العمالة المهاجرة وخياراتها الصعبة!
تزايدت أعداد العمالة المهاجرة لخارج البلاد بفعل استمرار الأزمة الوطنية الكارثية وبشكل كبير، وطبعا اختلفت الأسباب في جزئياتها ولكن الأسباب الكبرى الأساسية واضحة ولا تحتاج لمئات التحليلات الاعلامية المسيسة التي لا تمل من نكرانها للواقع والالتفاف عليه.
السفر من أجل الادخار
لا يمكن اعتبار ظاهرة سفر الأيدي العاملة لخارج البلاد بقصد العمل ظاهرة طارئة أو جديدة، بل هي ظاهرة لطالما كانت حاضرة، ولكن المتغير في ذلك أمران أساسيان، أولهما زيادة حجم هذه القوة العاملة ونوعيتها، وثانيهما أسباب هذا السفر وأهدافه ونتائجه، ففي فترة السبعينيات والثمانينيات مثلا ،والتي شهد فيها القطاع العام نهوضاً اقتصادياً، من خلال قيادته لكافة أفرع الاقتصاد الوطني، الزراعي والصناعي والإنشائي والخدمي ...الخ، تلك الفترة التي استنفرت فيها كل القوى العاملة على مساحة الوطن للتجاوب مع طبيعة المرحلة واستطاعت الدولة أن تلعب الدور الأساسي في الحياة الاقتصادية والاجتماعية من خلال تركيزها على المشاريع الإنتاجية الحقيقية كالزراعة والصناعة وتبنيها لسياسة الدعم المباشر من خلال التعليم المجاني والطبابة و الدعم الفعلي لمشتقات النفط ورغيف الخبز والمواد الضرورية الأخرى كالسكر والرز والشاي والزيوت.. إلخ
فهبطت نسب البطالة لأدنى مستوياتها وغادرت الأسر العمالية المعتمدة أساسا على الأجر دائرة الحرمان تدريجيا ولنتخفض نسبة المسافرين لأجل العمل كماً ولترتفع نوعاً بسبب الطلب المتزايد على العمالة السورية الخبيرة وخاصة المهنية والحرفية منها في الخليج الذي بدأ يستفيد من ريع النفط فشاركت الخبرات السورية في ذلك النشاط الحاصل هناك بشكل فاعل وكبير، ولم يكن هدف العمال من السفر سوى الاستفادة من الفارق الكبير بالأجور بين الأجر الخارجي والمحلي والذي يوفر سنوات عديدة على نفسه لتحقيق هدفه في ادخار ثمن منزل وتكاليف زواج أو مبلغ ما يكفي مشروعه الصغير الذي يريد انجازه ضمن الوطن، اذاً فقد ارتبط السبب الحقيقي للسفر المحدد زمنياً عند العامل السوري برغبته الشخصية في تحسين ظروف معيشته أو لتجميع مبلغ ما يحقق له قفزة نوعية في مشوار حياته وكانت نتائج هذه العملية اكتساب هؤلاء العمال لخبرات جديدة يمكن استثمارها لاحقا بالإضافة للقطع الأجنبي الذي يدخل عن طريقهم للبلاد سواء بحوالاتهم لأسرهم أو خلال عودتهم بإجازاتهم السنوية ناهيك عن الفائدة العامة في عدم فسح المجال لتشكل فائض بالأيدي العاملة في سوق العمل المحلية فثمة أعداد كبيرة تدخل سوق العمل سنويا من متخرجي الجامعات و المعاهد المتوسطة ومن العمالة الزراعية التي تحولت للصناعة بسبب تطور وسائل الإنتاج الزراعي.
حلم السفر
بسبب السياسات الحكومية
في الفترة اللاحقة وتحديدا مع بداية التسعينيات استمرت الأيدي العاملة في السفر طلبا للعمل مع اختلاف في الأسباب والأهداف فالمزاحمة على الوظائف والشواغر بين الوافدين على سوق العمل اشتدت ولم يعد خريج المعهد يضمن وظيفته قبل التخرج كما كان في المرحلة التي سبقتها فارتفعت نسبة المسافرين كماً ونوعاً للعمل في أسواق العمل الخليجية الصاعدة وسوق العمل اللبناني الذي دخل مرحلة الإعمار ووجد العامل بديلا مثاليا يبعده عن طابور البطالة الذي بدأ يكبر حينها في البلاد، ورغم أن الفارق بالأجور بين الخارج والمحلي تقلص بسبب العمالة الآسيوية الرخيصة التي بدأت تتوافد بكثرة في سوق الخليج فخفضت أجر العمال السوريين وكذلك بسبب الأعداد الكبيرة للعمال السوريين في لبنان التي جعلت الطلب أعلى من العرض فتدنت أجورهم، فإن السفر كان أحد الحلول التي تؤمن عملا مأجورا يكفي معيشة الأسرة العمالية بشكل جيد واستمر الحال لبداية الألفية الجديدة مع تمكن الحكومة من إخضاع البلاد والعباد لسياساتها الاقتصادية الليبرالية التي تبنتها ومارستها، تراجع دور الدولة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية وترك العمال يعانون من تمادي رأس المال في نهبهم وتراجع الدولة عن دعم المواد الأساسية النفطية منها والغذائية ليتحول السفر لحلم يراود العمال وخاصة الشباب خوفا من بطالة ارتفعت لنسبة قياسية فالسفر للعمل أفضل من العمل عند شركة تجارية كمندوب مبيعات بأجر لا يتجاوز تسعة آلاف ليرة شهريا أو الجلوس في المنزل.
مع تفجر الأزمة ارتفعت نسبة الايدي العاملة المسافرة بشكل متواتر وكبير لعدة أسباب أولها ارتفاع منسوب العنف بعد عسكرة الأزمة وتحول الكثير من المناطق التي يتمركز فيها الإنتاج الزراعي والصناعي لمناطق اشتباك وتعطل مئات الآف العمال عن العمل وأما من بقي على رأس عمله فإن أجره الذي أخذ بالتآكل شيئا فشيئا لم يعد يكفي لأدنى احتياجات أسرته فوجد بالسفر أو الهجرة حلا ينقذ أسرته من خطر الحرب ومن خطر سياسات الحكومة التي اضعفت صموده المعيشي لتخسر البلاد تلك القوى البشرية الهائلة المدربة والخبيرة ليتلقفها الآخرون من دول الجوار ودول ما بعد البحار.