تطور الاشتراكية الأوروبية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية المملكة المتحدة: النزاع بين اليمين واليسار في حزب العمال يميل إلى التفاقم
سواءٌ على الصعيد السياسي أم على الصعيد الإيديولوجي، تتباين مصائر حزب العمال تبايناً كبيراً عن مصائر معظم الأحزاب الاجتماعية الديمقراطية في القارة الأوروبية:
فسياسياً، سنحت له فرصةٌ فريدة، هي فرصة العمل في بلد لطالما شكلت فيه البروليتاريا، حتى إذا فسرنا هذا المصطلح بمعناه الدقيق لنشير فقط إلى العمال اليدويين، الغالبية العظمى من السكان ـ نحو ثلثيه حالياً ـ وتحابي فيه المؤسسات لعبة نظام برلماني ثنائي الأحزاب. إذا وضعنا البلدان الاسكندينافية جانباً، كانت بريطانيا العظمى الدولة الأوروبية الوحيدة منذ العام 1945 التي تمتلك حزباً اجتماعياً ديمقراطياً قادراً على أن يشكل حكومةً بمفرده، أو يبدو فقط قادراً على فعل ذلك.
من الناحية الإيديولوجية، يقدم حزب العمال أمراً فريداً هو استناده إلى حركة عمالية كانت أصلاً قويةً وراسخةً قبل صعود الماركسية التي كان دورها حاسماً جداً في تشكل أحزاب الطبقة العاملة في بلدان أخرى. تأسس الحزب في العام 1900 أصلاً بوصفه تعبيراً عن وعي الطبقة البروليتارية التي كان يسود الاعتقاد أنها تحتاج تمثيلاً سياسياً منفصلاً عن العمال. لم يكن للحزب أي برنامج سوى استعداده للدفاع عن مصالح الطبقة العاملة في كل مكان يمكن أن تكون فيه تلك المصالح مهددة. عملياً، كان ذلك يعني على نحو رئيسي الدفاع عن الحقوق الشرعية للنقابات. غير أنه كان يفتقر للإيديولوجيا. أو بالأحرى كان الحزب لكل المجموعات الموجودة في الحركة البروليتارية؛ هكذا، قبل العام 1914، ضم نسبةً كبيرةً من النقابات، معظمها ليبرالية ـ راديكالية، وبعض الجمعيات الصغيرة من الاشتراكيين الذين تتراوح انتماءاتهم بين الماركسية والفابية، كانت تمارس نفوذاً غير متناسب مع تواضع حجمها.
في العام 1918، اكتسب حزب العمال برنامجاً في الوقت عينه الذي انخرط فيه على نحو رسمي، ولو أنه كان غائماً، في الاشتراكية؛ لكنه حافظ على نفس المحتوى الإيديولوجي غير المحدد. بقي قادة النقابة الليبرالية فيه، بل إن الحزب الشيوعي الذي كان قد تأسس قبل وقت قصير أبدى رغبته في الانضمام إليه بوصفه هيئةً ملحقة. بقي الاتحاد الأوسع انطلاقاً من الوعي الطبقي هو المثال، وتشكل بذلك واقع حزب العمال.
لم تؤد صدمة الحرب العالمية الأولى والثورة الروسية إلى انشقاق حركة العمال البريطانية، مثلما حدث في أوروبا القارية. لكنها قسمت، أو بالأحرى دمرت، الاصطفاف القديم الليبرالي ـ الراديكالي، جارفةً العمال الليبراليين القدامى إلى اليسار نحو حزب العمال وعدداً كبيراً من المثقفين، للمرة الأولى. ولئن كان لها تأثير، فقد كان حقاً تعزيز اندماج حركة عمالية فريدة أصبحت منذ ذلك الحين اشتراكيةً على نحو رسمي، ولو باعتدال.
الانشقاقات الأولى
على الرغم من بعض التوتر، بقيت الوحدة على نحو جدير بالتقدير في الحقبة بين الحربين العالميتين. فلا انشقاق أبرز ثلاثة مسؤولين، غادروا الحزب للانضمام إلى صفوف المحافظين في العام 1931، ولا استياء الجناح اليساري في حزب العمال المستقل، الذي انفصل عن الحزب بعد ذلك بفترة قصيرة، أديا إلى انشقاقه. ومن غادروه فعلوا ذلك بقرارهم المستقل وسرعان ما فقدوا كل نفوذ لهم (لم ينجح الحزب الشيوعي في أن يجتذب عدداً كبيراً من الناخبين، وهو الحزب الذي كان الجناح اليميني في حزب العمال يمنعه من أن يصبح هيئةً ملحقةً والذي كان أعضاؤه يستبعدون تدريجياً بصفة شخصية من منظمات حزب العمال من دون أن يستبعدوا من النقابات).
أما الجناح اليميني، وعلى الرغم من كونه مهيمناً ـ لاسيما في النقابات بعد فشل الإضراب العام في العام 1926 ـ فلم ينجح في تحويل حزب العمال إلى منظمة من الاجتماعيين الديمقراطيين الحصريين على الصعيد الإيديولوجي. فقد حافظ «يسارٌ عمالي» غير متجانس، يتألف من مناضلين مزودين بوعي طبقي، من ماركسيين وداعمين للتقليد السلمي البريطاني القوي، أو على الأقل من مناهضي الحرب ومناهضي الإمبريالية، حافظ على قوته ونفوذه داخل الحزب. وقد أدى تضافر تأثير الأزمة الاقتصادية وفشل حكومتين عماليتين توليتا السلطة لمدة وجيزة في العام 1923-1924 وفي العام 1929-1931 وهجرة الزعماء الرئيسيين للجناح اليميني إلى إزاحة مركز ثقل الحزب بوضوح نحو اليسار.
وفي الثلاثينيات، خسر الحزب إيمانه بقدرة الرأسمالية على إصلاح ذاتها وانخرط في البرنامج المميز الذي أصبح برنامجاً له في الأربعينيات: توليفةٌ من الإصلاحات الاجتماعية غير الإيديولوجية، مع قائمة من التأميمات للصناعات المفتاحية التي من المفترض أن تحضر لـ «اشتراكية وسائل الإنتاج والتوزيع والتبادل» التي التزم بها الحزب نظرياً منذ العام 1918.
تكيف صعب
كانت ثلاثة عوامل قد سمحت بالإبقاء على هذه الوحدة: البطالة الواسعة في فترة ما بين الحربين، التي أدت إلى توحيد جميع قطاعات الحركة في رد فعل مشترك من المرارة والدفاع عن الذات؛ بقاء الحزب بعيداً عن السلطة (وعن إدارة الشؤون العامة، باستثناء فترتين وجيزتين وغير سارتين)؛ وطابع الحزب البروليتاري على نحو أساسي. لم يكن يحظى حتى ذلك الحين سوى بمساندة أقلية عمالية، لكن كان من بين مناصريه بعض العناصر الذين لم يكونوا عمالاً ولا أبناء عمال. أخيراً، عزز عاملٌ رابعٌ شعور الوحدة الإيديولوجية الذي كان لا يزال يمتد إلى الاتحاد السوفييتي وإلى الخارج وكذلك ـ مع بعض التحفظات ـ إلى كثير من الشيوعيين في الداخل: مناهضة الفاشية. بعد العام 1945، لم يعد لأي من تلك العوامل تأثير.
أدت عشرون عاماً من التشغيل الكامل إلى تحول لا سابق له وغير متوقع في مستوى حياة الطبقة العاملة. نتيجةً لذلك، بدأ الاستدعاء البسيط لردود الأفعال التقليدية من الفقر والتضامن الطبقي والأمل يفقد ثقله. في الخمسينيات، تلقى التيار المحابي والثابت الذي كان يجلب أصوات البروليتاريا إلى حزب العمال ضربةً فتوقف الحزب عن النمو. في الوقت عينه، خسر الاعتقاد بأن الرأسمالية رديفٌ للأزمات وبأن الاشتراكية (أي تأميم قائمة معينة من الصناعات) هي الحل الوحيد قوته المباشرة.
لقد عانى اليسار العمالي، الذي حافظ على الرؤى القديمة المعبر عنها بصورة رئيسية في تحليل اقتصادي مبني على محاضرات شعبية ماركسية، عانى من صعوبة التكيف مع الوضع الجديد. تبنى اليمين العمالي بحماسة نظريات التخطيط الاقتصادي الجزئي التي أطلقها الليبراليون البريطانيون (بيفيريدج وكينز على نحو خاص) بوصفها حلاً نظرياً آخر في الماركسية.
لأول مرة، جعل انتصار 1945 من حزب العمال حكومةً جديدة، أو منحه وسائل أن يكونها، وأضعف بعد ذلك الجاذبية التي كانت تمثلها بالنسبة إلى زعمائه اليمينيين البرامج الاشتراكية الطموحة. كما جذبت إلى الحزب عدداً كبيراً من الأنصار الراغبين في المضي إلى أمام. وقد شجع النجاح المؤقت الذي عرفه الحزب أثناء الحرب بين الموظفين والطبقة الوسطى العمالية، الذين منحوه دعمهم السياسي، شجع الآمال التي كان تداعب الجناح اليميني في تحويل حزب العمال إلى تجمع معتدل من وسط اليسار يفك ارتباطه الكامل مع البروليتاريا. وفي الوقت عينه، سمحت هزيمة الفاشية وتطور الحرب الباردة لهذا الجناح بعزل اليسار، ناهيك عن الشيوعيين.
النزاع بين الجناح اليميني والجناح اليساري
لهذا لاحظنا بعد العام 1947 نزاعاً كبيراً في الحركة. وكان السبب في ذلك شعورٌ بالفشل ـ هزمت الحكومة العمالية بعيد الحرب إلى حد كبير لأنها لم تعرف، بعد الإصلاحات الأولية وإجراءات التأميم، ماذا تفعل بعد ذلك ـ وانتقال زعامة الحزب، في حقبة هيغ غيتسكيل (1955-1963) إلى أقصى اليمين الذي كان يحاول دفعه إلى مدى أبعد بكثير مما كان مستعداً للمضي إليه. جرت محاولاتٌ جديةٌ تهدف إلى استبعاد زعماء اليسار وإلى الإلغاء التام لهدف الاشتراكية من دستور الحزب. لكن تلك المحاولات فشلت، وفي أواخر الخمسينيات، حدث نهوضٌ جديدٌ للجناح اليساري داخل الحزب وخارجه، وهو نهوضٌ جرى تنظيمه بفعالية على الرغم من بعض السرعة تحت راية حملة نزع السلاح النووي والعمل النقابي.
أنقذ الحزب من الشلل الذي كانت تسببه تلك الحرب الداخلية بفضل أزمة حكومة المحافظين في مطلع الستينات، وبفضل وفاة هيغ غيتسكيل، الذي حلت محله شخصيةٌ أكثر مهارةً بكثير من الناحية السياسية وأكثر تصالحيةً، هارولد ويلسون الذي كان جزءاً من اليسار لفترة وجيزة والذي كان يحرص حتى بعد تلك المرحلة من مسيرته على ألا يصطدم به مجابهةً. لكن، ومثلما برهن عليه تاريخ الحكومة العمالية الجديدة منذ العام 1964، بقيت التباينات الداخلية. وظل عدم التوافق بين البرنامج التقليدي للحزب وسياسته الحقيقية قائماً. كما لم يتوقف تزايد عدم التوافق بين البرنامج التقليدي للحزب وسياسيته الواقعية.
لم يتمكن اليمين ولا اليسار في الحزب من التغلب على المصاعب الإيديولوجية لمواقفهما في عالم ما بعد الحرب. فقد رأى اليسار نفسه طامحاً للعودة إلى الحقائق الأزلية الخاصة بـ»الحركة» وإلى تقليده المشحون بالخطاب الانفعالي. وقد عنى ذلك ملاحظة أنه لم يكن يمتلك كثيراً مما يستطيع قوله بصدد المشكلات الاقتصادية، خارج إطار المطالبات الجديدة بالتأميم، لكنه كان أفضل إلهاماً وأكثر نجاحاً من الناحية السياسية عبر تركيز نشاطه على مشكلات من قبيل مناهضة الحرب والكفاح ضد إخضاع السياسة البريطانية الخارجية إلى سياسة الولايات المتحدة وضد كل مشروع يهدف إلى إضعاف الحقوق التقليدية الخاصة بالنقابات. عملياً، ومنذ العام 1964، أعيقت حركة اليسار بفعل الموقع الأقلوي الذي كانت تحتله ـ على الرغم من أنها كانت أقلويةً مهمةً ولا يمكن القضاء عليها ـ داخل الحزب. لكن داخل الحزب فقط. فلو أنه انفصلها عنه، لضاعت.
أما اليمين، فلم يعان أي مشكلة في التكيف مع وقائع «الاقتصاد المختلط» الذي يديره الطور الحالي في الرأسمالية، لكن صعب عليه كثيراً أن يتخلى عن الإيديولوجيا القديمة والتقليد السياسي القديم في حزب العمال لتطوير سياسة تتمايز عن سياسة الليبراليين الحصيفين، أو حتى التكنوقراط المحافظين. وقد فشلت فشلاً ذريعاً محاولة هيغ غيتسكيل في الخمسينات والتي هدفت إلى تقديم تعريف جديد للاشتراكية من دون اللجوء إلى تأميم وسائل الإنتاج، جاعلةً منه طموحاً غامضاً إلى المساواة. ولم يفلت التفضيل الذي أعلنه الويلسونيون، لعدم تعريف شيء لكن لرفع راية «البراغماتية» عالياً، من الفشل إلا بتجنب طلب النجاح.
لا الجناح اليميني ولا الجناح اليساري وجدا في التاريخ نجدةً مطلقة. فقد عانى اليسار من أن الرأسمالية تستمر في نهاية المطاف في العمل على نحو مرض تماماً، لاسيما حين تكمله مفاهيم التخطيط الكينزية و»دولة الرعاية». وقد تأثر اليمين من أن بريطانيا العظمى بقيت حقاً بلد عمال يدويين، حيث تعزز مؤخراً تقليد الوعي الطبقي الذي يعود لقرن ونصف القرن بنهضة مقدرة للإيديولوجيا الماركسية والنيوماركسية في بعض أوساط المثقفين.
كما يعاني اليسار من نقص دقة تحليله، ما أدى بالضرورة إلى إلقاء التقنيين والمخططين والمديرين المتعاملين مع السياسة بين أذرع اليمين البراغماتي. وخضع اليمين بدوره إلى ضربة إفلاس كل الإيديولوجيات التي ولدت من الاشتراكية الديمقراطية المعتدلة والتقدمية. ليس مصادفةً أبداً إن بقيت الماركسية قوةً إيديولوجيةً حيةً في حين أن الفابية، الأقرب إلى الإيديولوجيا الاجتماعية الديمقراطية البريطانية، لم تعد سوى مصطلح مرادف للحذر والتجريبية، وموضوع أطروحات أكاديمية.
ضد حقوق النقابات
آنذاك، وفي ظل هارولد ويلسون، تلمس اليمين خطاه ليشق لنفسه طريقاً إلى المستقبل بوصفه حكومةً لبريطانيا العظمى، مجابهاً انتقادات يسار لا يمثل روح الحركة فحسب، بل كذلك جزءاً مهماً من جسمها، ويمارس عليها نفوذاً ليس منعدم الفعالية تماماً. ليس مصادفةً إن كانت الحكومة العمالية للعام 1966 قد أعلنت نيتها القيام بإعادة تأميم صناعة الحديد، وهو مطلبٌ يتطابَق على نحو مميز مع اليسار ويرفضه البراغماتيون بالتميز نفسه بوصفه غير ملائم ومنعدم الأهمية.
يمكن أن يتفاقم النزاع بين الجناحين: وجدت الحكومة نفسها منخرطةً في هجمة على الحقوق التقليدية الخاصة بالنقابات، ورأت أنها غير متوافقة مع سياستها الاقتصادية. لكن هنالك ثلاث ظواهر ما زالت توحد مختلف أقسام الحزب المتباينة. إنها بدايةً الحكومة، وبما أن السيد ويلسون قد نجح في آن معاً في اجتذاب أجزاء كبيرة من الطبقة الوسطى والمثقفين ـ مثل حزب العمال لأول مرة في تاريخه الهيئة الناخبة في أكسفورد وكامبريدج ـ وفي إعادة كبح تدفق التيار البروليتاري نحو حزب العمال، فربما يؤدي ذلك إلى أن يجعل منه على نحو دائم حزب الأغلبية في السياسة البريطانية، مثلما كان عليه الحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة منذ فرانكلين روزفلت.
تجد بريطانيا العظمى نفسها في وضع لن تتمكن فيه، عاجلاً أو آجلاً، من التهرب من إجراء مراجعة أساسية للمسلمات في مجال الاقتصاد الوطني والسياسة الدولية. في المقام الثاني، يتغلغل ميلٌ أساسي إلى المساواة والعدالة الاجتماعية في الحركة كلها، مثلما أمكننا أن نرى على نحو جلي ربما في مجالات الضمان الاجتماعي والسياسة التعليمية، حيث أصبحت الأفكار التي أطلقها اليسار ملكيةً مشتركةً لمجمل الحزب. أما العامل الأخير، وربما يكون الحاسم، فهو أن الحركة البريطانية لا تزال موحدة. ولا يمارس من هم خارجها أو من يخرجون منها إلا نفوذاً هامشياً. وإن لم يتمكن شيءٌ آخر من الإبقاء على تماسك حزب العمال، فسيتوصل إلى ذلك بفضل منعكس الحماية الذاتية.
إيريك هوبسباوم
مؤرخ بريطاني. مؤلف كتاب «عصر الأضداد» مجرى القرن العشرين، 1914-1991، دار كومبلكس ـ لوموند دبلوماتيك، بروكسل ـ باريس، 1999.