أين يكمن الفشل في النظام الرأسمالي؟
البروفيسور نورمان ليفرغود البروفيسور نورمان ليفرغود

أين يكمن الفشل في النظام الرأسمالي؟

عندما تبحث في القاموس عن تعريف الرأسمالية باعتبارها الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، تبدو غير مؤذية، ولكن عند النظر إلى سماتها منذ القرن السادس عشر (كشركات وبنوك ومصانع) يتبين أنها عبارة عن استغلال شنيع وقتل للعمال على نطاق العالم. وكأية ظاهرة تاريخية يجب النظر إليها لا من خلال النظرية، بل من خلال ما أنتجته وما تنتجه. وعبر هذه النظرة سنتعرف على أنها ليست فقط عاجزة ورتيبة ولكنها نظام فاشل كلياً. الرأسمالية هي النظام الاقتصادي الوحيد الممارس عبر العالم اليوم، حيث ليس هناك نظام اشتراكي نافذ، فالصين التي تكابد تحت تأثير نظام رأسمالية الدولة تساعد في دعم دولار رأسمالية أخرى هي الولايات المتحدة الأمريكية. الصين سوق رخيصة للعمل تحاول الرأسمالية الاعتماد عليه للنجاة من انهيار وشيك، ولنا أن نتصور كيف ستكون حال الرأسمالية الأمريكية في حال استبعاد الصين من الاقتصاد العالمي الحديث.

ترزح كافة الأمم في العالم، بما فيها الولايات المتحدة، تحت هيمنة نظام سياسي شمولي. تزعم الرجعية الأمريكية بأن روسيا والصين دولتان شيوعيتان، بينما هما في الحقيقة نظامان شموليان سياسياً ورأسماليان اقتصادياً. إنّ دولاً مثل بريطانيا وفرنسا وإيطاليا والدنمارك والسويد والنرويج كان لها بعض المؤسسات المملوكة للدولة والمختلطة مع اقتصادها الرأسمالي، لكن أغلب المنافع الاجتماعية المتضمنة في اقتصاديات الرفاه تتراجع الآن. تتحمل الرأسمالية المسؤولية عن الفقر والبطالة والتشرد وموت العمال المستمر دون توقف. علينا تجاهل أولئك الذين يؤمنون بالرأسمالية والذين يروجون كذباً، بأن كل منجزات البشرية والتقدم التكنولوجي هي من نتاج الرأسمالية كما يدعي ايان راند وتلامذته من أمثال ديسيبليس. لقد أثبتت التحقيقات التي قام بها محققون أمريكيون نزيهون مثل أبتون سينغلان ولينكولن ستيفنس وايدا توربل، بأن الرأسماليين الأمريكان قد جوعوا العمال حتى الموت. فالرأسمالية لا تملك الضمير الطيب والثقة الصادقة، ففي ظل الرأسمالية تتحقق المكاسب والأرباح عن طريق التواطؤ والجريمة وليس عبر وسائل نظيفة.

لطالما كانت أغلب الثروة في الولايات المتحدة محتكرة من جانب قلة من الرأسماليين وليس الطبقة العاملة. حتى عندما كانت بعض الثروة قد شارك فيها العمال الأمريكيون والأوربيون في أعوام الخمسينيات،  فلم تكن إلا لظروف استثنائية سرعان ما انتقلت في بداية الستينيات إلى إفقار العمال،  واستمرت حتى الأزمة الاقتصادية الحالية التي ظهرت بداية القرن الواحد والعشرين. المؤدلجون والمعجبون والمتواطئون مع الرأسماليين يحاولون إقناعنا بأن الرأسمالية هي خلاصة النظام الاقتصادي الذي أنتج أعظم التقدم للمجتمع البشري في التاريخ، وأي نظام آخر غير النظام الرأسمالي يسوده الجهل والفقر والعوز، بل أن بعض من يحسبون تقدميين يدّعون بأن الرأسمالية قد أتت بنتائج نافعة، لكن على المفكر الواقعي النظر من حوله ليرى ما يواجه الناس في حياتهم اليومية في الوقت الحالي، وعندها سيكتشف كذب تلك الادعاءات.

الرأسماليون يدعون أن هناك أصنافا ممتازة من الرأسمالية:

1- الرأسمالية الصناعية، حيث يتحقق الربح عن طريق إنتاج البضائع وتوزيع المنتجات.

2- الرأسمالية المالية، حيث تتحقق الأرباح عن طريق الأدوات المالية مثل السندات والأسهم وغيرها.

لكن كلا من النشاط الصناعي والمالي يحتلان أهمية بالغة للرأسماليين، لم تكن أبدا الصناعة وحدها أو المالية وحدها، بل كان هناك دائما تزاوج بين الاثنتين. بعض المفكرين مثل ويبستر تاربلي يعتقدون بأنه يمكن إنقاذ الرأسمالية عن طريق تطوير قطاع الصناعة وإضعاف القطاع المالي. مثل هذه الزمرة من المنظرين يتحدثون عن أمريكا وأوربا في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، عندما اقترنت تلك الفترة بزيادة الأجور والمنافع الاجتماعية. إنهم يتذكرون فقط المصاعب الناتجة عن هيمنة الرأسمال المالي. في الواقع تتضمن الرأسمالية الصناعة والمؤسسات المالية، وتعملان معا على مختلف الأصعدة لدفع الطبقة العاملة إلى أسوأ حالات الفاقة والعوز ممارسة بذلك جرائم إبادة جماعية. تنقل الشركات متعددة الجنسية صناعاتها إلى أي مكان في العالم حيث أجور العمل الرخيصة، وتتقبل سلطاتها أي عملة نقدية، ولا تتدخل سياسيا في شؤونهم، وحيث يستطيعون الحصول على أقصى ما يمكن من الإعفاءات الضريبية من قادة حكومات هذا البلد أو ذاك.

جوزيف ستيكليز، الاقتصادي والمساعد السابق لمدير البنك الدولي، يفترض أنه على الولايات المتحدة أن توجه اهتمامها صوب فرص العمل في قطاع الخدمات، وليس فرص العمل في الصناعات السلعية. ستيكليز يحاول أن يجعل العمال الأمريكيين يعتقدون بأن الاقتصاد الرأسمالي لم يتحول بعد من فرص العمل في صناعة البضائع إلى فرص العمل في صناعة الخدمات، بينما الواقع أن الولايات المتحدة قد انتقلت بالفعل، ولم تنتج إلا فرص عمل محدودة. الرأسمالية الشريرة بطبيعتها تهتم فقط بتعظيم أرباح الطبقة البرجوازية في الوقت الذي تسوء فيه أحوال الطبقة العاملة. على العمال أن يدركوا بأن الرأسمالية هي نظام فاشل وجهنمي على نحو منهجي، ولا يمكن إصلاحه،  وللتخلص من شروره السياسية والاقتصادية يجب علينا مساعدة العمال بأساليب سلمية،  لأجل توعيتهم بهذا الذي يجري في العالم،  ولأجل بناء النظام التعاوني الجماعي.

تبدو الرأسمالية في الوضع الراهن كسفينة توشك على الغرق في بحر من الفساد المالي،  لكن الركاب الذين يحاولون النجاة بأنفسهم من خطر الغرق بعد أن فقدوا بيوتهم وأعمالهم،  ما يزالون يصدقون أن كافة الإجراءات قد اتخذت لإنقاذهم. قوارب النجاة التي أمدهم بها البنك الاحتياطي الفيدرالي ووزارة الخزانة الأمريكية قد ذهبت بأغلبها لإنقاذ المؤسسات المالية مثلBear Stearns and Indimas وغيرها،  حيث بلغت 26 تريليون دولارا لحد الآن. تدخلٌ مثل هذا يعتبر الأكبر في تاريخ الاقتصاد الأمريكي منذ الكساد الكبير عام 1930. لقد ضغطت الطغمة المالية على وزارة الخزانة للموافقة على خطة لدعم البنوك بمبلغ 24 تريليون دولار يدفعها دافعوا الضرائب الأمريكيين في نهاية المطاف. لقد أصبح واضحا للجميع بأن الرأسمالية قد انهارت.

في 7 / 7 / 2008 قامت طغمة بوش بتأميم كبرى مؤسسات الإقراض المالي العقاري Fannie Mae وFreddie Mac بثلاثمائة بليون دولار على حساب دافعي الضرائب. أكثر الأمريكيين الذين غسلت عقولهم غير واعين بأنهم قد ألقي بهم في المياه المتجمدة من قبل وحوش الرأسمالية. العمال الأمريكيون فقدوا بين 10 – 15 تريليون دولار من مدفوعات الرهن العقاري عبر الحيل والتزوير،  وبعض البنوك المجنونة خسرت بين 10 - 15 تريليون دولار بسبب آليات الرهن التي أوجدوها. وبينما استلم العمال فقط 300 مليون دولار كتعويضات،  استلمت البنوك 24 تريليون دولار. الانهيار الاقتصادي هو واحد من آخر مراحل سياسة التواطؤ،  أما مراحلها الأولى فلم تلاحظ من الأمريكيين،  بل أن بعضهم قد تجاهلها. المرحلة الأخيرة من الخراب الاقتصادي هي الآن في بداياتها،  وهذه مظاهرها :

1- فشل وإفلاس المؤسسات المالية والمصالح الاقتصادية.

2- تفجر فقاعة الرهن العقاري.

3- تصاعد البطالة وبلوغها حدودا مخيفة.

4- 57 تريليون ديون الحكومة الأمريكية لشركات صناعة الأسلحة.

5- تصاعد أسعار النفط.

6- انهيار الدولار الأمريكي.

7- تراجع سياسة حماية البيئة على المستوى العالمي.

بعد قرون من الفوائض الرأسمالية العالمية،  تقترب البيئة العالمية من الكارثة،  ولم يعد هناك المزيد من الفضاءات لتوسع الرأسمالية. إن تدمير البيئة الطبيعية وما يتبعها من تهديد للوجود المادي للحضارة البشرية وللرأسمالية بالدرجة الأولى،  يتطلب تشديد النضال الآن من أجل الحفاظ على استقرار الإيكولوجيا،  وتوحيد جهود المقموعين والمستغلين لإعادة بناء الاقتصاد العالمي على قاعدة الإنتاج لإشباع الحاجات البشرية وفق المبادئ الديمقراطية والاشتراكية. المواطنون الأمريكيون لا يمكن أن يتغاضوا عن أولئك الأمريكيين الذين ألقي بهم إلى الشوارع بسبب ضعفهم. إن الذي دفع بالرأسمالية إلى حافة الهاوية هو النمط الرأسمالي الفاشي الذي فرضه الرأسماليون المتواطئون على الشعب والحكومة الفيدرالية. تهاوي الرأسمالية واضح لكل ذي عينين، لكن أكثر الأمريكيين سمحوا للإيديولوجية الرجعية أن تجعلهم يغضون النظر عن البحث عن المسؤولين عن هذه الأزمة. ويجب عليهم أن يتساءلوا عمن يدفع ثمنها؟

يقول Bill Van Auken المرشح لنائب الرئيس الأمريكي في الانتخابات الرئاسية لعام 2008 عن حزب المساواة الاشتراكي ما يلي «مهما كانت الاختلافات التكتيكية حول صفقة إقراض البنوك فإن إجابات الديمقراطيين والجمهوريين واضحة، القوى العاملة يجب أن تتخلى عن وظائفها ومستواها المعيشي والمنافع الاجتماعية من أجل إنقاذ مصاصي الدماء الذين تسببوا في الأزمة الحالية».

تتعرض المكاسب التي حققتها القوى العاملة في الماضي إلى الضياع، حيث تدخل الرأسمالية طورا جديدا من التقشف والحرمان بحق القوى العاملة. فخلال التاريخ الماضي حققت الرأسمالية تقدما هائلا في وسائل الإنتاج، وتجاوزت به كافة الأنظمة الاقتصادية السابقة، لكن ذلك كله يدمر الآن، وهو ما أفرزته تناقضاتها الداخلية ذاتها. هذه التناقضات لم تظهر إلا بعد وقت طويل من التأزم بين حاجات الإنسان والإنتاج ذاته، وفرضت بنفس الوقت الانفصام بين ضرورات اتساع وتعاظم رأس المال التي أزالت إمكانية ترشيد ودينامية الإنتاج. لقد جلبت هذه معها إمكانية حدوث نتائج كارثية طويلة المدى، تتحول بتأثيرها قوى النمو الاقتصادي التي كانت ايجابية إلى بعض الحدود إلى قوى سلبية تخريبية في ظل غياب كامل لإمكانية وقفها وكبح اتساعها.

الرأسمالية المتوحشة تنتقل إلى نظام إجباري للقهر، سلبي ومدمر، ليس عفويا بل منتظما ودائميا، ويمكن لنا أن نرى عيوبا حقيقية في الرأسمالية من خلال النظر إلى الفانتازيا المضللة عنها، مثل:

1- اليد الخفية للسوق التي تعمل من أجل مصالحنا.

2- التجارة الحرة هي الطريق الوحيد لتعميم التجارة.

3- لا يجب أن يدفع الرأسماليون أية ضرائب، أو ضرائب قليلة لأنهم الماكينة التي تحرك الاقتصاد.

4- البطالة والفقر أمر طبيعي، وهي ظاهرة ملازمة لأي نظام اقتصادي.

5- للولايات المتحدة الحق في محاربة أي أمة تشكل تهديدا للمصالح الاقتصادية لقادة دولتنا.

6- الفاعلية الاقتصادية ممكنة فقط في ظل الرأسمالية.

7- كافة الخدمات العامة والإنتاج السلعي يجب أن يكون مملوكا للنشاط الخاص.

8- يجب أن يكون الرأسماليون قادرين على الحصول على أكثر ما يمكن من المال بصرف النظر عن المعاناة التي يتعرض لها العمال.

9- كل شيء يعمل معنا هو الأفضل، وهذا هو الأفضل لصالح الرأسمالية في العالم.

لقد حقق العمال بعد الحرب العالمية الثانية بعض المكاسب على مستوى الأجور، حيث ارتفع الحد الأدنى للأجر. لكن الرأسماليين المتواطئين لم يعد يرضيهم ذلك، فمع نهاية القرن الماضي فقدوا أي اهتمام بضمان العدالة، ولم يعد لجشعهم أية حدود. وفي وقت يتسببون في المزيد من الفقر والحرمان للقوى العاملة، يستمرون باستغلال أموال دافعي الضرائب لدعم نظامهم المنهار. للرئيس دوايت أيزنهاور قولٌ يعود تاريخه إلى 16 / 4 / 1953 جاء فيه:

«كل بندقية تصنع، وكل سفينة حربية تقلع، وكل قذيفة تطلق هو سرقة من أولئك الجياع الذين ليس لهم ما يكفي من الطعام، وأولئك الذين يعانون البرد وهم عراة». لم يعترف الرأسماليون بأن نظامهم قد انهار، لذا لا يجب أن نستغرب من قراءة هذا العنوان في صحيفة الوول ستريت جورنال، أو صحيفة نيويورك تايمز «الرأسماليون يعلمون بأن نظامهم قد انهار»

في عشرينيات القرن الماضي، وبعد أن دمر الرأسماليون نظامهم الاقتصادي بنتيجة الممارسات الإجرامية والفساد، لم يدركوا كيف يعيدوه من جديد. الرئيس الأمريكي الأسبق فرانكلين روزفيلت قام في عام 1930 بإنقاذ الرأسمالية من سارقيها عندما أصدر مشروعه «New Deal» الذي تضمن نظاما للضمانات الاجتماعية وعددا من الإصلاحات التشريعية لصالح مواطنيه. لكن الرأسماليين المتواطئين قاموا فيما بعد بسرقة تلك المكاسب الاجتماعية، وهم مستمرون في تهميش نظام المعونات الاجتماعية من أجل خصخصته تماما كما يفعل القراصنة. لقد أقاموا نظاما مصرفيا خاصا عام 1913 باسم «نظام الاحتياطي الفيدرالي» لأجل الهيمنة على النظام المالي، وليفرضوا سيطرتهم على الحكومة الفيدرالية الأمريكية. وخلافا لحقبة الرئيس روزفيلت في الثلاثينيات وما بعد الحرب العالمية الثانية عندما أجازت الرأسمالية للعمال بعض المنافع، تقوم هي الآن بحرمانهم منها ما دامت قادرة على نقل صناعاتها إلى الصين والهند حيث العمل العبودي الرخيص. النجاح بالنسبة للرأسماليين لا يقاس بمعايير فقدان العمال وظائفهم وبيوتهم وحقوقهم الدستورية، أو حتى حياتهم في حروب الرأسماليين من أجل الأرباح الخيالية. النجاح بالنسبة لهم هو استمرار هذه الأرباح عبر شركات النفط وصناعة وتجارة السلاح وغيرها التي تخدم مصالحهم.

لقد ابتكر الرأسماليون قاعدة جديدة للرأسمالية الفاشية تتلخص بهذه العبارة «الربح حق شخصي، أما الخسارة فمسؤولية عامة». وخلال ذلك تستمر الرأسمالية باستخدام أموال دافعي الضرائب المخصصة لإعانات البطالة والمشردين والفقراء من أجل مساعدة المؤسسات المالية الفاشلة إلى أطول فترة ممكنة، دون أن يعترفوا بأن كامل البنية الأساسية للرأسمالية قد انهارت. وإذا ما استمر تصدع الرأسمالية كما هو الحال الآن، فلن يعود بإمكانهم طبع المزيد من النقود لإنقاذ جميع المؤسسات المالية الفاشلة. للرئيس الأمريكي السابق جورج بوش كلمة قالها أثناء جولة له لجمع التبرعات لحملته الانتخابية عام 2008 للترشح لولايته الثانية، جاء فيها: «وول ستريت مخمورة، ولهذا السبب أطلب منكم أن تغلقوا أجهزة التلفزيون، فهي مخمورة لدرجة لم يعد بإمكانها أن تفعل شيئا. والسؤال: إلى متى سيستمر هذا ولا تفيق لتستخدم آلياتها المالية السخيفة».

ترجمة: علي الأسدي