رحيل روبن ويليامز.. أو عندما تصمت الحياة قليلاً
لا شكّ في أن رحيل ممثل أصيل كالأميركي روبن ويليامز (63 عاماً) يصنع لحظة تأمّل في معنى الحياة والموت.
فالهوليوودي الذي وضع حدّاً لحياته أمس الاثنين، أتقن فنّ الإضحاك السينمائي، كإتقانه فنّ الدراما الحقيقية في مقارباتها أحوال الذات الفردية البحتة. والممثل الذي صنع من الكوميديا ملاذاً للبوح الذاتي عن تفاصيل الحبّ والأبوّة والصداقة، كما لبراعة التمرين الدائم على ابتكار أشكال جديدة للضحك، هو نفسه الممثل الذي أبدع في مهنته الموزّعة على أدوار تغوص في تشعّبات الحياة ومتاهاتها، وتغرق في ارتباكات المواجهة الحتمية مع الموت أيضاً، من دون أن تتغاضى عن قسوة اليوميّ، وانهيار المُثل. هو نفسه الكوميدي الذي جعل "حرب فيتنام" مثلاً نموذجاً للإضحاك المتضمّن أروع مفردات النقد والسخرية، وأجمل التقاط لأسوأ الآلام الممكنة ("صباح الخير فيتنام" ـ 1987، باري ليفنسون)، والذي أخضع مرض السرطان عند الأطفال إلى جبروت براعته في استبطان أجمل الابتسامات من الوجوه المريضة، التي تشعّ فرحاً به، والتي تعشق حضوره فيها ("باتش آدامر" ـ 1998، توم شادياك).
لكن رحيل روبن ويليامز لن يكون مجرّد موت جديد يُضاف إلى لائحة المبدعين الكبار، الذين يغيبون في لحظة مفاجئة، لأن الموت يأتي دائماً على غفلة، وإن كان متوقّعاً حدوثه أحياناً. رحيله، بالطريقة التي قيل إنه استعان بها لتحقيق موته (فرضية الانتحار اختناقاً)، أشبه بمحطّة خالية من كل الناس ومن كل شيء، لكنها مليئة بكَمّ هائل من الذكريات والتفاصيل. أشبه بصمت يُفترض به أن يفتح الماضي على أبوابه الكبيرة، وأن يصنع من الراهن شرطه الإبداعي في مقاربة معنى الموت انتحاراً لممثل كوميدي رائع، وأن يضع المقبل من الأيام أمام مزيد من التحدّيات السينمائية المتعلّقة أساساً بسؤال الكوميديا التي يؤدّيها ممثل دراميّ أدرك كيفية التفوّق على الذات في أدوار عديدة له.
لن يمرّ رحيل روبن ويليامز بسهولة: "لا أصدّق أنه لن يكون معنا هنا بعد الآن"، كما قال ستيفن سبيلبيرغ، الذي أداره في "هووك" (1991)، مضيفاً أن روبن "كان شعلة عبقرية كوميدية"، ومشيراً إلى أن الضحكات التي كان يبثّها في المشاهدين "أشبه بصاعقة كانت تدفعه إلى الأمام دائماً". "تغريدة واحدة غير كافية للبدء بوصف عظمة موهبته، وكِبَر قلبه وروحه"، كما غرّد بن ستيلر، واصفاً الحالة هذه بقوله إنه "أمر محزن للغاية". ستيلر نفسه شارك ويليامز بسلسلة أفلام "ليلة في المتحف"، التي يُفترض بالعروض التجارية لجزئها الثالث أن تبدأ في 11 شباط 2015. ومع أن هذه السلسلة تحديداً ظلّت في إطار النمط الكوميدي التقليدي والعادي، إلاّ أن حضور روبن ويليامز فيها، كحضوره في أفلام كوميدية أقلّ أهمية، يُحوّل اللقطات إلى ضحك عميق وراق.
مشاركته في أفلام كوميدية عادية لم تقف لحظة واحدة أما عبقريته الفذّة في صناعة التمثيل كمهنة واحتراف، وكأداة عيش وتعبير. مشاركته المستمرّة في تنويعات كوميدية متفرّقة لم تبعده عن المواضيع الإنسانية العميقة، التي تطرح سؤال الفرد وسط الجماعة، ومعنى العزلة وسط الحراك، ومعنى الإنسان وسط المجتمع، ومعنى الانقلاب على التقليد وسط التمسّك الفجّ به: "مجتمع الشعراء الموتى" (1989) لبيتر واير، "استيقاظ" (1990) لبيني مارشال، "تفكيك هاري" (1997) لوودي آلن، "ويل هانتنغ الطيّب" (1997) لغاس فان سانت، "أرق" (2002) لكريستوفر نولان. هذه أمثلة قليلة جداً، لكنها قادرة على إضاءة الجانب التمثيلي البحت، المهنيّ والفنيّ والحرفيّ والعبقريّ، في شخصية رجل أراد التمثيل مهنة، فحوّلها إلى أسلوب حياة وخلق وابتكار.