الحركة النقابية العمالية أمام تحديات أساسية.. نحو مؤتمر لتقييم أداء الحركة النقابية في ضوء المستجدات السياسية والاقتصادية
كل شيء يعاد النظر فيه، من أبسط المعتقدات إلى أعقد البنى، وسورية منذ التسعينيات من القرن الماضي أنهت مرحلة سياسية واقتصادية من خلال اقتصاد السوق الاجتماعي، وجرى ما جرى خلال السنوات اللاحقة على الصعيد الاقتصادي من تحرير للتجارة إلى قوانين شجعت على الاستثمار من خلال الإعفاءات، والتسهيلات إلى تراجع الانفاق الاستثماري العام، وتشهد بذلك الموازنات العامة للدولة منذ العام 1995، وصولاً إلى عرض أبرز الشركات الاستراتيجية في القطاع العام إلى التشاركية، وإلى التصفية، إلى عدم التوافق على إصلاح الشركات المتغيرة في القطاع العام.
إن تحرير التبادل التجاري والإجراءات الأخرى التي اتخذت أوصلت البلد إلى ما وصل إليه، وخلق صعوبات كبيرة وتحديات بالنسبة للقطاعين العام والخاص، وقد واجها في السنوات الماضية منافسة كانت حاسمة أدت إلى إفلاس عشرات الشركات في القطاع العام، وإلى إغلاق شركات القطاع الخاص المنتجة.. وأمام هذا الواقع وانعكاساته وقفت الدولة عاجزة عن تمويل مشاريعها الاجتماعية أي الانفاق على التعليم والصحة وغيرها، بالإضافة إلى العجز وعدم الوفاء بتصريحات يومية كنا نسمعها عن تمويل تعويض البطالة، وغير ذلك من أساسيات مسؤوليات الدولة.
دور الحركة النقابية
ما أشرنا إليه سابقاً اعترفت به الحركة النقابية في أدبياتها ومجالسها ومؤتمراتها، وأكدت في هذا الصدد بأن هناك تحديات للاقتصاد السوري ولسوق العمل، وهو ما ينعكس على الحركة النقابية السورية التي تجد نفسها الآن في ظروف تستلزم العمل الشاق والتفاني من أجل الحفاظ على مكتسبات الطبقة العاملة والمساهمة في خلق فرص عمل باستمرار، وفي هذا الخصوص أوجز تقرير المؤتمر الخامس والعشرون لاتحاد العمال الذي عقد في 2007 التحديات أمام الحركة النقابية السورية بالآتي:
تحدي البطالة ولاسيما في صفوف الداخلين إلى سوق العمل.
تحدي تخفيض الدخول الحقيقية في ظل ارتفاع الأسعار وتخفيض المراقبة التموينية وتفعيل أدوات السوق إلى أقصى الحدود.
عدم البدء بإصلاح القطاع العام وعدم التوسع والتجديد لخطوطه الإنتاجية.
التحدي التنظيمي المتمثل في عزوف الشباب عن الانتساب إلى النقابات لأسباب متعددة أهمها البطالة نفسها، وطبيعة القطاع الذي يعملون فيه ولاسيما في القطاع الخاص غير المنظم.
ولكن هذا لم يحدث، وبقيت الحركة النقابية في مواقف عديدة مترددة، وفي موقف خجول من عدم امتثال الحكومات المتعاقبة على تنفيذ مطالبها، وهنا نسأل: لماذا لم تكن إجراءات أكثر قوة بوجه تلك الحكومات؟
إن الذي يجب قوله وبكل وضوح إن الوصاية على الحركة النقابية لم تعد مقبولة، ومرفوضة حتى من الأحزاب الوطنية والتقدمية، والتي تدعم الحركة النقابية.. والتاريخ يعلمنا بأن الحركات النقابية تحترم وتجل مواقف الدعم والوقوف بجانب الطبقة العاملة ومطالبها من الأحزاب ولكن المرفوض من الآن فصاعدا المس باستقلالية الحركة النقابية وقراراتها وآرائها وتحركاتها.
دور الحركة النقابية
نعم هنا تكمن المشكلة الاساسية، لأن التحول نحو اقتصاد السوق اتخذ بقرار وبتوجيه من القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي، وكان عبد الله الدردري نائب رئيس مجلس الوزراء للشؤون الاقتصادية يكرر في جميع مجالس اتحاد العمال وأمام مداخلات النقابيين التي كانت تحذر وتندد باقتصاد السوق الاجتماعي ما يلي: «نحن ننفذ ونتلقى تعليمات وتوجيهات من القيادة السياسية في الحزب، ونحن لسنا أصحاب القرار»، وكان هذا يدعو للصمت وإغلاق أي حوار من أكثر القيادات النقابية، لذلك بقيت الحركة النقابية تتفرج على الانهيار الاقتصادي وتآكل حقوق الطبقة العاملة رغم معرفتها المسبقة.
عندما سألني أحد الزملاء عن أهمية وجود النقابات ودورها إذا لم تستطع أن تحقق المطالب العمالية التي نشأت أصلاً من أجل تحقيقها. أخذت تساؤله على محمل الجد والنية الصادقة والحرص الحقيقي على وجود فاعل للحركة النقابية، وسألته بدوري أن كان على إطلاع بمجمل المطالب والمكاسب السابقة التي حققتها الحركة النقابية السورية فجاء رده بالإيجاب؟!.
وأكدت في الحوار نفسه أنه وإذا كان لابد أن تعلم بأن الحركات النقابية عموماً تكون في بعض المراحل مضطرة إلى مراعاة الظروف التي تحيط بها، وعلى سبيل المثال عندما مرت غالبية دول أوروبا الغربية بظروف الحرب العالمية الثانية، فإن النقابات ساهمت بدورها في الحملة الوطنية للدفاع عن الوطن، أو ساهمت مساهمة فعالة في المجهود الحربي، وتراجعت القضايا المطلبية وتم تجميدها، والأمر نفسه يمكن أن ينطبق على أية دولة أخرى تجد الحركة النقابية فيها أن اي قضايا مطلبية من الممكن أن تفسر بطابع معين في مرحلة وطنية حرجة، ونحن لا نقول بأنه يجب على الحركة النقابية أن تتجاهل القضايا المطلبية للعمال، بل على العكس يجب أن تعمل في القضايا المطلبية وإبرازها، ولكن من خلال ظروف هادئه وقانونية، وهكذا فالحركة النقابية السورية وعبر أكثر من 50 عاماً وهي تقدر الظروف الموضوعية والمرحلة الحرجة التي يمر بها الوطن..
الدور الجديد
في السبعينيات وحتى أوائل التسعينيات من القرن الماضي كان دور الدولة يتزايد في إدارة وتوجيه النشاط الاقتصادي، وخلال هذه العقود وقع على الدولة العبء الأكبر في توفر فرص العمل اللازمة لامتصاص فائض العرض من قوة العمل من خلال تبني سياسة رسمية تقوم على التزام الدولة بالتشغيل، وقد نجحت هذه السياسة في تحقيق التشغيل الكامل للأيدي العاملة في القطاع العام والوحدات الإدارية، ولعب القطاع العام دوراً هاماً على جميع الأصعدة، وكان يبرر للحركة النقابية إلى حد ما صمتها والتدخل في استقلاليتها، وإن كان مرفوضاً جملة وتفصيلاً، أما بعد التسعينيات والمتغيرات الاقتصادية التي حدثت فإن دور الحركة النقابية كان يجب أن يتغير.. كان يجب أن نكون أمام دور جديد في اقتصاد آخر مع كل ما يحمله هذا الاقتصاد من سمات النظام الاقتصادي العالمي الجديد، وبما يحفل به من تكتلات اقتصادية وحرية تجارة وسيادة العولمة التي تتلاشى معها.
المرحلة القادمة
أمام هذه المعطيات ومع دورة نقابية عمالية جديدة في أوائل العام القادم بعد الانتهاء من الانتخابات من حق العمال، ومن حق كل القوى السياسية، والتيارات الفكرية تقييم أداء الحركة النقابية خلال العقد الماضي لذا يجب التأكيد على أن أي تقييم لكي يكون موضوعياً يجب أن ينطلق ليس من مقارنة هذا الأداء بما سبقه، وإنما من توافق هذا الأداء مع ضرورات الواقع ومتطلباته، ولكن وقبل كل شيء لابد من إعادة النظر في هيكلة الحركة النقابية، وإعادة نظر شاملة في البنية التنظيمية، والقيادات النقابية في جميع مستوياتها تدرك طبيعة ما تحمله هذه المرحلة من تحديات، وهذه التحديات تتطلب إصلاح البيت الداخلي أولاً قبل فوات الأوان من أجل الخروج الآمن من الأزمة.