هذا ما يجري عندما يصبح الفساد قانوناً
إذا كان الدستور يعد أبا القوانين، حيث أنه يكفل في الدولة الحديثة «كونه العقد الاجتماعي» حماية حرية المواطنين وحقوقهم من اعتداءات الدولة، لما تتمتع به من سلطة ونفوذ، وضمان المساواة والعدالة بين أفراد المجتمع، وباعتبار أنه يجب التمييز بين وظائف الدولة الثلاث، التشريعية و التنفيذية والقضائية.
وإن تقرير مبدأ دستورية القوانين يعني أن يكون سن أي قانون خاليا من العيوب، شكلية كانت أو موضوعية، وأن لا يشوب تفسيره أية التباسات قد تؤدي إلى أخطاء كبرى عند تطبيقه، وهذا الوضع يتبدى بوضوح في تلك المجتمعات والدول التي يكفل فيها الدستور الفصل بين السلطات الثلاث ، التنفيذية والتشريعية والقضائية ، وتمنح السلطة الرابعة جلالة الملكة «الصحافة الحرة » الحق بممارسة دورها الرقابي المهم، أما عندنا فالأمر مختلف جدا، وعلى سبيل المثال المادة 137 من النظام الأساسي للعاملين في الدولة، والتي تنص على: «مع الاحتفاظ بأحكام قانون الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش وأحكام قانون الجهاز المركزي للرقابة المالية:
1- يجوز بقرار من رئيس مجلس الوزراء بناء على اقتراح لجنة مؤلفة من وزير العدل ووزير الشؤون الاجتماعية والعمل ورئيس الجهاز المركزي للرقابة المالية صرف العامل من الخدمة وتصفى حقوق العامل المصروف من الخدمة وفقا للقوانين النافذة.
2- لا يسمح باستخدام العامل المصروف من الخدمة بموجب الفقرة/1/من هذه المادة /وذلك مهما كانت صفة هذا الاستخدام/ إلا بقرار من رئيس مجلس الوزراء يجيز ذلك» والالتباس الموضوعي الواقع في هذه المادة هو خروجها ومخالفتها لروح ومحتوى الدستور، أو إنكار حق من الحقوق المقررة فيه وهو حق العمل.
ولو كان يجري تطبيق هذه المادة تطبيقاً موضوعياً لا دخل للإرادات والميول الشخصية عند تنفيذ القانون لما حدث الالتباس، ولكن المشكلة أن تطبيق القانون في مجتمعنا لا يسير بخط مستقيم لا اعوجاج فيه بل العكس هو الذي يجري في أحيان كثيرة ودائما هناك «خيار وفقوس» عندنا ،وأول التباس يبدو في نص هذه المادة هي كلمة «يجوز» ، فالبعض فسرها أن المادة أعطت حقا مطلقا لرئيس الوزراء بصرف الموظف من الخدمة دون مراعاة الشرط الوارد بعد هذا الجواز، وهو أن يستند بقراره إلى اقتراح لجنة مؤلفة من وزير العدل ووزير الشؤون الاجتماعية والعمل ورئيس الجهاز المركزي للرقابة المالية صرف العامل من الخدمة، في حين أن المشرع يقصد بكلمة « يجوز » أنه أعطى الحق لرئيس الوزراء بالصرف من الخدمة على أن يستند إلى اقتراح اللجنة التي حددتها هذه المادة، وبمعنى أوضح أنه لا يجوز ولا يحق لرئيس مجلس الوزراء أن يصدر قرارا بصرف العاملين من الخدمة إلا بعد أن يستند في إصداره على اقتراح اللجنة، ويأتي الالتباس الثاني في تشكيل اللجنة، فرغم النص على أعضائها بصفتهم الوظيفية إلا أنه لم يحدد من هو رئيسها وكيف تقوم بأداء عملها وآلية عقد اجتماعاتها لأداء هذه المهمة الملقاة على عاتقها حسب نص المادة، وإن إغفال المشرع لهذه القضية نتج وينتج عنه تطبيق مخالف لها من جهة، ولروح الدستور من جهة أخرى، وحتى لا يقال إننا نتكلم بالعموميات ودون تحديد نبين أنه تم تطبيق المادة 137 هذه على عدد من المهندسين والإداريين والعمال في محافظتي دمشق وحلب، حيث تم صرفهم من الخدمة وبجرة قلم من رئيس الوزراء لأسباب تمس بالنزاهة دون أن يسند هذا القرار إلى اقتراح اللجنة التي كان يفترض بها أن تجري تحقيقا شفافا مع إيراد الإثباتات التي تدين هؤلاء.
إن المشكلة التي يعاني منها وما زال المصرفون من الخدمة ، تتمثل في أنه تم صرفهم من الخدمة بقرار «قراقوشي» بامتياز، حيث تم صرفهم هكذا فجأة ودون إنذار مسبق، بل حتى دون تحقيق يصدر عنه إدانة لهم، وإن الفساد المستشري في مجتمعنا «والذي هدد ويهدد الوطن ليس في استمراره فقط بل حتى في وجوده كبلد حر مستقل يحافظ على كرامة مواطنيه ويحفظ حقوقهم ويعاقبهم متى خالفوا القانون ومدوا أياديهم إلى المال العام»، هو الواقف فعلياً خلف اتخاذ هذا القرار ليخفي فساده ونهبه للمال العام باتهامه الناس الشرفاء بمثل هذه التهم، وذلك تطبيقا للمثل الشعبي «يريد تغطية السموات بالقبوات».
تقول القاعدة الفقهية إنه «عندما تتعارض المصلحة العامة مع المصلحة الخاصة فتفضل المصلحة العامة»، لذلك أصبح طي هذا القرار الذي صدر مخالفا لنص القانون وبالتالي طي ذيوله الاجتماعية الكبيرة التي أصابت بسهامها هؤلاء الموظفين من مهندسين ومهندسات وإداريين وإداريات وعمال وعاملات أمرا فيه الكثير من المصلحة العامة، وإن إعادة الأمور إلى نصابها بعد ثمانية شهور يقتضي أن لا يصح في وطننا إلا الصحيح، فهل من مستجيب يحافظ على الوطن وعلى كرامة المواطن أم لا؟ إنه سؤال لا بد للأيام القليلة القادمة أن تجيب عليه.