«سقوط الإمبراطورية الرومانية» لأنطوني مان: سينما للتاريخ الكبير

«سقوط الإمبراطورية الرومانية» لأنطوني مان: سينما للتاريخ الكبير

في تلك الأزمنة كان للسينما التاريخية مكانتها الكبيرة لدى المتفرجين. غير أن هؤلاء، إذ كانوا اعتادوا أن ينظروا إلى التاريخ، سينمائياً، من خلال الأبطال، لا من خلال الأحداث نفسها، كان لا بد للسينما من أن تلبي رغباتهم في شكل أو في آخر.

الأزمنة التي نتحدث عنها هنا هي النصف الأول من ستينات القرن العشرين، وهي سنوات تميزت باندفاعة كبيرة للأفلام «التاريخية» التي كانت تصنع في روما، ويحمل أبطالها أسماء مثل «ماشيستي» و «هرقل»، كما يحملون أكبر مقدار ممكن من عضلات تمكنهم من تحقيق أكبر مقدار ممكن من الخوارق. من هنا، تحوّل التاريخ، في ذلك النوع من السينما، إلى نوع من أفلام رعاة البقر، حيث البطل الفرد، وقد استُبدلت المسدسات بالزنود القوية، يواجه الأعداء مواجهة الخير الأبدي الشرَّ الأبدي. ونعرف طبعاً أن مثل هذا لا يترك للتاريخ الحقيقي أي مكان، حيث يصعب علينا اليوم أن نعتبر تلك الأفلام تاريخية عن حق وحقيق. في المقابل لا يمكننا أن ننكر أن تلك الأفلام حققت نجاحات كبيرة، لم تضاهها فيه لاحقاً إلا الأفلام التي غلب عليها فن الكاراتيه، لا سيما تلك التي كانت من بطولة بروس لي وزملائه وذلك في موجة مدهشة اختلطت فيها قوة العضلات واتساع الحيلة بسذاجة المواضيع والضحالة الفكرية.

وهنا، في عودة إلى موضوعنا، لا بد من الإشارة إلى أن هوليوود، وأمام ذلك النجاح الإيطالي الذي بدا، لزمن، مهدداً حقاً السينما الأميركية وشعبيتها، لم يكن في إمكانها أن تقف مكتوفة اليدين، فتحركت باحثة عن مواضيع تاريخية، لتحطّ رحالها في التاريخ الروماني، بعد أن جربت التاريخ الديني فحققت فيه نجاحاً محدوداً، من ناحية المواضيع، لأن في مثل هذه الحال، ما كان يمكن الأفلام الدينية إلا أن تتشابه. وكان ستانلي كوبريك فتح الطريق بفيلم رائع يبقى فريداً في هذا المجال هو «سبارتاكوس». من هنا، كان لا بد للأفلام التالية من أن تحاول الجمع بين ذهنية سينما كوبريك الجادة والقوية، وذهنية السينما «الهرقلية» الإيطالية. من هنا، كان ذلك المشروع الضخم الذي أسفر عن فيلم يبدو في كل المقاييس استثنائياً في تاريخ السينما الهوليوودية، ولو من ناحية أنه حمل عنواناً ضخماً، يكاد يبدو علمياً، ليقدم موضوعاً أقل علمية وتاريخية بكثير. الفيلم هو «سقوط الإمبراطورية الرومانية» الذي حققه أنطوني مان، عام 1964.

بالنسبة إلى كثر من متابعي الدراسات التاريخية والمهتمين بالتاريخ الروماني، بدا الفيلم - ولا يزال - وكأنه ترجمة سينمائية لكتاب إدوارد غيبون الشهير، والفريد من نوعه، عن سقوط الإمبراطورية الرومانية. لكن هذا غير صحيح، فإذا كان كتّاب سيناريو الفيلم، وعلى رأسهم بن بارزمان (الكاتب والمخرج الهوليوودي التقدمي الذي كان أواخر أربعينات القرن العشرين وعند بداية خمسيناته، واحداً من الذين اضطهدتهم الحملة الماكارثية)، قد استفادوا من كتاب غيبون، فإن السيناريو الذي طلع من بين أيديهم في نهاية الأمر، لم تكن له أية علاقة بكتاب غيبون، وتحديداً، لأنه أتى على غرار الأفلام الإيطالية: فيلماً يصوّر الصراع الأزلي بين الخير والشر، ليوحي بأن هذا الصراع كان هو في خلفية سقوط تلك الإمبراطورية التي لم تكن الشمس لتغيب عنها. كانت هذه هي الفكرة الأساس في هذا الفيلم. وهي كما يمكننا أن ندرك، لا علاقة لها على الإطلاق بأسباب زوال تلك الإمبراطورية... لأن المسائل أكثر تعقيداً بكثير مما كان في إمكان فيلم من هذا النوع أن يرى. ولكن، بما أن شعبية السينما التاريخية كانت في ذلك الحين - ولا تزال إلى الآن إلى حد بعيد - ما هي عليه، وذهنية عموم المتفرجين هي ما هي عليه، يمكننا أن ندرك كيف أن كثراً راحوا يرون منذ ذلك الحين أن سقوط الإمبراطورية، إنما كان ناتجاً من مسائل شخصية تكاد تشبه ما حدث في طروادة!

وإذ نقول مسائل شخصية نصل، طبعاً إلى «الشخص»، وهو هنا الإمبراطور كومودوس (الذي يجب ألا ننسى أنه، في الحقيقة، ابن واحد من أعظم الحكام الذين عرفهم التاريخ، من ناحية عدله وحكمته وكتاباته التأملية، هو الذي كان تلميذاً نجيباً للرواقيين). ولعل هذه البنوّة، تحمل من التناقض ما جعل حكاية الفيلم تبدو في النهاية أشبه بالأمثولة الأخلاقية، إذ - وكما يقول الفيلم - شتان ما بين الأب العظيم الذي بنى وطغت حكمته على الأحداث، وبين الابن الذي كان نقيض أبيه، فبدأت نهاية الإمبراطورية على يديه، بحسب الفيلم. وهذه النهاية من دون أن تكون نهاية تاريخية حقيقية - ما يحيل إلى المخادعة في استخدام عنوان كتاب غيبون للحديث عن أمور مختلفة، لعلها بدايات الانهيار، لا صورته النهائية - هذه النهاية تحدث هنا نتيجة الخلاف والصراع بين كومودوس، وصديق طفولته ليفيوس (وهو شخصية اخترعها الفيلم من ألفها إلى يائها). غير أن الواقع التاريخي يقول لنا أن ليس كل ما في الفيلم والأحداث كان اختراعاً في اختراع. ذلك أن كتّاب السيناريو، والمخرج من بعدهم، رسموا من خلال الصراع المخترَع بين كومودوس وليفيوس، صورة خلفية لا بأس بها همها أن تفسر بعض الأحداث التاريخية الحقيقية، ومنها رسم شخصية الإمبراطور الشاب نفسه، والذي يفيدنا التاريخ - والفيلم يتبعه في ذلك - بأن هشاشته العاطفية ونزقه هما اللذان قاداه إلى اللاإستقرار والفساد، ما جعل كل المحيطين به فاسدين أيضاً. وانطلاقاً من هنا، وفي عودة للمزج، بين التاريخي والشخصي، ينتهي الفيلم في ذروة أحداثه - بتصوير ذلك الصراع المرير بين الخير والشر، لكنه يتجسد هنا بذلك الصراع الدموي على الحلبة بين ليفيوس وكومودوس. وهو صراع يبدو كأنه الصدى لصراعين آخرين يحاول الفيلم التعبير عنهما أيضاً بالسؤال الذي اعتمل داخل الصف الروماني، بالنسبة إلى هجوم البرابرة الشماليين عليهم: هل تنبغي مقاومة هذا الهجوم والانحدار، عسكرياً وخلقياً، إلى درك أسفل، أم تنبغي الاستجابة، في ذلك الصراع، لما يطلبه البرابرة، ما يحفظ للرومان استقلالاً شكلياً، وتفوقاً حضارياً في الوقت نفسه؟ هذا بالنسبة إلى الصراع الأول، أما بالنسبة إلى الثاني، فإنه أيضاً صراع غير منطقي يتجابه فيه الدين المسيحي الذي بدأ ينتشر في الإمبراطورية، مع النزعة الفلسفية الرواقية التي كان يدعو إليها ماركوس أوريليوس، أعظم ممثليها وربما آخرهم أيضاً.

إن هذا كله يتضافر ليعطي الفيلم تأرجحاً غريباً، بين العمل الذي يأخذ من التاريخ ما يناسبه، والعمل الذي يضرب صفحاً عن التاريخ ليتحول إلى فانتازيا أخلاقية. واللافت هنا أن سيناريو الفيلم، في لحظات أساسية من الأحداث، يفضل اللجوء إلى «الحكايات»... و «الإشاعات» التي كانت سائدة في تلك الأزمان القديمة، بدلاً من الاعتماد على الحقائق التاريخية التي غالباً ما ناقضت الإشاعات لاحقاً، معتبراً إياها الحقائق النهائية. من هنا مثلاً، إذا كانت الحكايات تقول إن ماركوس أوريليوس مات مسموماً، وهو قول لم يثبت تاريخياً، فإن الفيلم تبنى هذا الأمر، لأنه أكثر تناسباً مع البعد الدرامي للحكاية، معتبراً إياه - على الضد من كل منطق - حقيقة نهائية. وما هذا سوى مثال بسيط عن «الواقع التاريخي» الذي حاول هذا الفيلم رسمه... ويمكن سوق عشرات الأمثلة في هذا السياق نفسه أيضاً.

الجمهور العريض الذي شاهد هذا الفيلم في ذلك الحين، سرّ - على رغم كل شيء - بعمل يجمع عدداً كبيراً من نجوم توزعوا الأدوار الرئيسية، ومنهم صوفيا لورين وستيفن بويد وعمر الشريف وأليك غينيــس وجيــمس مايسون وغيرهم... حتى وإن كان الطول الاستثنائي للفيلم - أكثر من ثلاث ساعات - أزعج كثراً. واللافت هنا أنه إذا كان كثر قد توقعوا لفيلم أنطوني مان الضخم هذا، فوزاً بجوائز هوليوودية كثيرة، فإن فألهم خاب، حيث إن الفيلم لم يفز في نهاية الأمر، إلا بجائزة «غولدن غلوب» لموسيقاه التي وضعها ديمتري تيومكين، والتي لم تستطع إقناع ناخبي الأوسكار، بعد أن رشحت أيضاً هناك لأوسكار أفضل موسيقى.

 

المصدر: الحياة