سيكولوجيا الانتصار الشعبي نقيضاً لفردانيّة الفاشيّة والليبراليّة (1)
في عصرنا اليوم، عصر عودة انتصارات الشعوب التي تدقّ أبواب الحاضر بقبضاتٍ جبّارةٍ نحو مستقبلٍ أكثر حرية وعدالة، وفي هذه الأيام المجيدة التي يكاد يتكثّف فيها كلّ الصراع العالَمي الراهن واصطفافاته، بانتصار الشعب الفلسطيني المقاوم وحلفائه الحقيقيّين وأصدقائه والمتضامنين معه على كلٍّ من الحلف الصهيوني-الأمريكي الفاشي وعلى المسار الرجعي العربي، سواء منه الذي انخرط بالتطبيع المُفلِس أو الليبرالي الفاسد والمتخاذل عن الارتقاء إلى المستوى اللائق بالمعركة – في هذا العصر تحمل لنا النتائج التحرّرية التي بدأت تأتي أُكُلَها لمعركة «طوفان الأقصى»، أضواءً ساطعة على موضوعٍ ثقافيّ وسيكولوجيّ عميق، هو كيفية تطوّر وبناء سيكولوجيا الانتصار الشعبي وشروطها المادية بالطبع، بعد ما ساد من سيكولوجيا الهزيمة على مدى عقود التراجع. ولذلك من المفيد في هذا المقام مراجعة بعضٍ من النتاجات الثقافية في هذا المضمار لدى «أعلى منصّة معرفية» وصلتها الحركة الثورية والشعبية الأممية في القرن الماضي، وتحديداً فيما يتعلق بالسيكولوجيا الجماهيرية لانتصار الشعب السوفييتي على النازية آنذاك.
من المنشورات وثيقة الصلة بموضوعنا وبالمنصّة المعرفية التي نتكّلم عنها، مقالٌ نشر عام 1943 في المجلة النظرية السوفييتية «تحت راية الماركسية» المتخصّصة بالعلوم الاجتماعية والفلسفة، الصادرة في موسكو. والمقال بقلم الباحث س. روبنشتاين، وكان عنوانه «السيكولوجيا السوفييتية في زمن الحرب».
وفيه ينوّه الكاتب بأنّ «الحرب الوطنية العظمى التي يشنّها شعبنا السوفييتي ضد الغزاة الفاشيّين هي حربُ الشعب بأكمله، حيث يشارك فيها الملايين»، ويلاحظ بأنّ «الحرب جلبت معها مشكلاتٍ ذات أهمية أيديولوجية كبرى. وأكثرها حدّةً هي مسألة الدوافع الأخلاقية للسلوك. فمن المهم غرس الشعور بالواجب والمسؤولية والانضباط الداخلي، وجعل الفرد يشعر أنّ ما هو مهمّ اجتماعياً مهمٌّ أيضاً بالنسبة له شخصياً – مما يقدّم دعماً داخليّاً أثناء خوض غمار الحرب، وكذلك أثناء مرحلة البناء السّلمي فيما بعد الحرب».
يمكننا هنا أن نسقط مباشرةً هذه الفكرة العامة المتعلّقة بازدياد الترابط بين الفردي، والجَمعيّ الشعبي، في حالات خوض الشعوب لمعارك تحرّرها الوطني، كما فعل الشعب السوفييتي ضدّ الفاشية النازية، وكما يفعل الشعب الفلسطيني اليوم ضدّ الفاشية الصهيونية-الأمريكية. ولم يكن مصادفةً التشبيه الصحيح مثلاً لحصار غزة بحصار لينينغراد في هذا السياق.
سيكولوجيا من نمطٍ جديد
على غرار شجاعة الشعب الفلسطيني، كانت الحرب الوطنية العظمى بحسب وصف روبنشتاين «قد كشفت عن موارد من الشجاعة والبطولة في قلوب الشعب السوفييتي لم يُسمَع بمثلها من قبل. وتشكّلتْ هذه الصّفات، وبرزت، وتغذَّت في مخاض الحرب، تحت تأثير أهدافها العظيمة ووعي الشعب السوفييتي بأنه يجب عليه النضال لتحقيقها. ولإنجاز هذه المهمة التربوية المدنية العظيمة، لا بدّ من مراجعة جذريّة للعديد من المفاهيم التقليدية لعلم النفس القديم والمواقف الفلسفية التي ارتكز عليها».
وبحسب الكاتب، صحيحٌ أنّ جزءاً من علماء النفس مطلع القرن العشرين كانوا قد تخلّصوا من النزعة الفكرية التأملية السلبية التي كانت سائدة، والتي اختزلت الوعي الإنساني إلى مفاهيم وأفكار فقط، وصحيح أنهم بدأوا يكتشفون الجانب الديناميكي للنفسيّة، لكنهم اقتصروا في رؤيتهم له على «الاحتياجات العضوية والشهوات الحسية الأولية». لقد اختزلوا إلى هذه العوامل جميع َالميول الديناميكية للسلوك البشري التي تظهر كدوافع (كما في النظريات البيولوجية عن الحاجات لكلاباريد وآخرين، ونظرية فرويد عن الرغبات، والنظريات العديدة والشائعة حول الميول الغريزية لدى ماكدوغلال، وما إلى ذلك). أمّا الدوافع الأخلاقية أو المعنوية المرتبطة بمغزى اجتماعيّ، وبالواجب، فقد تمّت إزالتها تماماً من نطاق علم النفس، بذريعة أنّ علم النفس يدرس «الدوافع الحقيقية» للسلوك، في حين أن «الواجب» يرتبط بالأخلاق، والمعنويات، والأيديولوجيا، وينتمي إلى مجال «المثل العليا»، لا إلى «الواقعي» أو «الحقيقي» وفقاً لهم.
وينتقد روبنشتاين هذا الموقف الساذج والفج لعلم النفس والأقرب إلى «المذهب الطبيعيّ» فيما يتعلق بدوافع السلوك البشري، والذي لم يكن في جوهره سوى الجانب العكسي للنظرية المثالية، سواء كانت الأفلاطونية أو الكانطية أو الكانطية الجديدة. وهو موقفٌ يفترض مسبقاً أنّ الواجب له طبيعةٌ «متعالية» بالمعنى الفلسفي الكانطيّ لهذا المصطلح الذي يعني طابعاً غَيبيّاً غامضاً في عالَم آخر فحسب. وبحسب تلك الرؤية القديمة في علم النفس، كان يُصنَّفُ كلّ ما ينتمي إلى مجال الواجبات والأخلاقيات والمغزى الاجتماعي في تناقضٍ خارجيّ مع الوعي الفردي، وبالتالي يعتَبَرُ خارجَ نطاق الواقع النفسي والدراسة النفسية. وهكذا، أصبح من المحتّم أنْ تختفيَ من علم النفس دراسةُ تلك العمليات التي تفعَلُ فيها الدوافعُ الأخلاقية فعلَها، وكذلك الطّرق التي يتّبعها تطوُّر ونضجُ الصفات الأخلاقية للفرد. ولم يتمّ الإبقاء في نطاق البحث النفسي سوى على الاحتياجات والرغبات العضوية فقط.
وهكذا كان لا بدّ من التخلّص من مثل هذه المواجهة الخارجية بين الدوافع الاجتماعية والدوافع الشخصية المشروطة عضوياً. وتتمثل الطريقة الأساسية للتعامل مع التباين بين هذين النوعين من الدوافع في توضيح نشوء أشكال جديدة من الدوافع، هي دوافع إنسانية بالخاصّة، علماً بأنّه يجب فهم هذه الدوافع الاجتماعية والأخلاقية للفعل في خصوصيّتها النوعية، وليس بمعزلٍ عن الاحتياجات والرغبات المشروطة عضوياً. ودون الخوض في دراسةٍ خاصة لهذه المسألة، من الممكن هنا مجرّد الإشارة إلى حقيقة أنّ الحياة الاجتماعية والتقسيم الاجتماعي للعمل، بطبيعة الحال، وبموجب ضرورةٍ داخلية، تؤدّي إلى جعل نشاط الإنسان يهدف مباشرة لا إلى إشباع احتياجاته الشخصية فقط، بل واحتياجات المجتمع أيضاً.
الديماغوجية لدى الفاشية والصهيونية
أخيراً، من اللافت للانتباه التشابه الذي يمكننا لحظُه فوراً عند وصف روبنشتاين للديماغوجية الفاشية، حيث تنطبق أيضاً على نظيرتها الصهيونية. يقول: «إنّ الديماغوجيين الفاشيين يصرخون بلا انقطاع بأن كل شيء شخصي يجب أن يخضع لمصالح الكل، ومع ذلك فإنهم يكيّفون كل تلفيقاتهم الإيديولوجية للحفاظ على نظام اجتماعي قائم على الاستغلال الأكثر شراسة والعداء الأكثر مرارة بين المصالح، نظام لا يمكن أن يكون فيه أي شك في أية وحدة حقيقية لما هو مهم على المستوى الشخصي والاجتماعي، والذي لا يوجد فيه ببساطة مكان للأخلاق. ومن أجل خدمة أهدافهم السياسية، فإنهم يبنون نظريتهم البيولوجية للمجتمع على أساس الدم والعرق؛ إنهم يأملون في انتزاع التضحيات من الناس باسم (الكل)، في حين أن الطبيعة الاجتماعية لهذا (الكل) في الواقع مصممة لقمع كل ما هو إنساني حقاً في الشخصية الإنسانية».
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1151