خارج المسابقة في كارلوفي فاري.. صناعة الوحوش
نديم جرجوره نديم جرجوره

خارج المسابقة في كارلوفي فاري.. صناعة الوحوش

خارج إطار المسابقة الرسمية الخاصّة بالدورة الـ 49 (4 ـ 12 تموز 2014) لـ«مهرجان كارلوفي فاري السينمائي الدولي»، تنوّعت الأفلام ومواضيعها. تنوّعت مناخاتها الدرامية وفضاءاتها الجمالية أيضاً.

 الخلاصة التي انتهى إليها متابعو المهرجان كامنةٌ في أن الدورة الأخيرة هذه كانت الأضعف منذ أعوام عديدة. يعاني المبرمجون مأزقاً سنوياً: محتاجون هم إلى أفلام تُعرض في المهرجان للمرّة الأولى، بينما تتمّ «محاصرتهم» من مهرجاني «كانّ» (أيار) و«فينيسيا» (آب ـ أيلول). هذان مهرجانان أكبر وأهمّ. لذا، يُفضّل سينمائيون كثيرون التوجّه بجديدهم إليهما. المسابقة الرسمية بأفلامها الـ 12 عاجزة عن تأمين حدّ معقول من جماليات سينمائية حديثة. برامج أخرى متضمّنة عناوين أفضل وأهمّ، كـ«اختطاف ميشال ولبيك» للفرنسي غييوم نيكلو (نظرة أخرى)، و«الشِلَّة» للأوكراني ميروسلاف سلابوشبيتسكي (حدثٌ خاص)، و«كود ايرات ديمونستراندوم» للروماني أندريه غروزنتشيكي (خيارات نقّاد «فارايتي»: أوروبا الآن).

 

لعبة اختفاء

هذه تنويعات مثيرة للاهتمام. «اختفاء» الكاتب الفرنسي ميشال ولبيك في العام 2011 أفضى إلى «اختراع» قصّة اختطاف. ليس اختفاءً، بل اختيار واعٍ للمنفى في إيرلندا والأندلس. ليس اختطافاً، بل محاولة للتحايل على الذات والمجتمع والبلد والتاريخ والحكايات. او ربما محاولة للّعب. الكاتب المريض والمُتعَب والمدخِّن الشره والمتعطّش «الدائم» للمرأة والقراءة والنبيذ والكتابة، يجد نفسه بين أيدي 3 شبان يمتلكون حدّاً كبيراً من المعرفة والأسئلة والرغبة في النقاش. لم يُخفوا وجوههم، بل كانوا منكشفين أمامه طوال الوقت. لم يضعوه في غرفة محكمة الإقفال، بل في مزرعة خاصّة بوالديّ أحد الـ«خاطفين». حوارات مشوّقة عن الحب والجنس واليهود والغجر وبولندا (أحد الوالدين بولندي الأصل) والديموقراطية، بالإضافة إلى سخرية مريرة وقاسية أتقن الكاتب ممارستها. هذا كلّه حدث في العام 2011 إذاً: بضعة أيام فقط كفيلةٌ بالتنبّه إلى اختفائه ـ «اختطافه». لم يظهر حينها لا في أمستردام ولا في لاهاي ولا في بروكسل، المدن التي كان يُفترض به التوجّه إليها لإطلاق كتاب جديد له. أيام قليلة مكشوفة أمام كاميرا غييوم نيكلو بمزيج توثيقي ـ روائي. مكشوفة أمام عدسة متحرّكة، وكادرات تحاول اختراق المبطّن، وكشف ما يحتويه من متعة اللعب العبثيّ.

فيلم «غريبٌ» ومُضحك وقاس. «عبثية» الكاتب وسخريته قاسيتان. لعبة الخاطف ـ المخطوف متقنة الصُنعة، كإتقان ولبيك لعبة مواجهة مصيره بذكاء حادّ. العلاقات الناشئة بينه وبين كل واحد من المُشاركين بعملية «الخطف» جزءٌ من التكوين الثقافي ـ الإنساني ـ المعرفيّ لرجل محصّن بسخريته اللاذعة، وبثقافته القابلة لأن تكون حصناً له أمام الآخرين. فيلم «غريبٌ» حقّاً. الضحك منبعه سلوك ولبيك في تعاطيه مع المسألة. الالتباس مستمرّ إلى ما بعد نهاية الفيلم، عندما يظهر ولبيك وهو يقود سيارة طرازها حديث، أهداه إياها الخاطفون او من هم وراءهم، بسرعة جنونية: رغبة في الفرار؟ شوقٌ إلى حرية معلّقة؟ محاولة لإثارة خوف أحد الخاطفين المرافقين له في رحلة العودة؟ الأدب حاضرٌ. الكتابة والقراءة أيضاً. الأسئلة كثيرة. السينما فاعلة في ممارسة جمالية الكاميرا في حوارها مع جماليات الكلمة.

«الشلّة» مغاير تماماً. مدرسة داخلية خاصّة بالصُمّ والبكم. هذا يعني أن الفيلم برمّته لا كلام فيه أبداً، بل لغة إشارات. لا موسيقى أيضاً، ولا شيء سوى أصوات معتادة خارج العالم الصامت للناس. فيلم قاس وعنيف. جنس ومخدرات ودعارة وتسلّط في عالم قد يبدو منغلقاً على نفسه لوهلة أولى. شباب في مقتبل العمر خاضعون لأهواء ومزاجات قاتلة. الوافد جديد «بريء»، لكن «معمودية» الانتساب إلى هذا العالم مُكلِفة. هناك وحش يُصنَع بهدوء. هناك سلوك مؤدّ إلى انهيارات. لا مكان لحبّ فعلي. «القوي يأكل الضعيف» قول فاعل في مجتمعات وأفراد. لكن الضعيف هنا منقلبٌ على القوي، ومتفوّق عليه في ابتكار جنون القتل والعنف.

 

قسوة العزلة

ليست سهلة مُشاهدة فيلم كهذا، لكنها ليست مستحيلة. لغة الإشارات غير مفهومة لدى كثيرين. لكن المُشاهِد مُطالبٌ بالتنبّه إلى ما هو خارج تلك اللغة في فيلم متماسك في قراءته أحوال أفراد داخل بيئاتهم الضيّقة والخانقة. الوحش متفلّت من عقاله لشدّة الضغوط والتهميش. الجنس حاجة إلى الفرار من ضغط، أو لجمع مال من أجل مغادرة نهائية. قد يكون ترجمة خفية لحب غير ناضج، أو لعشق مبتور ومعلّق أيضاً. قسوة الانهيار النابع من صدمة الحب ـ العشق ـ الجنس جزءٌ من مسار مُهدَّد، منذ البداية، بشتّى المآزق والصدمات.

للفيلم الروماني خصوصيته. العودة إلى زمن المنظومة الاشتراكية الحاكمة في دول أوروبا الشرقية السابقة محاولة جديدة لتفكيك البنى المتسلّطة، وإعادة نبش الحكايات الفردية. «لعبة عادلة» للتشيكية أندريا سيدلاكوفا (المسابقة الرسمية، «السفير» 12 تموز 2014) شبيهٌ به على مستوى العودة إلى الزمن نفسه. لكن الفرق شاسعٌ بينهما على مستوى الاشتغالات السينمائية. «كود ايرات ديمونستراندوم» أمتن لغةً بصريةً، وأكثر تشويقاً في مقاربته الصراع الدائر بين أفراد ونظام متكامل. «العبقرية» العلمية في مجال صناعة الكمبيوتر في ثمانينيات القرن الفائت تواجه آلة قمع وضغطا ومطاردة خفية. مقاربة الحالة القمعية أهدأ وأكثر ميلاً إلى البُعد الإنساني. العلم يُراد له أن يكون منزّهاً عن السياسة والأمن، لكن رجال الأمن مرتابون دائماً من كل حركة صغيرة قد تأخذ صاحبها إلى الغرب. الفيلم ذو حكايات متعدّدة تُروى في زمن واحد: المرأة المقيمة ووالدها وابنها في حياة شبه روتينية، وزوجها المقيم في فرنسا، وعلاقاتها بزملاء المهنة ورجل الأمن والصديق ـ الحبيب القديم ـ الجديد. لكل واحد من هؤلاء قصّته أيضاً. والقصص تتراكم في بناء درامي متين الحبكة، ومشغول بحرفية سينمائية تحوّل اللون الغامق إلى مرايا تكشف وتعرّي وتعكس وقائع وخفايا. قصص تحفر عميقاً في ذاكرة جماعية، كي تستلّ معالم ألم فرديّ، ورغبات محطّمة، وأحلام منبوذة ومدمَّرة.

 

المصدر: السفير