«المادة البشرية الجديدة» بين لينين وتركة الليبرالية (3)

«المادة البشرية الجديدة» بين لينين وتركة الليبرالية (3)

في المادتين السابقتين حاولنا أن نستعيد بعض أفكار لينين حول محاولة بناء المجتمع الجديد، وتحديداً الدور الحاسم للعنصر البشري وإشارته إلى الملامح النفسية والنظرة إلى العالم (الموقف من العمل مثلاً). وتناولنا بعض التحولات التاريخية للعنصر البشري على ضوء الهوامش الليبرالية في العقود الماضية، ما جعل العنصر البشري «سلاح دمار شامل» بيد قوى العالم القديم. في المادة الحالية نتناول بعض الظواهر من الحياة العملية لجدل التدمير-البناء.

مجدداً عن العنصر البشري والمشروع الحضاري النقيض

التركيز على العنصر البشري والتعبير عن تناقضاته التي تطورت في ظل الليبرالية يجب أن يكون جوهر المشروع الحضاري النقيض الذي يجب أن يقدم تصوراً جديداً عن العالم يتلاءم مع «الجوهر» الفردي الذي دفعت به الفردانية الليبرالية إلى الحدود القصوى ولكن قمعت تحقيقه في ذات الوقت. ضد «الوجود لأجل الذات» الذي هو جوهر النمط الاستهلاكي-الفرداني، يجب أن يطرح المشروع الحضاري النقيض «الوجود لأجل الآخرين كطريق للوجود لأجل الذات». وهذا يتطلب أولاً أن يحمل المشروع الحضاري مقولات هذه الأزمة للنمط من «الوجود لأجل الذات» الليبرالي (أي أن يظهر المشروع النقيض واعياً بتناقضات الأفراد العميقة وحاجاتهم)، وثانياً «أن يحمل مقولات النمط الجديد من الوجود «لأجل الآخرين كمدخل للوجود لأجل الذات»، وثالثاً والأهم، أن يقدم الطرح العملي لتحقيق هذا الوجود لأجل الآخرين، من التنظيم السياسي، إلى الموقف من العمل والإنتاج، إلى العادات اليومية، أو أقله اتجاهها العام في تعارضها مع يوميات التغريب الحالية للوجود الميت الروحي والمادي. وإلا فإن عدو البشرية من قوى العالم القديم ستوظف المادة البشرية لصالحها.

مرحلة «الاستيعاب» والتدمير الناعم

ليس توظيف العنصر البشري وحاجاته وتعليبها في قالب قوى الرجعية بجديد. ففي مراحل الفاشية التي سبقت الحرب العالمية الثانية وخلالها جرت نقاشات كثيرة حول ما سمي بـ«سيكولوجيا الجماهير الفاشية». ومنهم عالم النفس فيلهلم رايش، الذي عليه الكثير من الملاحظات السياسية والنظرية لجانب جنوحه ضد الاتحاد السوفياتي، ولكن لا ينفي أهمية بحثه في البنية المعقدة لكيفية تعليب قوى الفاشية لعدم الرضا العميق للأفراد وحاجاتهم الذاتية-الفردانية المجردة، لصالح المشروع الفاشي. ومن الأمثلة التي ذكرناها سابقاً الرموز المجردة للقوة الفردية التي بثتها الفاشية في مرحلة صعودها وقدرتها على جذب الفئات الوسطى تحديداً والشباب. فهي قدمت إجابة ما لحاجات إثبات الذات الفردية، ولم يكن اللباس والمهرجانات والحفلات والرحلات في الطبيعة إلا نماذج عن هذا الجذب. وبالمناسبة ذكر زياد الرحباني في إحدى مقابلاته كيف انجذب هو شخصياً في مرحلة مراهقته إلى الملبس لدى أحزاب الفاشية اللبنانية، وكيف قمعه والده وقتها (الفنان عاصي الرحباني). ودعى رايش وقتها القوى الثورية الماركسية إلى التنبه إلى هذا العنصر الفرداني لدى خوض الصراع. ويبدو أن هذه المقدمات «الفردانية» في المشروع الفاشي تطورت لاحقاً بعد الحرب العالمية الثانية لدى انتقال الرأسمالية إلى نموذج «الرفاه» الليبرالي ورشوة مجتمعاتها بالتحديد. فهي قدمت مساحة استيعاب لهوامش «تحقيق الذات» الفردية، ولكن في ذات الوقت وظفت هذا الاستيعاب لصالح العدائية تجاه المعسكر الاشتراكي والاتحاد السوفييتي بالتحديد. فكان العنصر البشري هنا حاسماً كسلاح.

من «التدمير الناعم» إلى التدمير البربري

الموقف باستغلال العنصر البشري كسلاح بدهي وليس جديداً، ولكنه اليوم يدفع إلى مدى أبعد وأكثر تدميراً، حيث إن عقود الليبرالية الأخيرة وسعت الملامح الليبرالية في العالم كله، ومنها داخل الدول الصاعدة، وتحديداً نمط الحياة اليومي، والحاجات الفردية عالية التجريد وتحديداً «الوجود لأجل الذات» ومعنى الوجود، بمعزل عن الخطاب والهوية السياسية والوطنية لشعوب هذه المجتمعات. وهذا هو التناقض الداخلي القاتل الذي يجب حلّه. وتحويل العنصر البشري لصالح بناء العالم الجديد وحماية البشرية من الانحدار المستمر نحو البربرية والفناء، يفترض تقديم إجابات تتناسب مع الجديد التاريخي، ولا تكتفي فقط باسترجاع عناصر تاريخية «ماضوية» (ثقافية هوياتية) مهما كانت في وقتها ثورية. فالحلول يجب أن تكون نابعة من الواقع الراهن. أي أن يتم تجاوز معادلة «الوجود لأجل الذات» الفردانية-الليبرالية، لصالح «الوجود لأجل الآخرين كمدخل للوجود لأجل الذات». وهذا يتطلب تحويلاً في نمط الحياة اليومي، وعاداته، وبالتالي تحويلاً لنمط الإنتاج، ولا يمكن لأي عالم جديد أن يصمد دون سحب قوى التدمير التي يمنحها العنصر البشري لقوى العالم القديم. ليكن اسمها ما يكون، ولكنها نمط حياة يقوم على تحرير القوى الحية. فـ«الثورات الملونة» كلها والمجموعات الفاشية كلها، تغذت على شعارات «الوجود لأجل الذات»، ومضمونها الفرداني المبنية على مصطلحات كالعداء «للدكتاتورية والتسلط» التي توظف لصالح تدمير البنى والمؤسسات من جهاز الدولة إلى المنظومة الاجتماعية إلى العقل نفسه وعزلته عن واقعه وعدائه معه بحجة «الحرية». ولا تخرج المادة المغذية لتسلط الإعلام وتربحه الضخم عن هذا السياق. فحضور الأفراد على منصات التواصل والغرق في العالم الموازي الذي تهيمن عليه الأفكار ذات المضمون التزييفي للواقع، هذا الحضور مدفوع بحاجات البروز والوجود الفردي، من نشر الصور الخاصة إلى كتابة الخواطر واليوميات، وواضح اليوم مدى التطرف في نموذج المنصات وتسارع وتيرتها وضخامة الحضور عليها... ولا تخرج الموضة والتطرف في العادات «الجمالية» إلا حاجة ضمنية للبروز وتثبيت المساحة الفردية... وكله يتحرك تحت صيغة «خالف تعرف». ولكن الجميع «يخالف» ضمن إطار «التدمير» المرسوم بدقة.

العالم الجديد يولد من قلب القديم

كيف إذاً لقوى العالم الجديد وتيار الحياة أن يواجه مئات الملايين حول العالم؟ فهذه الحشود يجري توظيفها، ولكن أيضاً يجري تدمير عقلها وعقلانيتها وتعميق تعفن وجودها اليوم الروحي والثقافي والنفسي. فالعالم الجديد يجب أن يحل تناقضه الداخلي. فهو خارج من أحشاء العالم القديم يحمل تركته وإرثه ولا ينفصل عنه. إذاً يجب أن يتم تحويل العنصر البشري من مادة تدمير إلى مادة بناء. وهذا لن يتم بشكل عفوي. كما قلنا، يجب أن يتم تحرير هذا الجوهر الفرداني التوّاق للوجود، ووضعه في سياقه الجماعي القادر وحده على تحقيقه. إلى حد الآن لم يتضح بعد الإطار العالمي لبلورة ورفع هذا المشروع الحضاري الجديد، وكيفية تجميع قواه، خارج التجميع الدفاعي الذي لا يزال يتحرك بنسبة كبيرة على أساس قواعد نمط الحياة المهيمن. وهذا لا يمكن إلا أن يكون شكلاً جديداً من تنظيم الأممية يتلاءم مع هوامش أيديولوجية واسعة يلعب فيها العنصر الثوري دوراً حاسماً. وهذا الاتجاه نحو أممية العمل السياسي صار ملمحاً ثابتاً وسريعاً في الصراع العالمي عبر توحيد القوى في أطر وأجسام دولية جديدة. ولكن المشروع الحضاري وطرح نمط حياة جديد لم يصبح بعد على جدول الأعمال. مع أن التدمير اللاحق بالعنصر البشري صار كبيراً جداً، وليس الخلاف على قضايا «الجندرية والجنسانية والعنصرية» إلا الملفات الأكثر تطرفاً من هذا التدمير. يجب أن تتم الدعوة لفتح هذا النقاش، حتى لو أتت من تنظيمات «صغيرة» ولكن يجب أن تتم المبادرة حتى تتم المراكمة وسريعاً. وسنتفاجأ من حجم القوى التي ستتشكل حول هكذا مبادرة «متقدمة».

معلومات إضافية

العدد رقم:
1133