حول التربية الاجتماعية وانخفاض الولادات والمسألة الحضارية

حول التربية الاجتماعية وانخفاض الولادات والمسألة الحضارية

القول بأن المرحلة تفترض وضع القضايا كلها على الطاولة، أي وضعها على جدول أعمال البشرية، لا تعني فقط القضايا السياسية المباشرة، أو تلك التي لها علاقة بالإنتاج والاقتصاد، أو بالعلاقة مع الطبيعة، بل أيضاً مجمل قضايا التنظيم الاجتماعي والعلاقات، والتي تتضمن بالضرورة علاقة الفردي بالعام وتنظيم الأطر الإجتماعية، ومنها قضية التربية والعائلة.

انخفاض عدد السكان

إن قضية انخفاض عدد السكان لطالما ارتبطت بالمجتمعات «الهرمة» الغربية، التي تعوض عن ذلك بشكل أساس بـ«استيراد» اليد العاملة عبر آلية التبادل غير المتكافئ وشفط العقول والقدرات البشرية. ولكن المفارقة اليوم أن مجتمعاً كالصين سجّل للمرة الأولى منذ عقود انخفاضاً في عدد السكان بلغ 850 ألفاً ليبلغ في نهاية العام الماضي (2022) حوالي مليار و412 مليون نسمة. ويقدر الخبراء أن هذا الانخفاض سيستمر في العقود القادمة إذا ما استمر الانخفاض بهذه الوتيرة. وعلى الرغم من أن دور العامل الاقتصادي المباشر كبير في قضية نمو عدد السكان، إلا أن المسألة تفترض توسعاً بالنقاش يطال تفاعل مجموعة من العوامل التي ترتبط كلها بتناقضات نمط الحياة الذي قدمته الليبرالية. وبالتالي فإن علاج مسألة انخفاض عدد السكان لا ينفصل عن هذه التناقضات وعن تجاوزها، أي عن تجاوز نمط الحياة الفرداني نفسه وحضارته المأزومة.

قضية الأسرة والزواج

إن انخفاض عدد الولادات يرتبط بالضرورة بالقدرات الاقتصادية في مجتمع ما. ولكنها لا تنحصر في هذا العامل بل تتجاوزه لتطال مجمل التصور عن العالم الذي يحمله الأفراد وعن «النشاط الفردي القائد» الذي يحكم الأفراد في حياتهم ككل، وأهدافهم واحتياجاتهم ومكان توظيف طاقتهم. وفي ظل نمط الحياة الفرداني المهيمن في للعالم خلال العقود الماضية تمحور النشاط الفردي حول قضايا مرتبطة «بنمو الذات» «والسعادة» التي تستند إلى الاستهلاك والكمية. وكلها عوامل جعلت من قضايا العلاقات الاجتماعية أقل ثباتا وتماسكاً وقدرة على الاستمرار، محمولة على تفريغ الرابط البشري من المشترك الجامع، ورفع من مستوى الانتقائية صعبة المنال، والتي يسميها بعض علماء النفس «قضايا مستحيلة المنال» المرتبطة بالنموذج المبني على طراز العلاقات «الصافية والناجحة» في الأفلام والمسلسلات والدعايات والأغاني المصورة المهيمنة. وهذا ما جعل من قضايا الارتباط والرضا عن العلاقات مسألة صعبة التحقيق، مما أضعف إمكانية تشكيل أسر وعائلات ثابتة. وهنا يتدخل العامل الاقتصادي بشكل غير مباشر، بحيث إن شكل سوق العمل في مرحلة الأزمة بالتحديد حيث تمت عولمة الأفراد وأماكن عملهم وحياتهم، ورفع مستوى عدم الاستقرار واليقين، قلل إمكانية التفكير في استقرار اجتماعي في صيغة العائلة، وزاد من مصاعب هذا الخيار. وهنا تتدخل الثقافة كعمل مضاف في تفاعل مع عامل تفريغ العلاقات الاجتماعية من المشترك الجامع. فاتجاه التطرف الثقافي يتطور على قاعدة انتعاش الهويات التي تشكل ملجأ للأفراد في عالم مضطرب، فيكون التمسك بالهويات، وتحديداً في مجتمعات يتفكك فيها التصور عن العالم، يشكل هذا التمسك الهوياتي عاملاً دفاعياً. وهذا ما يجعل من حياة «الغربة» المكانية والثقافية عاملاً آخر في تقليل وتعقيد قضية الارتباطات الاجتماعية الثابتة التي تشكل حداً أدنى من شروط أي عائلة. إذاً، وكما يظهر ليس العامل الاقتصادي، على أهميته، إلا واحداً في هذه القضية المعقدة.

قضية التربية

على الرغم من أن ما ذكر أعلاه ليس إلا عناوين عامة بحاجة للتوسع والبحث، ولكنها تشكّل نقطة انطلاق وإطاراً عامّاً للتفكير في قضية انخفاض عدد الولادات، على قاعدة تعطل تشكل الأسرة. ولكن هناك عوامل أخرى، قد تسمح لنا بالانتقال إلى معالجة «حلول» هذه الأزمة. وبكلمة، يمكن القول إن تراجع الحاضن الاجتماعي للشريكين العاملين، وتحديداً البيئة المدينية المتوسعة، وتراجع العائلة الكبيرة الحاضنة للأولاد، أجبر غالبية الأزواج على الاعتماد على دور الحضانة، منها الخاص ومنها العام التابع للدولة، والتي بدأت تنتعش في بلاد الأطراف بشكل كبير. ولكن الصعوبات الاقتصادية المتصاعدة في سنوات الأزمة الأخيرة تمنع الاعتماد على هذا الخيار. وهذا العامل له وزن كبير في دول «المنافي»، حيث تختفي البيئة الاجتماعية الحاضنة، أو في دولة كالصين، والتي قلنا إنها تواجه أزمة في قضية عدد السكان، حيث إن سياسة الولد الواحد ضيقت بشكل كبيرة مدى الأسرة حيث تقتصر بنية العائلة اليوم على الأب والأم، الجد والجدة، والذين غالبا ما يكونون عاملين، وبالتالي لا وقت لديهم لمهمة حضانة الأطفال الجدد. فالعائلة الصينية المدينية غالباً لا يوجد فيها لا عم ولا عمة، ولا خال ولا خالة. إذاً، إن التنبؤ الماركسي الكلاسيكي حول تحول قضية التربية إلى عملية اجتماعية حاصلة ولا شك، ولكن ضمن النموذج الحضاري الليبرالي الرأسمالي المهيمن. هذه النقطة تشكل لنا نقطة انطلاق للتحول في النموذج التربوي الاجتماعي ضمن عملية الانتقال الحضاري المطروحة على جدول الأعمال.

التحول الحضاري إطاراً لتفاعل العناصر

إن العوامل الفاعلة في قضية انخفاض عدد السكان عديدة، ومنها كما قلنا عوامل ثقافية واغترابية نفسية وهوياتية واقتصادية وقضية وقت وتفرغ. وبالتالي، فإن حلها ينتمي بالضرورة إلى أزمة النموذج الحضاري المهيمن المأزوم. ونحن لا نقول بأن النموذج الحضاري القادم يفترض طفرة بعدد بالسكان (هذه قضية مررنا عليها سابقاً في قاسيون حول علاقة الكم والنوع). فالنموذج الحضاري النقيض سيعتمد بالضرورة على التكنولوجيا الحديثة للقيام بالعمل الجسدي وحتى قسم غير قليل من العمل الذهني بسيط التعقيد. وهذا الحل لا يصلح للنموذج الحضاري الرأسمالي القائم كونه يضطر إلى القضاء على قسم من البشرية ولا يحد من الولادات فقط بل يوقفها، وهكذا تكتمل الحلقة في ربط قضية انخفاض عدد الولادات مع أزمة النموذج القائم. بينما في الحضارة الإنسانية، أو حضارة صناعة التاريخ، تسمح لتوظيف التكنولوجيا لتحرير قسم كبيرة من القوى العاملة لصالح نشاطات إنتاجية أكثر إبداعية. وبالتالي، يقدر هذا النموذج الحضاري أن ينظم قضية الولادات حسب حاجته هو، وليس بشكل انخفاض قسري كما يحصل اليوم. وإضافة، يسمح هذا النموذج الحضاري بحل العديد من الأزمات المرتبطة بقضية انخفاض عدد الولادات اليوم. أولاً، يسمح ببناء الروابط بين البشر، بدل التفريغ والتفتيت الحاصل اليوم، وبالتالي يؤمن قاعدة أكثر ثباتاً ومتانة للعلاقات بين البشر. وكذلك يعالج القضية الاقتصادية التي تقف اليوم عائقاً أمام قضية الإنجاب. والأهم، هو أن النموذج الحضاري القادم يجب أن يسمح بجمعنة أكثر لقضية التربية. إن الجمعنة حاصلة اليوم عبر دور الحضانة، ولكن مع تكلفة اقتصادية كبيرة لا يقدر عليها الأغلبية (إن مسار تحويل الإنتاج إلى جماعي حصل في مستوى الرأسمالية منذ فترة طويلة، ولكنه يحصل اليوم على مستوى إعادة الإنتاج، وبالتالي هذا عامل آخر على ضرورة وجود شكل فوقي وثقافي يحرر قوى الإنتاج من علاقات الإنتاج الرأسمالية التي تعمل لصالح القلة). من هنا كان القول إن النموذج الحضاري النقيض لا يمكن أن ينطلق من فراغ، بل ينبع من تناقضات النموذج الحضاري المأزوم ويعمل على حلها، وقضية انخفاض عدد الولادات والسكان ليست إلا مثالاً تتداخل فيه العوامل المختلفة التحتية والفوقية ويظهر فيها الفردي والجماعي بشكل شفاف.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1134