حول «البربرية» وعلم وظائف الدماغ

حول «البربرية» وعلم وظائف الدماغ

من المفيد في نقاش مسألة البربرية واتجاه اللاعقلانية وانهيار العقل، كتعبير عن اتجاه في أقصى التطرف في الحفاظ على المجتمع الطبقي المنقسم عبر التاريخ، إضافةً إلى النقاش الفلسفي العام، أن نأخذ بمقولات علم وظائف الدماغ، وللدقة، فرع علم النفس العصبي في علم النفس، وأحد أعلامه الرئيسية ومؤسِّسيه، السوفييتي ألكسندر لوريا.

علم النفس العصبي

علم النفس العصبي (Neuropsychology) هو أحد فروع علم النفس، ويدرس بشكل خاص، على مستوى الدماغ والجهاز العصبي المركزي، النظام العصبي-الفيزيولوجي للعمليات والوظائف النفسية، والوعي عامة. وانطلاقاً من المادية التاريخية، والماركسية بشكل عام، هناك المدرسة السوفييتية في هذا الفرع، تحت مظلة نظرية النشاط الثقافية-التاريخية التي أسس لها السوفييتي ليف فيغوتسكي. والمدرسة السوفييتية في علم النفس العصبي التي أسس لها بشكل خاص السوفييتي ألكسندر لوريا (1902–1977) أحد رفاق وتلامذة فيغوتسكي، الذي يُعَدّ عمله، الغزير، لحد الآن على مستوى العالم أساسياً في هذا المجال، والذي قدّم لهذا الفرع من العلم مساهمات ما زالت، حتى الآن، تنتظر الاستكمال والتطوير، فهو نفسه اعتبرها مقدمات جنينية لدراسة النظام النفسي العصبيّ شديد التعقيد. ومن المقولات المنهجية الرئيسية للوريا، أنّ دراسة وظائف الدماغ لا يمكن أن تتم على المستوى العصبي الفيزيولوجي البحت، كما هي حال علم الأعصاب الدماغي المهيمن حالياً، والذي كان مهيمناً حتى أيام لوريا، وإن بشكل أقل مما هو عليه الحال اليوم. بل إن دراسة الجهاز العصبي المركزي يجب أن تتم من خلال فهم التشكل التاريخي-الاجتماعي للعمليات النفسية التي يشكّل الدماغ مسرحها، ويعتبر لوريا، على عكس أنصار نظرية تركّز الوظائف في أقسام مختلفة من الدماغ، أن الدماغ هو بنية ونظام موحَّد لا يمكن الفصل بين أقسامه التي تعمل بشكلٍ متكامل لتحقيق الوظائف النفسية للنشاط البشري المادي والعقلي، حيث إن كل قسم يساهم بدوره في تحقيق مختلف الوظائف، لا لتحقيق وظيفة ما فقط.

الفص الجبهي والمستويات العليا

أثبتت الدراسات، ليس فقط ضمن المدرسة المادية التاريخية عند لوريا ورفاقه وتلامذته، بل وبشكل عام ضمن أغلب المدارس في علم وظائف الدماغ، بأنّ الدماغ يعمل على شكل تيارات صاعدة وتيارات هابطة، حيث المستويات الفوقية-العليا، القشرة الدماغية «الجديدة»، تتأثر مثلاً بجذع الدماغ، والمخيخ، وباقي الأقسام كالجهاز الحوفي، بينما بدورها المستويات الفوقية-العليا تؤثر بتلك «التحتية» الأولية في تشكّلها (في التاريخ التطوّري للإنسان). وبشكل خاص، فإن الفص الجبهي (الذي هو أحدث الأقسام في الدماغ البشري)، حيث بشكل عام تجري المستويات العليا من التفكير المجرّد والتعميم، والتفكير «الواعي» المرتبط بشكل مباشر بالتفكير اللغوي، هذا الفص (الجبهي) يعمل بشكل «هيمنيّ» على باقي الأقسام وعلى وظائفها. وفي حالات الاضطراب في أقسام الدماغ المختلفة، بسبب جروح نتيجة حادث أو ورم ما مثلاً، فإنّ وظائف الإنسان تتأثر، فهي إمّا تتعطّل وإمّا تتشوه، وأقصى أشكال الاضطراب في الوعي ووظائف الإنسان وشخصيته وذاكرته تحصل نتيجة الاضطراب في الفص الجبهي.

الفص الجبهي ونظام التفكير العقلاني

إن الفص الجبهي يعتبر المكوِّن الأساس في نظام الدماغ الثالث (حسب لوريا)، الذي هو نظام «البرمجة والتنظيم والتحقق من النشاط». أما النظام الأول فهو بشكل عام نظام نغمة ويقظة الحالات العقلية، بينما النظام الثاني فهو بشكل عام المسؤول عن استقبال وتحليل وتخزين المعلومات. وبالتالي فإنّ كلّ فص، وكل تشكيل دماغي، يشارك ويساهم في الوظائف العقلية المختلفة، ولا وظيفة عقلية واحدة تتركز في فص وفي تشكيل دماغي محدّد، على عكس ما يقول به تيار «الوظائف العقلية المتوطّنة في أقسام دماغية منفصلة». ولهذا فإنّ الإضطراب في الفص الجبهي، حيث التفكير اللغوي هو الأساس، وفي حالاته الشديدة يؤدي إلى ضياع وحدة الشخصية، وتعطّل الفعالية، والموقف الفاعل تجاه الواقع. فالنظام الدماغي الثالث (المسؤول عن التحليل والتحقق وتنظيم النشاط)، الذي يشكل الفص الجبهي أحدَ مكوناته الأساسية، له وظائف أساسية في عملية التفكير والنشاط العملي، ومن هذه الوظائف هناك التحفيز والاندفاعية، والموقف النشط تجاه المهام الموضوعة أمام الإنسان، والتعرف النشط على المشكلة، والنفاذ إلى جوهرها، وبناء برنامج/خطة العمل لحل المشكلة والهدف العام، وتحديد الخطوات التنفيذية للخطة، واختيار منهجية العمل، والتحقّق من التنفيذ، والمقارنة مع النتيجة/الهدف المرجوَّين. ولهذا فإنّ الاضطراب في وظيفة هذا النظام الثالث، نتيجة الاضطراب في الفص الجبهي بشكل خاص، يؤدي إلى تعطّل الوجود «العقلاني» للإنسان، وما يبقى هو حالة «اندفاع حيوانية» سلبية وتشتتٌ وضياع.

اللاعقلانية

في مواد سابقة قلنا إن الدفع والتأسيس للّاعقلانية وتدمير العقل تعمل ليس فقط نتيجةَ خطة «إرادية» لدى النخبة الأكثر رجعية، والتي تحاول الحفاظ على هيمنتها، بل أيضاً نتيجة التعطل في الوجود الموضوعي للنشاط الإنساني، وموقف الفاعل تجاه الواقع، أي انخراطه في نشاط لحل المشكلات المطروحة أمامه (التي هي المشاكل الاجتماعية بشكل عام كأقصى شكل للنشاط الإنساني الفاعل)، ومن ثم تعطل في تفكيره (التفكير اللغوي القائم على السرديات)، نتيجة السرديات العدمية «المهيمنة» تجاه الواقع، والمستقبل. وهكذا، فنحن أمام حلقة مغلقة، فلا النشاط الإنساني مفتوح على حل القضايا المطروحة، ولا السرديات تسمح بتشكيل النشاط الفاعل النقيض. فيغرق التفكير (الذي قلنا إن اللغة والسردية هي مكونه الأساس) في حالة تعطّل، مع كل تبعات ذلك من تعطل في وحدة الشخصية وضياع الارتباط الموضوعي بالمحيط، والخلط في الزمان والمكان، التي هي خصائص أثبتتها الدراسات الكثيرة.
وهذا الاضطراب يختلف عن الجروح والأورام الدماغية، بل هو «جرح» بنيوي/عقلي، ومن قَبله جرح «اجتماعي-تاريخي». فالترتيب، حسب المدرسة المادية التاريخية في علم النفس العصبي، هو من الاجتماعي إلى النفسي إلى العقلي ومن ثم الفيزيولوجي. وبالتالي فإنّ الاضطراب في المستوى الأول، الاجتماعي الاقتصادي، ينتقل إلى المستوى النفسي-العقلي، ومن ثم إلى الفيزيولوجي الدماغي.
إنّ البربرية التي يؤسِّس لها استمرارُ المجتمع المنقسم لها قاعدتُها المادية، والتي يمكن البرهنة عليها، وعلم النفس العصبي هو المستوى الدماغي-الفيزيولوجي في هذه البرهنة التي تشكل المادة الحالية مجرَّدَ مقدّمة عامّة له.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1191
آخر تعديل على الأربعاء, 11 أيلول/سبتمبر 2024 22:26