العمال الصغار من أجل الكرامة والكفاف
هاشم اليعقوبي هاشم اليعقوبي

العمال الصغار من أجل الكرامة والكفاف

بعيداً عن الدراسات غير المتوفرة حالياً، فان الراصد الخبير لسوق العمل اليوم، الذي تغير بشكل واضح خلال الأشهر الماضية، يستطيع رؤية متغير جديد عن الرؤى السابقة، حيث يشهد سوق العمل عادة ومع انطلاق العام الدراسي تغيراً واضحاً في نسبة الأطفال واليافعين، وحتى الشباب الجامعين في سوق العمل، لكن خلال السنوات الثلاث الأخيرة الماضية بشكل عام، والسنة الحالية بشكل خاص، أصبحنا نشاهد ارتفاعاً واضحاً بنسبة العمال الصغار، ولم تعد تنحصر على الذكور منهم، بل امتدت لتشمل الإناث أيضاً، ومع افتتاح العام الدراسي الحالي بقيت أعداد كبيرة من هذه الشريحة العمالية على رأس عملها، تكافح بتواضع قدرتها على مواجهة ما آلت إليه ظروف أسرهم المعيشية الخانقة.

لا يعد تواجد الأطفال في سوق العمل غير المنظم وجوداً طارئاً أو جديداً، لطالما تواجدوا في المشاغل والورشات والمعامل، وبأغلب المهن والحرف والأشغالِ، ولكن النسبة الأكبر من هؤلاء الأطفال العمال تواجدوا بصفة عمال موسمين، يدرسون في فصل الشتاء، ويشتغلون في فصل الصيف، كونهم ينحدرون من أسر عمالية ومهنية تدرك بوعيها الفطري الطبقي من جهة، وبتراكم تجاربها الخاصة وظروفها المعيشية من جهة أخرى، أهمية التحصيل العلمي للطفل، وأيضاً ضرورة تسلحه بمهنة تؤمن له أجراً يمنحه حياة كريمة على مبدأ ( بإيدو مصلحة إذا فشل بالدراسة) وبموازاة ذلك يتواجد الأطفال العمال الذين تركوا مدارسه،م أو لم يدخلوها أساساً، والتحقوا بسوق العمل كعمال وشغيلة يدفعهم لذلك الفعل، فقر حالهم وتواضع معيشتهم، فحاجة الأسرة لأجرهم على مبدأ (بحصة بتسند جرة) تجعلهم مضطرين للتخلي عن تعليم أولادهم والدفع بهم للعمل.

العمال ذاتهم وبدوافع مختلفة

اختلفت الغاية من عمل الأطفال عبر العقود الأخيرة باختلاف السياسات الاقتصادية المتبعة في البلاد، حيث كانت الغاية الأساسية لعمل الأطفال هي أن يتعلموا مهنة أو حرفة، دون الاهتمام بالأجر الممنوح لهم، فهم يأخذون أجراً زهيداً جداً لا يتعدى أجور النقل، وقد لا يحصلون على أجر أبداً لعدة سنوات، وفي مهن معينة يدفع الأهل لرب العمل مالاً مقابل تعليم طفلهم للمهنة، في الستينيات وخلال السنوات القليلة التي شهدت زيادة دور الدولة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وتوسع القطاع العام الزراعي، والصناعي، وإحداث الثانويات والمعاهد الصناعية، وتضخم جهاز الدولة وتطوره، الذي تزامن مع فرض إلزامية التعليم للمرحلة الابتدائية، تغيرت الغاية من عمالة الأطفال، وتراجعت نسبة التسرب الدراسي، وبقيت بحدودها الدنيا وفق الدراسات المختصة المحلية منها والدولية، إلى أن بدأت التحولات الكبرى بالسياسات الاقتصادية التي انتهجها النظام السياسي البائد عبر حكوماته المتتابعة، والمفصلة على مقاس رؤوس الأموال وأصحاب النفوذ الاقتصادي الناهب والمعادي بشكل واضح وكبير للعاملين بأجر، فبدأت مكنات النهب بشفط ما أمكنها من جيوب الشريحة المعتاشة على أجرها، بخفة أيدي النشالين تارة، وبوقاحة السالبين بواسطة السلاح تارة أخرى، فتراجع الوضع المعيشي للأسر المعتمدة على الأجور بشكل كبير ومتسارع، ولم يعد يكفي أجر واحد لتأمين مستلزمات الأسرة، مما دفع بأعداد هائلة من الأطفال والفتية لسوق العمل، ولكن هذه المرة ليس من أجل تعلم مهنة ما، ولا كعمال موسميين، بل من أجل الأجر بحد ذاته، فبيعت قوة عمل الأطفال- بثمن بخس- وأصبحوا كغيرهم من العمال غير المنظمين يخضعون لقانون العرض والطلب، الذي يتحكم به أرباب العمل، وهؤلاء الأطفال البروليتاريين جميعهم ليسوا أولاد مسؤولين أو ذوات، أو تجار، أو أرباب عمل، بل هم حصراً أولاد ذوي الدخل المحدود والأسر العمالية والفقراء.

استغلالٌ ليس إلا

أثقلت سنوات الأزمة الوطنية الكارثية على الأسر المعتمدة على الأجور، وتدهورت أوضاعهم المعيشية بشكل حاد، فآلاف الأسر فقدت معيلها الوحيد، وفرضت عليهم واقعاً جديداً، فانتشر أطفالهم بين المشاغل والورش للعمل، بأجور تحميهم من الجوع والتشرد، والعوز الشديد، مما أعطى أرباب العمل أداة تحكم جديدة برقبة العباد، فهم الأقدر على استغلال هذه الفرص، حيث يعتبر الطفل العامل عنصر ربحٍ إضافي لهم، فأجره لا يتعدى ربع أجر العامل الكبير، وهو أكثر رضوخاً لشروط العمل المفروضة على الجميع، وأغلب أرباب العمل لا يراعون طفولتهم، فيدفعون بهم لأعمال لا تتناسب مع ضعف أجسادهم، ولا مع وعيهم، فرب العمل لا يهمه في نهاية الأمر سوى مراكمة أرباحه.

الحلول عند المسؤول

يعج القطاع الخاص بهذه الشريحة العمرية من العمال ومن كلا الجنسين، وفي حين تبتعد المعامل والمنشآت الكبرى عن تشغيلهم، سواء كانت صناعية أم خدمية التزاماً منها بالقوانين الضابطة لذلك من جهة، ولأنها تحت الضوء من جهة أخرى، فالفنادق والمطاعم والمولات الكبرى لا تجد فيها هذه الشريحة إلا بالأماكن البعيدة عن العيون والمستهلكين والرقابة الحكومية، لكن تراهم في المستودعات أو غرف الغسيل والمطابخ، أما في الأعمال المتوسطة والصغيرة والمحلات التجارية والورشات فتشغيل هؤلاء يتم نهاراً جهاراً «على عينك يا تاجر» دون رقيب أو حسيب، وقد اعتاد المجتمع بشكل عام على رؤيتهم، حتى لا يكاد الواحد منا يدرك أنه مجرد طفل أو يافع إلا حين ينتبه بعض العائدين من السفر أو الأجانب لذلك، ورغم وجود القوانين والأنظمة التي تمنع عمالة الأطفال وتجرمها، إلا أن هذه الظاهرة ما زالت في اتساع كونها موضوعية، أنتجتها الضرورات والواقع الاقتصادي والاجتماعي العام، ولا يمكن اجتثاثها قبل معالجة كافة أسبابها، وعلى رأسها الواقع المعيشي للطبقات الأكثر ضعفاً، ومكافحة البطالة والفقر وقيام الدولة بكامل دورها في الرعاية الاجتماعية، وضمان الأمن الاجتماعي بجوانبه الغذائية والتعليمية والصحية، فهؤلاء الصغار واليافعين يكافحون مع عائلاتهم ضد الحرمان والتسول والموت، بكل ما أمن الله عليهم بالكرامة والعزيمة، وأكبر ما يكافؤون به بلداً آمناً وعملاً كريماً وكفاف يوم.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1248