حرفيو دمشق .. السندان واحد وأكثر من مطرقة
ريما الأحمد ريما الأحمد

حرفيو دمشق .. السندان واحد وأكثر من مطرقة

رفع عينيه عن قطعة الخشب الصماء وقد أضحت في ثوان بين يديه غابة ساحرة من الألوان، أفلت الفرشاة من بين يديه ونهض يحضر إبريق الشاي بعد أن غطت رائحته الزكية على روائح الأصبغة وعبق الأخشاب، يبدو أن الوقت قد حان لسماع الحكاية، الحكاية المتشابكة كتلك الخطوط الساحرة.. 

 

قصتنا اليوم عن فن العجمي أو الزخرفة النباتية على الخشب، الفن الدمشقي المرتبط بتراثنا على الدوام، انتقلت الورش إلى الريف مع التوسع العمراني، وأمست غوطة دمشق الخيار الأمثل، أجرة رخيصة والكثير الكثير من ورشات النجارة والطلاء مع توافر الخشب مادة أساسية لنشاط تلك الصناعات الفريدة، وخاصة بين زملكا وعربين وجسرين، كان الشباب عصب تلك الصناعة ومحركها، لم يكن دخل تلك المهن مجزياً، فكانت الضحية البكر للفقر المتزايد والتفاوت الكبير بين القدرة على الإنتاج والطلب الشحيح على تلك السلع المميزة، وبدأت تلك المحلات تغلق أبوابها واحدة تلو الأخرى بعد أن ألقت الأحداث الأخيرة أوزارها على ظهور أولئك الصناع، كانت الورشة تجاور المنزل، وكان رب الأسرة يجد في ذلك العزاء عن قوت اليوم الشحيح، ولم يعد قادراً على دفع المزيد إن أراد الانتقال إلى العاصمة وفتح ورشة له هناك، كان لابد له من أن يختار: إيجار المنزل أم إيجار الورشة، وكان الخيار واضحاً.

فنان الأعمال النادرة

وجد البعض منهم منفذاً آخر، ما زالت الطلبات تتوارد من خارج البلاد، وبالإمكان صناعة بعض التحف المميزة وتصديرها للخارج عن طريق علاقات خاصة قد تجمعهم بمن يلزم لتسويق تلك البضاعة بالحد الأدنى، وأخذت الزخارف الدمشقية الأصيلة تزين جدران القاعات البيروتية والمجالس الأردنية وصولاً إلى صالات تركيا ودول الخليج التي استفادت من وجود جالية كبيرة من السوريين على أراضيها، أخذت تلك الشبكة بالتجذر وأصبحت هناك طرق ثابتة ينقل فيها الفنان السوري نتاج عمله إلى بلدان وجد فيها من يقدر فيها عمله ويدفع له ما يستحق وأكثر لقاء هذه الأعمال النادرة.

انكسار الثقة

لكن الحظ لم يبتسم كثيراً لهم وعاود إرسال صفعة أخرى، ساهمت الأحداث الأخيرة على قطع معظم تلك الخطوط البرية مع دول الجوار، وأصبح الشحن البحري رئة الاستيراد والتصدير المتهالكة، لا مساعدات ولا تسهيلات ساهمت في إنعاش خطوط الإنتاج الخارجي تلك، وانكسرت الثقة الهشة بين المنتج والمستهلك، تأخير في التسليم وعطالة في التوزيع وفشل في التحصيل، تكاثرت التحديثات ودبت الحيرة في النفوس، وارتفعت أسعار المواد الأولية إلى حد لا يطاق، تلاشت الأخشاب المحلية من السوق وأصبح الخشب المستورد هو الخيار الوحيد، ارتفعت أسعار الأصبغة أيضاً وأصبحت زيادة سعر القطعة أمراً لا مفر منه، حلق الدولار دون أن يستطيع المستهلك الخارجي تفهم ذلك، وساهم السوريون منهم في زيادة الطين بله، إنهم يعرفون تماماً ما يعنيه الفارق الكبير بين الدولار والليرة وتشبثوا بالأسعار القديمة علهم يحققون المزيد من الربح، لم ينظر أي منهم بعين المراعاة لأجور مولدات الكهرباء والنقل المتصاعدة، ووقع صاحب الورشة بين المطرقة والسندان من جديد.

عروض مغرية

والآن، تتدخل بعض الجهات من خارج البلاد، وهي اليوم تقدم لأولئك الصناع المرهقين عروضاً مغرية للغاية، وأصبحت المعاهد والتجمعات الحرفية الدمشقية تقام في العديد من الدول الأوربية التي وجدت في تلك الأيدي العاملة فرصة مربحة للاستفادة من المواد الأولية المتوفرة لديها، أخذت الأصداف الدمشقية مكانها على مختلف الصناعات الألمانية، كما غزت مصانع الزجاج لبنان بأدق تفاصيلها، حتى بحرفييها السوريين، مع العلم بأن عدداً كبيراً من الحرفيين طالبوا وزارتي السياحة والثقافة برصد ميزانية لتعليم تلك الحرف وكانوا مستعدين لتقديم أي نوع من المساعدة مع العلم بتوافر القاعات المخصصة لتعليم هذه الحرف وتوفر المدربين بخبرة عالية من بين هؤلاء الحرفيين الغيارى على أسرار مهنتهم العريقة، ولكن لا حياة لمن تنادي، تكثر الوعود ولا تنفيذ. أصبح الخارج الآن وجهة الحرفيين الأولى، رغم أن بعضهم يُدعى إلى بعض المعارض ولكن لا يكفي بيع لوحة أو اثنتين لمعيشة يوم واحد، كما أن هناك دعوات لمعارض خارجية، ولكن ما من تسهيلات، فأجور النقل والسفر والمعيشة في البلد المستضيف هي على حساب الحرفي وفي النهاية، لا تضاهي قطعته القطعة الأجنبية لأن تكاليفها أعلى بحدود عشرة أضعاف ومع ذلك يتعامل بعض الحرفيين مع المعارض الخارجية على أنها تمثيل لبلادهم في الخارج .

في ظل هذه المعاناة كلها تطالب بعض الجهات الرسمية حرفيي دمشق أن يحافظوا على هذا الميراث الثمين، ولكن ما من تسهيلات من أي نوع لمحاولة الحفاظ على حرف باتت مهددة بالاندثار تماماً ناهيك عن نشرها وتعليمها للأجيال الشابة.. 

معلومات إضافية

العدد رقم:
786