التيار الفوضوي خطر «الشيوعية المبكرة» وتناقض بربرية-حضارة
في مادة سابقة وأخرى سبقتها أشرنا إلى مسألة التفجير المبكّر للتناقضات التي تتجاوز البعد المرحلي السياسي المباشر نحو تجاوز المجتمع الطبقي ككل وطبيعة المجتمع. وهنا نناقش خطر ملامح العقل الأيديولوجي «الماركسي» الجامد والميكانيكي وكيف يفعل فيه تيار «الشيوعية المبكّرة».
أفكار قديمة متجددة: الفوضوية في قطب «الحركة الثورية»
كان التيار الماركسي الكلاسيكي غير التحريفي يقول دائماً بضرورة التمييز بين التكتيك والاستراتيجيا، وكيف أنّ خطر استبدال إحداهما بالأخرى يؤدّي إلى ممارسات قاتلة. وبالتالي فإن تيار «الشيوعية المبكرة» الذي يقفز عن التناقضات وتمرحل البنية الاجتماعية ويأخذ مواقفه بمعزل عن السياق التاريخي الملموس وموازين القوى واستعداد المجتمع والجماهير بشكل عام، هذا التيار ليس جديداً في التاريخ، ومنه مثلاً ينبع التيار الفوضوي الذي يجعل مِن قضايا «الهدم» همَّه الشاغل، ومن هنا فإنّ موقفه من الدولة، أيّ دولة، كان نابعاً من تسبيق الاستراتيجي على حساب المرحلي التكتيكي، وعلى الطابع «الأيديولوجي» لهذا التيار على حساب الفكر العلمي.
الفوضوية في قطب الإمبريالية
ويمكن القول إنّ التحوّل الذي حصل في العالم، وتحديداً التحول في موازين القوى بعد الحرب العالمية الثانية، ومحاولة القوى التي تسعى للحفاظ على هيمنتها في أنْ تختطف الحركة الثورية التي دخلت على مسرح التاريخ، وبالتحديد سلاحها الأساس، أي «الجماهير الواعية والمنظَّمة»، وتعطيل هذا السلاح - هو تحوُّل يتمثّل في أنها تبنّت أقصى ما يمكن تبنّيه من أفكار «الحركة الثورية»، والذي لا يؤثر على المجتمع الطبقي المنقسم، والذي يلتقي بالمناسبة مع برنامج العمل المتطرّف في تدمير العقل والمجتمع في آن، والذي تكلّمنا عنه سابقاً، والذي يجد في المذهب المثالي المتطرّف -مادّياً كان شكلُه (تدمير العقل ونفيه سلبياً) أو مثالياً (تدمير الواقع ونفيه سلبياً)- يجد في هذا المذهب مرجعيّته الفلسفية. وهذا ما جعل العقل والقوى التي تحاول الحفاظ على هيمنتها تتّخذُ من التيار الفوضوي أداة رئيسية في ممارستها الأيديولوجية والسياسية، بعد أنْ كان العقل «الإصلاحي الليبرالي» هو ما تبنّته في مرحلة «الحرب الباردة» بشكلٍ خاص، حين كان ميزان القوى يمنعها من أكثر مِن ذلك، فكانت ملجومةً ومضطرّة للتنازل للعقل الإصلاحي الذي هو تيار آخر في «الحركة الثورية».
إذاً، الفوضوية هي اليوم المكافئ «الثوري» لتيار الهدم البربري الإمبريالي، وهذا ما كنا شهدنا مقدماته في الثورات الملوَّنة وتيار الفوضوية المتعاظم في الغرب كتعبيرٍ عام عن التوتر الاجتماعي. وهذا ما عبّرت عنه بعض الأحزاب اليسارية وحتى الشيوعية في العالم العربيّ، وكيف أنها صارت وقوداً و«عتَّال العرس» لمصلحة مشروع الفوضى في المنطقة، من خلال «تقديسها» الحركة الشعبية كما هي، دون أي اعتبار للتنظيم والوعي والبرنامج وميزان القوى.
طغيان التيار الفوضوي بالمعنى الفكري
إنّ شكلاً ناضجاً من التيار الفوضوي الطّاغي اليوم يُظهِر جليّاً أنّ القضايا التي هي موضوعة على الطاولة تطالُ مسائل التعريفات الفلسفية الأساسية في المجتمع والتاريخ، كقضية الدولة، والمجتمع والفرد، والفعل السياسي، وغايته، وبالتالي تَظهر الحاجة للتعريفات الجوهرية مرةً جديدة أمام الحركة الثورية التي هي حركة شديدة التعقيد. ولكن الأهم، هو أن عملية تغييرٍ حاصلة عالمياً تسمح بهذا النقاش أساساً وتتطلّبه، على عكس العقدَين السابقين حيث كان الفاعل الأساس على الساحة هو مشروع الفوضى الإمبريالي، وكان وحيداً يحاول أن يجد المخارج من أزمته. بينما اليوم حصل تعديلٌ في ميزان القوى العالمي. وهذا التحوّل في ميزان القوى يطرح قضايا التعريفات على الطاولة. ومن هنا بعد أن كان تيار الفوضوية حاضراً في الممارسة المباشرة فهو اليوم يتمظهر في السردية الأيديولوجية ويكشف عن نفسه على المستوى الفكري الواعي للقوى السياسية ومنها الأقرب إلى التأثر به، أيْ القوى التي تجد في الماركسية مرجعيّتَها، فيسهلُ انحرافها.
التناقض الرئيسي: التدمير الحضاري والحفاظ على المجتمع
إنّ تيار «الشيوعية المبكرة»، وأيديولوجيا الفوضوية، يجد مساحة خصبة لكي يقوم بإسقاطات قاتلة؛ وهذه المساحة الخصبة يجدها تحديداً في كون التناقض الرئيسي اليوم الحاكم للبرنامج الإمبريالي، وللقوى التي تحاول الحفاظ على هيمنتها، يكمن في التدمير الحضاري وتعميم البربرية على الضد من القوى والبنى التي تحاول أن تقف في وجه هذا التدمير. فبعض القوى «الثورية» اليوم تقول بأن هناك قوى رأسمالية تقاتل الإمبريالية، وهناك دول «غير اشتراكية»، وهناك قوى غير «شعبية»، وهناك قوى «محافظة» وضمناً يأتي التراث والعائلة والدين وغيرها، وهناك جيوش، وبالتالي كيف يمكن لكلّ الحركة المعبِّرة عن هذه القوى وعن البنى الاجتماعية الاقتصادية أن يكون لها طابعٌ تقدُّميّ؟
هنا يكمن مقتل هذا الموقف الفوضوي «الناضج»، كونه أساساً لا ينطلق من التناقض الرئيسي عالمياً، ويجعل من المقولات الاستراتيجية الأيديولوجية للشيوعية هي الحاكمة، حول قضايا الدولة والسلطة والجيوش وغيرها، ويلاقي بالتالي تيار الهدم البربري الإمبريالي.
ولكن عملياً، فإنّ البنى والقوى التي ليس لها شكلٌ «شيوعيٌّ» صافٍ، تواجِهُ تيارَ الهدم البربريّ، وهي لذلك تقوم بمهمّة تاريخية تقدّمية في مضمونها هي محطّة ضرورية للحفاظ على الحضارة البشرية على مستوى لجم الحرب، والمجاعة، والكارثة الصحية البيئية، وتفكيك البنى والانتظام العالمي لمصلحة مخطَّط «ما بعد المجتمع» الذي يسلك طريقه حتى إلى مقولات وسرديات العقل المهيمِن، وصار يعلن عن نفسه أكثر تحت عناوين «ما بعد الرأسمالية» و«ما بعد التصنيع» وغيرها.
خلاصات أولية
إنّ تصفية الحساب مع منطلقات هذا التيار الفوضوي ضرورة، وعنوان هذه المهمّة بدأ يتضح أكثر مع كل تقدم في اتضاح التناقض الرئيسي في وعي نخبةٍ عالمية متعاظمة تحت عنوان «الحضارة والبربرية»، والذي صار يقول به باحثون لا ينتمون حصراً للتيار الماركسيّ. ووضع الصراع ضمن هذا التناقض ليس جديداً على الخط الماركسي، ابتداء من شعار روزا لوكمسبورغ، ولينين، وحتى بالميرو تولياتي الذي بلوره لاحقاً في شكلٍ برنامجي سياسيّ هو «الجبهة الحضارية»، هذه الجبهة التي تعاظمت أكثر فأكثر اليوم منذ أيام تولياتي بسبب من تحول مشروع التدمير الحضاري مهمّةً علنية ومخرجاً وحيداً للقوى التي تحاول الحفاظ على هيمنتها. شعار الجبهة الحضارية هو المهمّة السياسية المركزية، والتي لا زالت في بداية تشكُّل مقولاتها العامّة، وبرنامجها النقيض، الذي على الماركسيين أن يساهموا في تطويره. هذا التطوير هو في تضمين البرنامج الحضاري النقيض قاعدةَ التحضير للمقولات الاستراتيجيّة التي يطرحها اليوم «التيار الثوري الفوضوي» ولكن خارج سياق الحركة، لا بل معادياً لها. وجوهر البرنامج الحضاري هو تجاوز قاعدة الانقسام الطبقي، والفصل بين الفرد والمجتمع، وتجاوز الإنتاج البضاعي، الذي يشكّل مصدر طاقة التدمير البربريّة مادياً وروحياً-عقلياً.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1187