«تمبكتو» و«تيرنر» في «كانّ».. ظلامية السلفيين وبوهيمية الفنانين
زياد الخزاعي زياد الخزاعي

«تمبكتو» و«تيرنر» في «كانّ».. ظلامية السلفيين وبوهيمية الفنانين

مُقلق في تفاصيله. مُحفِّز في رؤيته المسيّسة. مُوجع في صرخته النابعة من ضمير متوجّس ضد صعود تيار ظلامي متشدّد. «تمبكتو» للموريتاني عبد الرحمن سيساكو ـ المُشارك في «المسابقة الرسمية» في الدورة الـ67 (14 ـ 25 أيار 2014) لمهرجان «كانّ» السينمائي ـ أبعد من حكاية مقتل بقرة. إنه تفرّس في غدر تطبيقات تكفيرية بربرية، لا يقف أمام تبريراتها منطق أو قوّة أو إقناع. مرجعيتها ثابتة لا تُمس، وأحكامها قطعية لا رادّ لها.

تُرى، أيّ نوع من البشر تسعى تنظيماتهم المسلّحة إلى تعميمهم كنموذج بين الرعيّة؟ هل يُمكن صناعة إنسان إسلاموي طاهر بالكامل؟ كم نوعاً من السرائر لدى سلفيّ التعبئة الطائفية؟ هل قوّته حقّاً في حجج شرائعه الخاصّة وبيّناته، أو بالرصاص الذي يعبّئ رشّاشه؟ في المشهد الافتتاحي، تحت العلم الأسود لتنظيم «القاعدة»، يتعقّب متشدّدون غزالة مرتاعة وسط صحراء. يصرخ قائدهم: «لا تقتلوها. أعيوها». تتحوّل الغزالة إلى قرين عن طرائد بشرية، صوّر سيساكو مآسيها تباعاً كضحايا تأويلات دينية يأمر بها صِدامي تنظيم يوزّع أزلامه في كل زاوية. المكان «أسطورة صحراء» مالي، والحكم لإمارة سلفية جهادية تفرض قوانين «اعتماد الشدّة» لحصار المخطئين وردّاتهم. يردّد منادٍ منهم على السكان أن الموسيقى والمعازف حرام، والتبّرج حرام، وخلوة الرجل بامرأة حرام، مغلقاً بذلك روح مجتمع كان حاضنة الإسلام في السّفانة الأفريقية قبل قرون.

ترصد الحكاية الأساسية للفيلم يوميات عائلة الراعي «كيداني» وابنته «تويا» وشقيقها، الذين يعيشون على تخوم لن تمنع الموت من اختراق تطامنهم. عند النهر، صيّاد أسماك تعبث بقرة البطل بشباكه فيقتلها، قبل أن يهجم عليه الأب المنكوب ويصرعه، ليكون الحكم لشرع الدم: حياته وأربعون بقرة. يحلم الابن الملتاع بـ«خلق» تلك الحياة. في موازاة ذلك، نشهد رجم حبيبين شابين حتى الموت، وجلد امرأة بتهمة الزنا، ومطاردة موسيقيين، ومعاقبة لاعبي كرة قدم، وسجن سيدة ترفض ارتداء قفّازات إسلامية. يخلط سيساكو المأساة العامة بتهكّمات لاذعة، لكن ضمن عقلانية وترو وفطنة. لن يتحامل على متشدّديه بتسطيح ومبالغات، بل صَوّر (بإدارة التونسي كمال الفاني، الذي أنجز فيلم مواطنه عبد اللطيف كشيش»حياة أديل» العام الماضي) عقاباً جماعياً هو كُنية عن إرهاب اجتماعي وافد، يقوده أمير يتكلّم العربية، يعيب بها على آخرين يرطنون بها، وهي توكيد على سموّ موقعه وأداة تسلّطه، يواجهه في طبائعها القسرية إمام معتدل. يحاججه في سلوكيات أزلامه، مبيِّنا خطل ترجمته لأحكام الدين وآياته وأحاديثه. تتمّ مواجهتهما على أرضيتين متناقضتين: أولى مرتبطة بقوّة سلاح وتهديد قصاص، وثانية مسنودة إلى شجاعة قراءاتها لنصّ ديني تُدافع عن أحقّية عقلنته والانتصار لوسطيّته. لن يتسرّع سيساكو في إعلان موقف معدّ، بل يكرّس أسلوباً سينمائياً جدلياً، على الرغم من انتخابيّته أحداثاً معينة، لدفع ميزان مشاهده نحو الكفة الحقّة.

ينعى صاحب «في انتظار السعادة» مدنيّة تعاني حصاراً جائراً، وتطورا ضرورياً يُجهَض على أيد سلفية تستقوي بمسوّغات الورع وصراطه. قتل البطل وزوجته «ساتيما»، التي تعرّضت سابقاً لنهي عن إظهار شعرها، غيلةً برصاص الجهاديين، وهما يركضان إلى عناقهما الأخير، إيذاناً بتوقّف عقلانية قانون، ومثله أيّ تراتب سلمي لنهضة مجتمعية، ليصبح المستقبل قاتماً، يتجسّد اكفهراره بمشهد أخير نرى فيه الطفلة «تويا» راكضة في صحراء مفتوحة، كونها طريدة جديدة لجيل لن يفلت من دُهمة أصولية دامسة.

على طرف آخر من المسابقة الرسمية نفسها، انتخب المعلّم البريطاني مايك لي في جديده «تيرنر» سيرة ذهبية تغطي 25 عاماً من حياة أحد آباء التيار الانطباعي، الرسّام جوزيف مالورد تيرنر (1775 ـ 1851)، «مؤفلما» انقلاب قيم وعادات وتراتبات طبقية وسياسية في بلد يزهو بأمبريالية مرفّهة، مشيراً إلى تواريخ حقب ثورية، وإن لم يفرزها كعناوين، وتبدّلات حاسمة في الذائقة الحداثية، وإن مرّ عليها بمشهديات سريعة، عبر مشاحنات رموز تيارات شديدة العداء داخل الأكاديمية الملكية. صَفَع تيرنر، الملقّب بـ«سيّد الضياء»، عقلية التجسيد الميكانيكي لظواهر الحياة في اللوحة التشكيلية الأوروبية، مستكشفاً، بدلاً منها، خصائص فاتنة للطبيعة، بتباين ألوانها وأضوائها وإيهاماتها وفوراتها. شكّلت اشتغالات هذا الجوّال المجيد عصراً نورانياً في العودة إلى ظواهر الكون وحركيّتها اللونية، لينثرها بفورة مفتوحة الآفاق على أصباغ، تحوّلت على يديه إلى طلق تشكيلي لا مثيل في ثرائه.

الفيلم الجديد لصاحب «أسرار وأكاذيب» (1966) ليس مسرداً أكاديمياً لحياة تيرنر بالذات، بل تفرّسا سينمائياً بالغ الغنى (تصوير ديك بوب) لسلوك طبقي وعقليات غليظة لا ترتضي التغيير من باب حرصها على ثبات حالات ارتزاقها. لذا، ركّز لي على عوالم عزلة فنانه وحماسته للتغيير والمواجهة التي توفّر له انعكاسات خلواته. وقد أدّى دور الفنان باقتدار الممثل تيموثي سبال، بنحنحات صوتية مميّزة اتّخذها وسيلة للتعتيم على قناعاته وفظاظاته، قادته بعد عقود نحو مجد خالد. سعى النصّ الطويل (149 د.) لمايك لي إلى توثيق نخبوية فنّ القرن التاسع عشر وسلطوية مقتنيه، وإعلان تيرنر رفضه لها بحجّته البليغة في أن «أعمالي هدية للأمة البريطانية»، ضارباً بجشع مضاربي اللوحات ومناوراتهم للاستحواذ على نصوصه الانقلابية، ووأدها في قصور المقاطعات التي خطفت مراعيها لبّ تيرنر. لن يزوّق لي شخصية رسّامه أو يحسّنها، انما يُصوّره كائناً بوهيمياً، لا يتوانى عن «اغتصاب» مدبّرة منزله، أو تحويل والده العليل إلى عبد، أو أن يبخس منزلة غريم. فهو كائن عادي، له زلاّت لا تجد غفرانها إلاّ عندما يغسلها بألوانه الضاجّة بالحيوية والبهجات.

 

المصدر: السفير