عنوان جديد لجبهات متعددة
أثبتت المقاومة، على مدى سنوات طويلة، قدرتها المذهلة على ابتكار وصياغة وتوظيف الرموز والمصطلحات في المعركة. وكان أحدها «إيلام العدو» الذي أطلقته المقاومة مؤخراً كعنوان للمرحلة القادمة في سياق ردها على الهمجية الصهيونية واغتيال قادتها.
يختزل المصطلح بين ثناياه فكرة يُبنى على أساسها خطط واجراءات وأفعال هادفة تمنحه معناه. تحمل فكرة «إيلام العدو» أبعاداً عديدة ومتنوعة، وتحوي بداخلها إيحاءات وانطباعات تحدد بها توجهات الفعل المقاوم اللاحقة إلى حد كبير.
تعدد الجبهات
ثمة خلاف في الآراء حول عدد الجبهات التي يواجهها الاحتلال الصهيوني في معركته الأخيرة، فالعدو أقرّ رسمياً على لسان بعض قادته بنحو سبع جبهات، ولكن هناك أراء أخرى تقول خلاف ذلك. فالجبهات العسكرية المباشرة ليست المكان الوحيد الذي يمكن فيه للمقاومة إيلام العدو واستنزاف قواه بل هناك جبهات أخرى لا تقل أهمية عنها، يمكن تعداد الكثير منها والحديث عنها مطولاً، وقد لا يتسع المجال لبحثها تفصيلياً هنا ولكن يمكن على الأقل التذكير بالبعض منها، فإضافة إلى جبهة العمل السياسي والتنظيمي هناك جبهة الإعلام والتأثير في الرأي العام العالمي، وجبهة التضامن الشعبي وحراكه إضافة إلى جبهة معركة القانون الدولية والمؤسسات الدولية والمقاطعة وغيرها.
إن النضال السياسي لا يقل أهمية عن المقاومة المسلحة. وتتطلب ممارسته بشكل فعّال مهارات خاصة. وقد أظهرت المقاومة قدرات مدهشة وفريدة في ميدان القيادة السياسية والتنظيم واتخاذ القرارات، والتعامل بروح المسؤولية، ابتداء من التعامل مع الأسرى الصهاينة وإظهار نموذج متقدم وعال من الأخلاق من رباطة الجأش والصبر والصمود، إضافة إلى شجاعة وبطولة أسطورية لأفرادها وقادتهم، وغيرها الكثير من السلوكيات والمواقف التي غيرت مكانة وموضع القضية الفلسطينية وكشفت للعالم كله حقيقة ما جرى ويجري ومن يقف وراءه، وحرضت على البحث واستقصاء الحقائق خلف ادعاءات الكيان الصهيوني والإعلام الغربي وسرديته التاريخية المزيفة. ونالت تعاطف الناس في العالم أجمع. ثمة أمثلة كثيرة كان أخرها ما حدث في أمستردام عندما قام مشجّعو الفريق «الإسرائيلي» باستفزازات وسلوكيات عنصرية تعودوا سابقاً ألّا يردهم عنها أحد، ولكن هذه المرة كانت مختلفة. فهم لم يكتفوا بالاستفزازات المتعلقة بالحرب على غزة والفلسطينيين، بل رفضوا، قبل بدء المباراة، الوقوف دقيقة حداد على أرواح ضحايا فيضانات فالنسيا الإسبانية، بل أشعلوا أيضاً ألعاباً نارية، فيما جمهور «أياكس» وقف صامتاً، وذلك تعبيراً منهم عن عدم احترام الضحايا الذين اعترفت بلادهم بالدولة الفلسطينية، ومنعت سفينة تحمل أسلحة لإسرائيل من الرسو في مينائها. ولم يتوقعوا أن يتم الرد على وقاحاتهم من المتضامنين مع الشعب الفلسطيني ومن أصحاب: «القلوب المليانة» بعد 76 عاماً من الاحتلال والتنكيل المتواصل بالفلسطينيين، وسنة من حرب الإبادة المستمرة على أهالي قطاع غزة. وقد أثارت أحداث أمستردام قلقاً شديداً عند الكيان وداعميه. فإضافة إلى كونها سابقة في تاريخه ولكنها أيضاً إشارة لداعميه ومشجعيه أنهم ليسوا بعيدين عن مرمى الاستهداف ولم يعد لهم مكان آمن بالمطلق حتى في أوربا الداعمة لهم ولم يعودا قادرين على فعل ما يحلو لهم كما في السابق.
أما في فرنسا فقد قام طلاب من جامعة «ليون ٣» بإغلاق مداخل المؤسسة وتغطية الجامعة بشعارات مدافعة عن غزة وفلسطين رفضاً للموقف الرسمي الفرنسي الداعم للإبادة الجماعية الإسرائيلية في غزة، وذلك خلال زيارة رئيسة الجمعية الوطنية الفرنسية، يائيل برون – بيفيت للمشاركة في مؤتمر مع طلاب جمعية بولي كون.
وتجمّع عشرات الطلاب يوم الجمعة الثامن من الشهر الجاري أمام الجامعة للتنديد بدعم السياسة التي تنتهجها «إسرائيل» في الشرق الأوسط، وعلى رأسها الإبادة الجماعية الإسرائيلية في غزة منذ أكثر من عام.
وبدأ الطلاب بالتظاهر في الشارع قبل أن ينجحوا في اقتحام الكلية، حيث هتفوا ضد برون- بيفيت: «متواطئة في الإبادة الجماعية، ارحلي عن جامعاتنا»، «إسرائيل قاتلة» وهم يرفعون الأعلام الفلسطينية.
ونقلت وسائل إعلام فرنسية عن نقابة الطلاب قولها، إنه «تم تعطيل عدة محاضرات قبل أن تتمكن قوات الأمن من إخلاء المتظاهرين».
جديد معركة القانون الدولي
إن حصار الكيان المحتل وعزله سياسياً، بات ممكناً ومتاحاً فقد أعدت السيدة فرانشيسكا ألبانيز، المقرّرة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967 تقريراً مثيراً في عنوانه ومضمونه، نُشر على موقع الأمم المتحدة يوم 1 تشرين الأول 2024 تحت عنوان: «الإبادة الجماعية باعتبارها محواً استعمارياً Genocide as colonial erasure».
دعت ألبانيز، في نهاية تقريرها، الأمم المتحدة إلى اعتبار النظام الإسرائيلي «نظام فصل عنصري يمارس الأبارتيد»، ما يستوجب ليس إعادة تنشيط اللجنة الخاصة بمناهضة الفصل العنصري وتكليفها بمعالجة الوضع وحماية الشعب الفلسطيني فحسب، وإنما أيضاً «تعليق عضوية إسرائيل في الأمم المتحدة».
تكمن أهمية التقرير ليس بجانبه التوثيقي ورصده لممارسات الاحتلال داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة فقط، واعتبارها، في المجمل، انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي. مستنداً إلى: شهود عيان، وإلى وثائق صادرة عن مؤسسات أممية، بما فيها محكمة العدل الدولية، وإلى تقارير وتصريحات رسمية، بما فيها تقارير وتصريحات صادرة عن الحكومة «الإسرائيلية». بل بالربط الصريح بين ما يجري حالياً في فلسطين وما جرى إبان نكبة 1948 وعقب هزيمة 1967، ووصفه لما جرى ويجري بأنه «عملية إبادة جماعية ممنهجة، بدأت في 48 ولا تزال مستمرة حتى الآن، هدفها الأساسي القضاء على وجود الشعب الفلسطيني في فلسطين، وهي لم تعد قاصرة على قطاع غزة وإنما بدأت تتسع وتمتد الآن إلى الضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية». حسب تعبيره.
وتأكيده على أنه «ما كان لإسرائيل أن ترتكب كلّ ما أقدمت عليه من انتهاكات لولا تهاون المجتمع الدولي والسماح لها بالإفلات من العقاب». واستناداً إلى هذه الحيثيات، وجه نداء لـ «إسرائيل» تطالبها فيه بوقف فوري ودائم لإطلاق النار وسحب «جيشها» من كلّ الأراضي الفلسطينية المحتلة في 67، بما فيها القدس الشرقية، كما وجّه نداء آخر إلى المجتمع الدولي، يطالبه فيه بفرض حظر تام على مبيعات السلاح لـ «إسرائيل»،
جبهة المقاطعة
إن مقاطعة منتجات شركات عالمية قد يكون له أهمية رمزية، لكنه من غير المرجح أن يؤثر بشكل مباشر على اقتصاد «إسرائيل»، الذي تكمن قوته في قطاعات مثل التكنولوجيا، والصيدلة، والدفاع، حسب ما أوردته في وقت سابق صحيفة «فاينانشيال تايمز»، ومع ذلك فإن سلاح المقاطعة يؤتي أُكُله، فبالنسبة للعديد من الشركات متعددة الجنسيات الكبرى، فإن إجراءات المقاطعة تؤثر الآن على الإيرادات، كما تقول الصحيفة، وهو ما تأكد فعلاً باعتراف من تلك الشركات نفسها بتكبدها خسائر مهمة منذ بدء حملات المقاطعة بسبب حرب غزة. وقد أعلنت شركات «ماكدونالدز» و«ستاربكس» أن الحرب على غزة ومقاطعة منتجاتها قد أضرت بأعمالها بشكل كبير في الشرق الأوسط ومناطق أخرى من أسيا وإفريقيا. ففي ماليزيا وحدها أغلقت سلسلة مطاعم «كنتاكي» الأمريكية، أكثر من 100 فرع لها في البلاد التي تعتبر سوقاً لها.
ووصف، أمري باهل ساندهو، الرئيس التنفيذي لشركة «أمريكانا للمطاعم»، التي تدير علامات تجارية مثل KFC، بيتزا هت و«كريسبي كريم» في الشرق الأوسط وكازاخستان، في وقت سابق، مدة وشدة مقاطعة منتجاتها بأنها «غير مسبوقة» على حد تعبيره. بينما أكدت تقارير صحفية أن المقاطعة تؤثر سلباً على إيرادات الشركات متعددة الجنسيات ومشغلي امتيازاتها، مما يؤدي إلى تفاقم تأثير تباطؤ الاستهلاك العالمي على نتائجها المالية. هذا غيض من فيض، فعلى كل المستويات تتنامى قوة الحق وأصحابه ويتنامى تكاتف قوى مختلفة في جبهات تبدو للوهلة الأولى هامشية وغير ذات أثر ولكن الحقيقة أن الفكرة تصبح قوة مادية إذا تبناها العديد من الناس وتمنح المقاومين وحاضنتهم الشعبية الأمل في تحقيق أهدافها عبر تضافر الناس وقواهم في مختلف الجبهات.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1200