المبنية على فساد نظام الطائف وإرساء الطائفية في وجه مطالب الفقراء العابرين لكل الطوائف، حيث قامت قوى المعارضة _ ما يسمى بقوى 14 آذار ومن يناصرها _ في إعلامها عموماً بالحديث عن تأييد التحرك النقابي، لكن هذا التأييد تحول إلى السب والقذف السياسي والطائفي وكيل الاتهامات للند السياسي _ ما يسمى بقوى 8 آذار ومن يناصرها _ الموجودة في الحكومة، ولم يدم هذا التأييد اللفظي طويلاً ولم يأخذ منحى المشاركة الجماهرية ليشكل غطاءً سياسياً رغم مشاركة بعض الجماهير المحسوبة تاريخياً على الأقطاب السياسية القائمة، والذي عبر عن شكل من أشكال التمرد الاجتماعي على البنى الطائفية والسياسية التقليدية، يعود ذلك طبعاً كون أهم قوى المعارضة الحالية هي المسيطرة مالياً على لبنان والمسؤولة مباشرة على مدى ال20 سنة الماضية عن سياسات اقتصادية أوصلت لبنان إلى المديونية التي يقبع فيها والفقر الحاصل اليوم، وكان المشهد فاقعاً عندما وصل الحراك النقابي – المطلبي إلى «الزيتونة باي» الصرح الاستثماري للمعارضة وآل الحريري وشركائه والمبني على ملك عام للشعب اللبناني وهتف المتظارهون «هذه أرضنا المسروقة...!»..
انتهازية 8 آذار
في الحكومة كما المعارضة أيضاً تظهر مواقف شكلية إيجابية لبعض الوزراء الذين يمثلون بشكل مباشر طرف 8 آذار رغم ارتهان نجيب ميقاتي رئيس الحكومة التي استقالت مؤخراً للهيئات الاقتصادية، ولم تصل هذه المواقف حتماً إلى مرحلة التعبئة الجماهيرية والغطاء السياسي _ وغالباً لن تصل _، ذلك أن القوى السياسية في لبنان عموماً تقيس مواقفها بمقياس «اتفاق الطائف»، بمقياس الزعامات وملوك الطوائف، في حين أن التحرك هو نقابي بامتياز ويتطور، وقد استطاع بصموده وصدقه من تحقيق الشعبية والحشد الجماهيري والوصول إلى أول مطالبه وهو إحالة سلسة الرتب والأجور إلى مجلس النواب، وقد عبر هذا التحرك عن وطنية عالية بامتياز لأنه يعبّر عن فقراء لبنان، كل الفقراء، لا عن «مخاوفهم الطائفية» ومحسوبيات الأحزاب و«تبويس الشوارب» فيما بينها.
*الهيئات الاقتصادية: هي غرف التجارة والصناعة والحرف والمهن التي يرتبط رأسمالها مع الرأسمال الدولي بوضوح وتعتمد نظام الاقتصاد الحر وتعمل على حمايته وتجذيره في لبنان.