من صباح الزيادة... إلى الشعب يريد..
كما في كلّ صباح، ما أن أدخل مكان العمل حتى تستقبلني إحدى الزميلات بسؤالٍ سريع وبلهفةٍ: «أنت متباوع، وتقصد مُطّلع باللهجة المحلية، ومُتابع للأوضاع، هل هناك زيادة رواتب؟»
الحقيقة أنني كنت أقف كل يومٍ حائراً أمام لهفتها وأهمية الجواب لديها، رغم بساطة السؤال! فإن أجبتها بالنفي سأسبب لها صدمةً نفسية وإحباطاً، وستبقى واجمةً طيلة الدوام، فينعكس على الزملاء والزميلات، وربما في البيت كذلك على أسرتها، زوجها وأطفالها، وعلى الجارات أيضاً. ولا أستطيع أن أقول: نعم. لأنّ الوقائع وما تقوم به هذه الحكومة يتنافى مع وعودها، ومع حاجات الناس ومعاناتهم، وينطبق عليها المثل: يا طالب الدبس....
وإن سكتُّ وامتنعت عن الإجابة، فربما ستعتبر هذا التجاهل موقفاً شخصياً، فلا أجد بداً من أن أقول: «نسمع إشاعاتٍ لا أعلم مصداقيتها، ولا أعلم مصدرها، إنما يرددها الناس، وكذب المنجمون ولو صدقوا!» فتجلس فوراً وتسترسل هي بالحديث: «سمعنا أنّ هناك زيادة 17%» ويبدأ الزملاء والزميلات الآخرون بالمشاركة وسرد الشائعات التي تُرَوَّج هنا وهناك، ولا يُعرف مَن وراءها، وأنّ هناك حُزمة من القرارات ستُتَّخَذ قريبا في 8 آذار، ويوجد منحة للأمهات في عيد الأم خمسة آلاف ليرة سورية، وغيرها. ثم ينتقلون إلى (الشكوى) من ارتفاع أسعار السكر والرز والزيت والفروج والبيض، ثمّ إلى متطلبات المدارس والأولاد، ثمّ إلى الصحة والأمراض وغلاء الأدوية، ثُمّ إلى الحقوق المهضومة والفساد المستشري من رشوة ونهب، ثُمّ إلى فواتير الماء والكهرباء المرتفعة، والإيجارات وتكاليف الزواج وارتفاع أسعار الذهب و..و.. ترهقهم ذِلّة، إذ لا حول لهم ولا قوة.
عندها أتساءل: من المسؤول عن ذلك؟ وهل الزيادة ستحل كلّ هذه المشاكل الكبيرة؟ فيسارع البعض للتهرب من الحديث: «دخلنا في السياسة، اتركونا منها فالحيطان لها آذان» فأتساءل مرةً أخرى: «لماذا تخافون، على الأقل نعرف ما لنا وما علينا!» فيجيب أحدهم: «نبعد عن الشر ونغنيله!». فينتقل الحديث إلى محاولات تشكيل جمعية مالية بـ500 ليرة أو ألف ليرة في الشهر، وفي أحسن الأحوال ألفين، ويجري نقاش حول من سيكون صاحب الدور الأول، ويبدأ الراغبون به بتعداد مصائبهم وحاجتهم للظفر به.... وهكذا كلّ يومٍ!
في الفترة الماضية فرضت الأحداث والانتفاضات الشعبية إيقاعا آخر للحديث يتناسب مع تطوراتها، فيأتي الزملاء بوجوه (متهللة) هرب بن علي المجرم في تونس، رحل مبارك الخائن في مصر، يا الله على جدة في السعودية، بيستاهلوا، علقت في ليبيا والبحرين والعراق والأردن واليمن والجزائر، الدور على مين؟ هل سقط أبو قذيف؟ الخيانة والعمالة والفساد؟ استشهاد العشرات، المئات، الآلاف؟ ويبدأون برواية المشاهد والمآسي....
قصيدة أبو القاسم الشابي وبيتها المشهور: إذا الشعب يوماً أراد الحياة... وأحمد شوقي: وللحرية الحمراء بابٌ... ومحمود درويش: حاصر حصارك، والأغاني الوطنية القديمة وأغاني الشيخ إمام ومارسيل خليفة، كلها أُعيدَ لها الاعتبار، في الشارع والسرفيس، لأن دير الزور هي المدينة الوحيدة التي لا يوجد فيها باصات نقل داخلي، الأحاديث ذاتها، لم يعد الناس يشكون مآسيهم، إنما يتحدثون عمّا (يريدون) بشكلٍ غير مباشر، وعن دور أمريكا ووسائل الإعلام والفيس بوك والشباب وحقوق المواطن، والفاسدين الكبار، وأنّ الأسعار لم تنخفض رغم مرسوم تخفيض رسوم الجمارك، بل زادت أسعار العديد من السلع، لكن الكثيرين في غمرة الأحاديث نسوا، عن غير قصد، الجولان المحتل وما يجري في فلسطين..
كما لم يخلُ الحديث من بعض الفكاهات: الزوج يريد إسقاط المدام، الأولاد في البيوت يهتفون: الشعب يريد أكل الموز، الطفل يريد شرب الحليب، التلاميذ في إحدى المدارس: الشعب يريد إسقاط المدير....
لا شك أنّ هناك أشياء كثيرة تغيرت، وأخرى ستتغير برغبةٍ أو دون رغبة، وأشياء كثيرة (يريدها) المواطنون ويعرفها كبار المسؤولين، لكن، هل يستجيبون الآن لتعزيز مناعة الوطن، قبل أن تقع الفأس بالرأس؟ أم سنصل إلى قول المثل الشعبي: صواب الشيخ فات....