من ظلام القهر تشرق الحياة... وأي حياة
يوم السبت، الخامس والعشرين من آب لعام ألفين واثني عشر، في هذا التاريخ كان أمجد لا يزال طفلاً يبلغ من العمر عشر سنوات، فحياته قبل هذا التاريخ ليست كما بعده، في هذا التاريخ انقلبت حياته رأساً على عقب، تحول من الطفل الأصغر لعائلة تتألف من ستة أفراد هو وأبوه وأمه وأخوه الأكبر وأختاه، إلى الذكر الوحيد في هذه العائلة المفجوعة، بعد أن كان أكبر همومه أن يأخذ «خرجيته» من أبيه أصبح همه الأول والأخير إنقاذ ما تبقى من أهله بعد أن ضربت وحشية الأزمة استقرار بيتهم وهدوء حياتهم لتخسر هذه العائلة الأب والأخ الأكبر وينجو أمجد بأعجوبة من عاصفة الموت ذاك اليوم.
يتيم مسؤول عن أيتام..
حياة الطفل اليتيم أشبه باللا حياة، فمع فقدان الأب تبدأ معاناة الطفل أشد من معاناة، هذا الفقد الذي يرافقه فقدان الاستقرار والحنان والشعور بالأمان والكثير من الأمور المهمة بالنسبة للطفل، فكيف يكون الأمر في حال كان هذا اليتيم مسؤولاً أيضاً عن أيتام وأرامل خاصة في ظل تلك الأوضاع المأساوية التي كانت بدايتها موت أبيه وأخيه إضافة إلى صهره زوج أخته الأم لولدين رضيعين، ولتستمر مأساتهم بالتضاعف والتزايد يوماً بعد يوم وبأشكال مخيفة والثابت الوحيد أمام حجم الرعب هذا هو أمجد، أمجد من عليه أن يؤمن نزوح أهله بسلام وأمان، أمجد من عليه أن يؤمن بيتاً يأويه هو وعائلته، هذا الطفل عليه أن يقوم بتأمين الأمان والأكل والشرب واحتياجات الرضّع من حليب، إلخ.
العمل في سن مبكرة
بعد الفاجعة التي ضربته وعائلته، وبعد الانتهاء من رحلة النزوح، واستقرارهم المكاني في إحدى المناطق (الآمنة)، بدأت رحلة أخرى لا تقل قساوة، إنها رحلة البحث عن العمل، هذه الرحلة التي كان أمجد قبل شهور معدودة لا يتملك أدنى معرفة عن مدى بشاعتها، أصبح الآن في صلبها، وجزءاً منها، ليكتشف أن العمل في ظل هذه الأوضاع أسوأ شيء ممكن أن يتعرض له أي إنسان موجود على هذه الأرض. من طفل يطمح بالدراسة والتعلم مقتدياً بأبيه الطبيب، إلى يتيم تطحنه ظروف العمل وتشوهاته. عمل أمجد في أكثر من مهنة، بدءاً من خروجه مع ورشات عمال الزراعة، مروراً بالعتالة والتحميل والتنزيل، ومروراً بورشات الكهرباء والصحية، ومعامل الألبسة، وحتى بورشات الباطون والبناء، لينتهي به الأمر بأحد معامل أكياس النايلون وهو في هذه المهنة منذ قرابة خمس سنوات.
الراتب المعدوم... وتكاليف المعيشة
منذ بدئه العمل في معمل أكياس النايلون تطور راتبه بشكل لا يتناسب بالمطلق مع تطور تكاليف معيشته هو وعائلته، فببداية العمل كان راتبه لا يتجاوز ثلاثين ألفاً، واليوم يتقاضى 600,000 ليرة شهرياً، أي إنه قد تضاعف راتبه نظرياً حوالي تسعة عشر ضعفاً، في حين أن تكاليف المعيشة قد تضاعفت ما لا يقل عن ثلاثين ضعفاً، أي إن الراتب قد انخفض فعلياً ثمانية أضعاف عما كان عليه قبل خمس سنوات، بالمقابل ويوماً وراء يوم كانت تكاليف المعيشة في تزايد مستمر، ولا ننسى أن أمجد هو المعيل الوحيد لهذه الأسرة المنكوبة، المعيل الوحيد لأمه وأختيه وأبناء أخته، أما بالنسبة له ولاحتياجاته فهي آخر همه بل حتى إنها ليست من ضمن أولوياته، همه الوحيد أن تبقى هذه العائلة مستورة ومحمية من الجوع والبؤس أكثر مما هي جائعة وبائسة.
تشوهات سوق العمل.. والسياسات المتبعة
بالنظر إلى رحلة أمجد في سوق العمل منذ أن كان طفلاً يظهر جلياً حجم التشوه الذي تعاني منه هذه السوق خاصة تشوّه عمل الأطفال وازدواجية المعايير أثناء التعاطي مع الطفل العامل، فسوق العمل في ظل السياسات الاقتصادية المشوهة ينظر للطفل على أنه مجرد طفل أثناء تحديد راتبه، وينظر له كأنه أقوى رجل في العالم أثناء تحديد مهامه وما يجب أن يفعله، هو مجرد طفل نظراً لما يتقاضى، ولكن يتم التعامل معه على أنه معيل ومسؤول عند القسوة عليه وتشغيله بأعلى درجة من الشدة بما لا يتناسب مع طبيعة جسمه وضعفه ورقة عظامه وقصر قامته تحت حجة تعليمه وتأهيله وصقل تجربته من أجل أن يكون قادراً على مواجهة الحياة وصعوبتها.
وحال العمال الشباب والرجال وحتى العجزة لا يقل تشوها ًعن حال الأطفال، فما يتقاضونه لا يمت بصلة لا من قريب ولا من بعيد بما عليهم من مسؤوليات وتكاليف معيشية، ها هو أمجد الذي منذ كان طفلاً إلى أن أصبح شاباً بالعشرينيات حاله لم يزدد إلا بؤساً وفقراً وازدراءً وقهراً، هذا الفقر الذي يتشاركه مع أمجد جل أبناء الطبقة العاملة والكادحين المفقرين الذين عاشوا ظروف أمجد وتعرضوا لنفس المآسي التي رافقت الذين هُجّروا من بيوتهم ومناطقهم رغماً عنهم، نتيجة تطورات الأزمة، وما السياسات المشوهة والمتوحشة التي جوعتهم والتي انتهجتها الحكومات وفصلتها على قياس قوى النهب والفساد، وما الاستمرار بهذه السياسات إلا تضحية علنية بكل ما تبقى من هذه البلاد.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1133