ضجر الإنسان المعاصر
«لقد تألمت دائماً من السأم، ولكن يجب أن نتفاهم على معنى هذه الكلمة. فهي تعني، بالنسبة لكثيرين، عكس التسلية، والتسلية هي الشرود والنسيان، ولكن السأم بالنسبة لي، ليس كذلك، بل يمكنني القول إنه، في بعض مظاهره، يشبه التسلية بما يخلّفه من شرود ونسيان ينتميان طبعاً إلى فئة خاصة جداً. إن السأم في نظري هو حقاً نوع من النقص أو عدم التلاؤم أو غياب حس الواقع. وأعمد هنا إلى تشبيه فأقول: إن حس الواقع، حين يتملكني السأم، يحدث لدي ما يحدثه بالنسبة للنائم غطاء قصير أكثر مما ينبغي، في ليلة شتوية: فإذا سحبه على قدميه، أصيب بالبرد في صدره، وإذا رفعه إلى صدره، أصيب بالبرد في قدميه، فهو لهذا لا يستطيع أبداً أن ينام قرير العين».
في المقطع السابق، يتناول الأديب الإيطالي ألبرتو مورافيا في روايته المعنونة «السأم، ذلك الشعور المقيت الذي يأخذ أشكالاً مختلفة، ليس بوسع الكثيرين منا شرحه رغم إحساسهم العميق بوطأة ما يعانونه منه. إنها حالة نفسية واسعة وغامضة تظهر في الغالب في عدم التواصل، أو كما يصفه مورافيا لاحقاً بـ«ظلام وفراغ داخلي، أو هو عبارة عن ذبول وفقدان للحيوية مفاجئين تقريباً..»
يحدد مورافيا في روايته الزمن الذي بدأ السأم أو الملل فيه بالانتشار، أثناء حكم الفاشية في إيطاليا: «أي العهد السياسي الذي جعل من عدم التواصل نظاماً ليس بين الدكتاتور والجموع فقط، بل بين المواطنين أنفسهم كما بينهم وبين الدكتاتور. السأم الذي هو غياب العلاقات بين الأشياء قد ملأ في عهد الفاشية، حتى الهواء الذي كنا نتنفسه، إضافة إلى السأم الاجتماعي..». قام مورافيا، من خلال إشارته هذه، بربط المشكلة بجذرها الاجتماعي، فالسأم أو الملل كما يسميه العامة ليس فقط شعوراً نفسياً يخص حالات محددة عند أناس بعينهم، بل هو امتداد لمسألة عميقة الجذور مرتبطة بالواقع الاجتماعي والسياسي الذي أنتجها.
الاستهلاك القاتل!
تكمن المسألة في أن البنية الفوقية لأية تشكيلة اقتصادية اجتماعية، ليست ذات قوة فكرية فحسب بل قوة مادية أيضاً، إذ تملك الدولة، كجزء من البنية الفوقية مثلاً، وسائلها الخاصة لممارسة السلطة، منها الجيش والشرطة والسجون، إضافة إلى مؤسسات ثقافية تؤثر من خلالها على الوعي الاجتماعي للمجتمع المعني ككل. وبهذا تتمكن الطبقة المسيطرة من نشر وترويج مبادئ وأفكار وسلوكيات موجهة لتوطيد نظام محدد يعمل لخدمتها. وما تناوله مورافيا أعلاه يخص مرحلة معينة في تطور الرأسمالية.
امتلكت الرأسمالية من خلال التطور التكنولوجي الهائل ميزة وجود إعلام عابر للحدود والقارات، وتمكنت عبر وسائل عديدة من اختراق الحدود الثقافية للمجتمعات، وصناعة وترويج الثقافة السائدة ذات الطابع الغربي عامة والمتأمرك على وجه الخصوص. إن المحرك الأساسي لهذه العملية يمكن اختصاره هنا بكلمة واحدة هي الاستهلاك. فالإنسان مستهلك للحد الأقصى ليس فقط في عمله وإنتاجه، بل في وقته وإرادته.
أثبتت بعض التجارب والأبحاث المتعلقة بدراسة ظاهرة الملل، أنه يمكن أن يحدث لدى البشر ليس فقط بسبب قلة المعلومات، بل أحياناً كثيرة بسبب تدفقها الشديد، حيث يقع الإنسان فريسة لما يسمى شلل الاختيار بين مثيرات متعددة. إن الإفراط في التعرُّض لوسائل الترفيه والتواصل المتعددة من أهم أسباب الشعور بالملل، فالتعرض المستمر والمتكرر لما تعرضه هذه الوسائط دون هدف يجعلها باهتة ومملة، وغالباً ما يكون الهدف من اللجوء إلى هذه الوسائط هو قتل الملل والضجر، إلا أن هذه المسكّنات الباحثة عن الإثارة، ترجع هي نفسها لتكون مصدراً للملل، خاصة إذا تزامن ذلك مع غياب الاستمتاع بالقيام بأنشطة اجتماعية واقعية. يؤكد هيراقليطس: «أن تفعل الشيء نفسه مراراً وتكراراً ليس مملاً فقط، بل أنه سيسيطر عليك بدلاً من السيطرة على ما تفعله». إن غياب الهدف، غالباً ما يفقد صاحبه زمام المبادرة ويجعله منفّذاً لما يطلب منه وليس ما يريده فعلاً.
الضجر.. لعنة العصر
تمكن مورافيا في روايته من توصيف لعنة العصر، كما يسميه ستاندال، الملل أو الضجر الذي يعاني منه إنسان العصر. عصر الوسائط المتنوعة ووسائل التواصل المختلفة الذي صنعته لنا الرأسمالية. وظاهرياً، يفترض أن يعني ذلك مزيداً من الاتصال والترابط بين البشر إلا أنه فعلياً خلق مزيداً من العزلة، يشعر فيها المرء بأنه محاصر، حيث تمكنت هذه الوسائط والوسائل من تصنيع ملل جماعي، من خلال التحفيز الحسي المستمر مما يسبب حالة من التوتر تنتج، مع غياب الهدف، شعوراً بالفراغ واللا جدوى. وتكون النتيجة هنا إنسان يتقبل أي شيء وليس لديه القدرة ولا الطاقة لأن يفعل أي شيء. هذه الحالة من اللا فعالية عند الإنسان تحوله ببساطة تحت ظروف الضغط الشديد للدعاية والإعلان إلى مستهلك كبير، يسعى إلى الحصول على الكثير من السلع دون هدف واضح من امتلاكها، وهو ما يفاقم مشكلة الملل، فهذه العملية تشبه الدوامة وتؤدي إلى نتيجة واحدة هي تشتيت الفكر فقط، أو كما يرى إيريك فروم: «إن الإنسان الحديث يشعر أنه يفقد شيئاً -الوقت- إن لم يقم بالعمل سريعاً، ولكنه لا يعلم سوى قتل الوقت وسيلةً للتعامل مع الوقت الذي يكتسبه».
وبما أن الملل شعور نفسي، يتناقض مع المتعة والإحساس بالرضا بعد الإنجاز، فهو عادة يتمظهر بطرق مختلفة، منها الإحساس الشديد بالخمول والتعب واللامبالاة، أو الانفعال والشعور بالعصبية. ويمكن أن يتسرب هذا الشعور تدريجياً للجسد أيضاً، فيتسبب بالصداع، والشد العضلي، ومشكلات الهضم، ونقص عام في الطاقة.
الانخراط في الحياة
الإنسان في جوهره هو مجموع علاقاته الاجتماعية وهذا الجوهر لا يظهر في الإنتاج (الذي هو أساس) فقط، بل في شتى مجالات الحياة الاجتماعية المختلفة والعلاقات العديدة والمتنوعة مع الناس الآخرين. ولطالما جرى التعامل مع هذه الحقيقة بما يناقض الحس المشترك العام للبشر، وذلك لخدمة مصالح الطبقة المسيطرة. ويجري الترويج لفكرة عدم قدرة الإنسان على مواجهة الملل وغيرها من المشاعر السلبية التي جاء بها عصر الاستهلاك.
بالرجوع إلى رواية السأم لألبرتو مورافيا، فقد أظهر أبداعه في توصيف المشكلة وتوضيح الحالة الشعورية للملل بتفصيل شديد، مؤكداً على لسان بطله في الرواية أنه لا يمكن تجاوز السأم لمن يعيشه وأن البحث عن أي تغيير وحل جذري لهذه المشكلة هو شيء من العبث.
الطريقة الوحيدة لمعرفة ما الذي يمكن أن يوفر السعادة والرضا للإنسان ومقاومة شعور الملل هو الانخراط بنشاط في الحياة والقيام بالأشياء والأنشطة المختلفة للوصول إلى الهدف.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1120