«المُساعَدَة المُهلٍكَة» لراوول بيك.. أكذوبة الرأسمال
نديم جرجوره نديم جرجوره

«المُساعَدَة المُهلٍكَة» لراوول بيك.. أكذوبة الرأسمال

لم يكن الزلزال العنيف، الذي ضرب هايتي في 12 كانون الثاني 2010 مخلّفاً وراءه كارثتين كبيرتين، بشرية ومادية، السبب الوحيد الذي دفع المخرج الهايتي راوول بيك إلى إنجاز فيلم وثائقي بعنوان «المُساعَدَة المُهلِكَة»،

والذي يؤشّر إلى الفعل الحقيقي الكامن في النصّ السينمائي هذا. ذلك أن المضمون الدرامي والمسار المتسلسل للحكاية الإنسانية يكشفان أن الدافع كامنٌ في رغبة المخرج في قراءة العمل الدولي الخاصّ بالكارثة هذه، والفضائح الناشئة منه، والتناقض الخطر القائم بين واقع محتاج إلى أبسط المساعدات الإنسانية البحتة، وسلوك «المجتمع الدولي» المتواطئ مع بعض «أهل البلد» المغاير تماماً للحاجة تلك، إن لم يكن نقيضها.

«أميّز تماماً بين المساعدات الإنسانية الطارئة والمساعدة على إعادة البناء والتطوير»، قال بيك (مواليد هايتي العام 1953، ووزير ثقافتها بين العامين 1996 و1997)، مُضيفاً أن المأزق الخطر كامنٌ في أن المساعدات اللاحقة، المتعلّقة بإعادة الإعمار تحديداً، «لم تعمل أبداً»، لأن هناك مزيجاً من قوّة الفساد والسرقة وشراسة المصالح الدولية وبشاعة التعاون الداخلي، وكلّها تعمل في آلية واحدة. المبلغ الموضوع للمساعدات، المجموع من دول عديدة ومنظّمات دولية مختلفة برعاية الأمم المتحدة والبالغ 5 مليارات دولار أميركي، يستدعي أنماطاً متنوّعة من الـ«هدر»، بل من الفساد. كان يُفترض بالمبلغ المذكور أن يُصرَف في الأشهر الثمانية الأولى بطريقة سليمة، على أن يلحق به مبلغ آخر يساوي 11 مليار دولار أميركي يجب صرفه في الأعوام الخمسة اللاحقة. لكن «هناك شيء عفن» في هايتي، حتّم على بيك إنجاز فيلم يُعبّر عن غضبه وقلقه، وعن بؤس الحالة وشقاء المرحلة.

المشكلة التي جعلت «المُساعَدَة المُهلِكَة» شهادة قاسية تتساوى وقسوة التعاطي الدولي مع هذا المأزق، كامنةٌ في أن «هايتي هي الفشل الأخير ـ في حينه ـ للمجتمع الدولي». الشهادة تلك تنطلق من وقائع وأرقام، من دون التغاضي عن الجانب الإنساني البحت، الذي تعرّض بدوره لكارثة أصابت الناس في مَقْتل، والتي عرّت السلطات السياسية والاقتصادية والمالية في هذا البلد. يتحوّل الفيلم إلى تفعيل لملامح لحظة راهنة، تمتدّ من الخسائر الفادحة التي مُنِيَ بها الناس الفقراء، إلى متاهة العمل البيروقراطي المتلائم والفساد والفوضى وسطوة المصالح الضيّقة. وإذا غاص راوول بيك في تلك المساحات الشاسعة من التمزّق والعفن كي يروي حقائق مُقلِقة، فإن تعليقات نقدية عديدة أجمعت على أن هذه «الشهادة الفيلمية» هي ـ فعلياً ـ «صادمة ومستفزِّة».

في مئة دقيقة، يكتشف مشاهدو «المُساعَدَة المُهلِكَة» تلك البراعة السينمائية الوثائقية في التحايل على الفن من أجل الواقع، وفي جعل الوقائع ركيزة بناء فني يتّخذ من الوثائقي شرطاً للبوح، وأداة للكشف، ومعاينة دقيقة لوقائع مذهلة بقوة سلبياتها. الإنساني مسحوق أمام بطش السلطات المالية والاقتصادية والسياسية، والأنقاض مُعين لا ينضب لمن ارتأى إعلاء الشأن الذاتي على حساب المتطلّبات الإنسانية الشرعية والطبيعية للجماعة. والمشرّدون (نحو مليون ونصف مليون مواطن هايتيّ) باتوا «لقمة سائغة» في أفواه أصحاب النفوذ والمصالح، منتظرين الحصول على ما وُعدوا به من مساعدات، وهو أساساً حقّ طبيعي لهم. والجغرافيا المدمَّرة بفعل الزلزال بدت كأنها تنقل الخراب (أو تفضحه بالأحرى) المعتمل في نفوس وعقول مهووسة بالمال والأنانية والتعالي.

هذا كلّه ـ وأشياء أخرى متنوّعة مرتبطة بالنواة الدرامية الأساسية لـ«المُساعَدَة المُهلِكَة» ـ موجود في فيلم وثائقي لم يقف البُعد الإنساني والغضب الفردي لمخرجه حائلاً دون تحقيق فيلم سينمائي متكامل، خصوصاً أن راوول بيك كان أحد أوائل المخرجين الذين ساهموا في تسليط الضوء (السينمائي والإنساني) على «منطقة الكاريبي» أيضاً، في فيلمه الأول «رجل على السطح» (1994).

 

المصدر: السفير