الهيمنة الثقافية للإمبريالية الجديدة

تعريب وإعداد: ناجي النابلسي

أكّد عالم السياسة الأمريكي جوزيف ناي على أن «القوة الناعمة» هي القدرة على تحقيق رغبات من يستخدمها بوسائل الجذب بدلاً من القوة أو الشراء. وتتكون القوة الناعمة للبلد بشكل أساسي من الموارد الثلاثة التالية الثقافة (التي تعمل حيث تكون جذابة للسكان المحليين)، والقيم السياسية (التي تعمل عندما يمكن ممارستها بالفعل داخلياً وخارجياً)، والسياسة الخارجية (التي تعمل عندما تعتبر مطابقةً للشرعية وتعزيز الهيبة الأخلاقية).
تَستخدم الدول الغربية المتقدّمة، وخاصة الولايات المتحدة، رأسمالها وتكنولوجيتها ومزاياها السوقية للتسلل إلى البلدان والمناطق الأقل قوة بثقافتها، واقتراح سلسلة من النظريات الثقافية «التدخُّلية الجديدة» المصمَّمة لفرض القيم الأمريكية. تُخضِع الولاياتُ المتحدة الأسواقَ الثقافية وفضاءات المعلومات في البلدان الأخرى، وخاصة النامية، عبر تصدير القيم وأنماط الحياة الأمريكية إليها، بهدف جعل الثقافة الأمريكية «التيار السائد» عالمياً.

قيم «شاملة» مزعومة

وتقوم الهيمنة الثقافية أو الإمبريالية الثقافية بتصدير قيم الغرب «الشاملة» المزعومة وتنفّذ كلّاً من التطوير التدريجي السلمي و»الثورات الملوّنة»، من خلال التحكم بمجال الرأي العام الدولي. وذلك بغاية تحقيق الهدف الإستراتيجي «الانتصار دون حرب» الذي قال به ريتشارد نيكسون.

اختراق الاتحاد السوفييتي ثقافياً

على هذا النحو مثّلَ التغيير التدريجي الذي نُفِّذَ في الاتحاد السوفييتي وبلدان أوروبا الشرقية الاشتراكية أنموذجاً. وكما هو معروف عموماً، فإنّ اختراق القيم يكون بالعادة بطيئاً وطويل الأمد ومستتراً، وغالباً ما تكون قنوات الاتصال الخاصة بهذا الاختراق مدسوسةً في التبادلات الأكاديمية والأعمال الأدبية والأفلام والبرامج التلفزيونية. على سبيل المثال، وكما تم وصف هوليوود بشكل محق بأنها «مكبّر صوت سياسة الهيمنة الأمريكية... حيث تعرض أفلام هوليوود خصائص الولايات المتحدة لبقية العالم وتحاول تحقيق غزوها الثقافي بهذه الطريقة».
لقد سبق للمسؤول الكبير السابق في وكالة الاستخبارات الأمريكية المركزية آلن دالاس أنْ قال «إذا قمنا بتعليم الصغار في الاتحاد السوفييتي أن يغنّوا أغانينا ويرقصوا عليها، فإننا عاجلاً أم آجلاً سوف نعلّمهم أن يفكّروا بالطريقة التي نحتاجها».
المؤسسات ومراكز الفكر هي أيضاً قوى دافعة مهمّة لانتشار النيوليبرالية. على سبيل المثال، تشارك مؤسسات مقرّها الولايات المتحدة، من أبرزها فورد، وروكفلر، وجمعية مونت بيليرين، و»مركز المشاريع الخاصة الدولية»، في تعزيز القيم النيوليبرالية من خلال تمويل الندوات والمنظمات الأكاديمية.

الاحتكار الأمريكي

صرَّح فلاديمير لينين ذات مرة «بدلاً من الاحتكار غير المجزَّأ لبريطانيا العظمى، نرى بعض القوى الإمبريالية تتنافس من أجل حق المشاركة في هذا الاحتكار، وهذا الصراع هو سمة لكلّ الفترة الباكرة من القرن العشرين». لكن منذ نهاية الحرب الباردة، تميزت الرأسمالية العالمية بالاحتكار غير المجزَّأ للولايات المتحدة هذه المرّة، في حين افتقرت القوى الأخرى إما للنية أو للقوة حتى تنافسها. وعندما حاولت بعض الدول فُرادى كاليابان تحدّي «حقوق» الاحتكار الخاصة بالولايات المتحدة اقتصادياً وتكنولوجياً، منيت بالفشل بالنهاية. كذلك كان الحال مع الاتحاد الأوروبي، الذي ظهر لاحقاً لكنه فشل أيضاً في زعزعة الهيمنة الأمريكية. في المجال العسكري، غذّت حرب الخليج والحروب اللاحقة في كوسوفو وأفغانستان والعراق وليبيا وسورية، الأحادية الأمريكية وغطرسة الهيمنة. وبمساعدة تحالفاتها الاقتصادية والعسكرية والسياسية، وتوظيف القوة الناعمة الثقافية. تروّج الولايات المتحدة لقيمها «الشاملة» وتحرّض على الثورات الملونة في بلدان أخرى، وتجبر البلدان النامية على تحرير نظمها المالية عبر استهدافها لخلق أزمات الديون والأزمات المالية. عندما يواجه نظام الحَوكمة العالمي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة تحديات، فإنه يطلق الحروب التجارية، وحروب العلوم والتكنولوجيا، والحروب المالية، والعقوبات الاقتصادية، وما إلى ذلك، بل يذهب إلى حد شن ضربات عسكرية أو التهديد بها.

دولار – جيش – ثقافة

الدولار الأمريكي، والجيش، والثقافة هي الركائز الثلاث للهيمنة الإمبريالية الأمريكية، بحيث يمكن الحديث عن قواها المتآزرة: «الشديدة» و»الناعمة» و»القاسية» (العقوبات الاقتصادية)، و»الذكية».
باختصار، يوفر التحالف الرأسمالي الاحتكاري الدولي المكوَّن من مُهيمِنٍ واحد مع عدة قوى عظمى، الأساسَ الاقتصادي للسياسات النقدية، والثقافة المبتَذَلة، والتهديدات العسكرية التي تمارس الاستغلال والقمع، من خلال الاحتكار في الداخل والخارج، والتي تُضخِّم قوّةَ الولايات المتحدة باعتبارها المهيمِن الإمبرياليّ الجديد.

الهيمنة الثقافية والاحتيال

يعتقد بريجنسكي، المستشار السابق للأمن القومي الأمريكي، أنّ «تقوية الثقافة الأمريكية كنموذج لثقافات العالم هي إستراتيجية يجب أنْ تنفّذها الولايات المتحدة للحفاظ على الهيمنة».
وتتجلّى الهيّمنة الثقافية للولايات المتحدة بشكل أساسي من خلال سيطرتها على وسائل الإعلام والتربية والتعليم، ومن خلال وظيفة الدعاية، سواء في الداخل أو الخارج، مروّجةً لأدبها وفنونها وقيمها الليبرالية. تصدّر الولايات المتحدة الأفلام والموسيقى والأدب في جميع أنحاء العالم. وهي تسيطر على 75% تقريباً من البرامج التلفزيونية في العالم، وتمتلك شركات سينمائية وتلفزيونية قوية مثل WarnerMedia و Universal Pictures و Paramount Pictures و Columbia Pictures، والتي تنتج كل عام عشرات الأفلام ذات الميزانية العالية بمئات ملايين الدولارات. تهيمن أبحاث وتقارير وسائل الإعلام الأمريكية الرئيسة بشكل فعّال على تشكيل الرأي العام العالمي. تسيطر الولايات المتحدة أيضاً على المجلات المرجعية التي تصوغ الخطاب الأكاديمي للفنون الليبرالية، والولايات المتحدة هي التي تحدّد معايير تعليم النخبة. يقدّم تصنيف QS العالمي للجامعات مثالاً على ذلك. فالمراكز الأولى كلّها تحتلها جامعاتٌ أمريكية، مما يوفّر أداة قويّة لنشر القيم الغربية «الشاملة» المخادعة، ووجهات النظر الدستورية الغربية، والمفاهيم الاقتصادية النيوليبرالية، في جميع أنحاء العالم. لقد أحكمت الآراء الأساسية لمؤسسة الفنون الليبرالية الأمريكية قبضتها بقوة على رِقاب النُّخب والجماهير في الداخل والخارج. مثلاً، تمجّد الولايات المتحدة أمثلةً مبتذَلة من الفنون والآداب بوصفها أعمالاً ثقافية «متميزة»، و»تستحق» جوائز الأوسكار أو نوبل...
يصعب في وسائل الإعلام الأمريكية الكبرى نشر الأعمال غير المتوافقة مع شرائع الفنون الأدبية والفنية الليبرالية لرأس المال الاحتكاري، في حين يتم استبعاد كتّاب وفنانين رغم تميّزهم الحقيقي، ويتم قمعهم أو الاحتيال عليهم. كما تحتل الولايات المتحدة مكانة مهيمنة مطلقة في مجال الفضاء الإلكتروني العالمي والإنترنت. فمن بين خوادم نظام أسماء النطاقات الثلاثة عشر الجذرية، هناك تسعة خوادم تحت السيطرة المباشرة للشركات أو الجامعات أو الإدارات الحكومية الأمريكية، بينما يتم التحكم في أخرى مباشرة من قبل منظمة أمريكية «غير ربحية».
وهذا يمكّن للولايات المتحدة من سرقة معلومات استخباراتية ومراقبة الشبكة، وإطلاق هجمات إلكترونية كما كشف سنودن بشأن برنامج المراقبة «الموشور» PRISM. كما وتسيطر واشنطن على تحالف الاستخبارات المعروف باسم العيون الخمسة (الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وكندا وأستراليا ونيوزيلندا)، وتقوم من خلاله بأنشطة مراقبة واسعة النطاق وهيمنة سيبرانية محلية ودولية.

من استهداف السوفييت إلى الصين

تتخذ الهيمنة الثقافية الأمريكية دوماً مواقف معادية للاشتراكية والشيوعية. في السابق كرّست معظم جهودها لتشويه سمعة الاتحاد السوفييتي، لكن الهدف الرئيسي الآن هو الصين. في أوائل أيار 1990، صرّح نيكسون على المكشوف «بينما نعيد بناء العلاقة مع الصين، من المهمّ جداً أن نواصل الضغط عليهم للتخلّي عن الاشتراكية، لأننا سنستخدم هذه العلاقة لجعل سياسات الصين أكثر اعتدالاً. يجب أن نتمسك بهذه النقطة الرئيسية».
وفقاً لبيانات مركز بيو Pew الأمريكي للأبحاث فإنّ 74% من خريجي الجامعات الصينية يحبّون الثقافة الأمريكية. لا بدّ من الاعتراف بواقع أنّ معظم علماء الفنون الليبرالية الصينيين الذين درسوا في الولايات المتحدة يفضّلون النظريات الأمريكية الصادرة عن تلك المؤسسات، ولكن لديهم أيضاً درجات متفاوتة من مشاعر العبادة أو التملّق أو الخشية تجاه الولايات المتحدة. وهذا يؤثر بشكل خطير على ثقة الصينيين بالثقافة الماركسية الاشتراكية، وبثقافتهم الصينية التقليدية الغنية. ولذلك يجب إنهاء هذا الوضع في أقرب وقت ممكن.