«إد وود» لتيم بورتون: براءة السينما في نظرة أردأ سينمائي في التاريخ

«إد وود» لتيم بورتون: براءة السينما في نظرة أردأ سينمائي في التاريخ

في واحد من اجمل وأغرب مشاهد فيلم «اندرغراوند» (1995) تحفة المخرج البوسني أمير كوستوريتزا، الفائز قبل عقد ونصف العقد من السنين بالسعفة الذهبية في مهرجان «كان» السينمائي، يخرج أهل القبو المحتجزون فيه معتقدين ان الحرب لم تنته بعد، فإذا بهم يجدون فوق الأرض قوات المانية. من فورهم يعتقدون انها قوات المانية حقيقية ويبدأون مقاومتها ويقتلون ويجرحون ضابطاً وجنوداً منها، ثم تمضي برهة قبل ان يتبين لهم ان ما وجدوه انما هو تصوير لفيلم عن «الحرب الوطنية» اليوغوسلافية و «المقاومة ضد النازيين» وأن الحرب الحقيقية انتهت منذ زمن بعيد، وأن الالمان هنا ليسوا سوى كومبارس وممثلين ثانويين يقومون بأداء فيلم كاذب جديد يروي الحرب من وجهة نظر الذين انتصروا فيها.

كان هذا المشهد وحده كافياً لجعل فيلم «اندرغراوند» يومها يصنف في خانة الافلام التي تتناول السينما، بل ان كوستوريتزا ذهب الى ابعد من هذا حينها إذ قال انه يعتبر فيلمه عملاً عن السينما، أكاذيب السينما، خياليات السينما. ونضيف نحن أن هذا الفيلم الرائع ما كان له ان يحوز أهميته لو لم يكن، في حقيقته، فيلماً استثنائياً عن فن السينما، عن مخيلة السينما وسيطرتها علينا، عن الانبهار بفن السينما. و «اندرغراوند» لم يكن استثناء في هذا المجال. بل كان، في شكله الظاهر على الأقل، واحداً من أقل «الافلام عن السينما» احتفالاً بفن السينما في ذلك العام، الذي كان فيه الفن السابع يحتفل بانتهاء القرن الأول من عمره. ذلك أن الافلام التي عرضت في دورة المهرجان لذلك العام، والتي يمكن بشكل او بآخر، اعتبارها مرآة صادقة لما يدور في ساحة السينما، تلك الافلام عرف الكثير منها كيف يجعل من نفسه تحية خالصة لفن السينما. وكانت هناك على الأقل خمسة من الافلام الرئيسة في عروض المهرجان، بين افلام المسابقة الرسمية، وأفلام بعض التظاهرات الثانوية تتحدث عن السينما نفسها.
واذا كان امير كوستوريتزا، اختار ان يجعل السينما قطب الرحى في واحد من اجمل مشاهد «اندرغراوند» وأكثرها دلالة، بحيث تسطع الأنوار بعد كلمة القبو، فإذا بها انوار الكاشفات الضوئية خلال تصوير الفيلم، وبحيث يشتد فعل المقاومة فإذا بها مقاومة غير مجدية لأن ضحاياها كومبارس، لا جنود ألمان، وبحيث يدخل اهل القبو عالم الحياة العادية من طريق اكذوبة السينما، فإن السينما في براءتها الاولى. السينما في جانبها المبهر، كانت الموضوع الاساس، كذلك، في فيلم هو كله هذه المرة عن السينما، وأي سينما؟! هذا الفيلم كان «إد وود» من اخراج الاميركي تيم بورتون. وإد وود الذي يحمل عنوان الفيلم اسمه هو المخرج ادوارد وود الصغير، الذي دخل تاريخ السينما من باب ضيق باعتباره «اسوأ مخرج عرفه فن السينما على الاطلاق»، والطريف ان هذه السمعة - السلبية للوهلة الاولى - هي التي لفتت انظار هواة السينما قبل سنوات الى افلام هذا المخرج العجيب الذي عاش علاقته بفن السينما انبهاراً دائماً، وكانت سينماه الحقيقية علاقته هو نفسه بالسينما، ولا سيما بنجم افلام الرعب بيلا لوغوسي. لقد اختار تيم بورتون ان يصور جزءاً من سيرة إد وود يبدأ مع تعرفه إلى بيلا لوغوسي، وينتهي بعد فترة قصيرة من موت هذا الاخير ضحية لإدمانه حقن المخدرات. ومن هنا جاء الفيلم مزدوج البعد. فهو من ناحية رسم جزءاً من حياة إد وود وافتتانه بالسينما، والاساليب المضحكة والملتوية التي يمارسها من اجل الوصول الى تحقيق افلامه العجيبة الحافلة بالأخطاء وبالسخافات، وهو من ناحية ثانية رسم لنا، بطريقة مجازية ومواربة، حياة السينما نفسها من خلال سقوط نجم في سنوات الخمسين، هو بيلا لوغوسي. وقد عرف تيم بورتون كيف يخلق «تمفصلاً» فعالاً بين هذين الجانبين الفاتنين في فيلمه. وهذا «التمفصل» جاء من طريق نظرات إد وود البريئة. فمن هو إد وود في نهاية الامر؟
هو بالتأكيد واحد من عشرات ألوف الشبان الذين عرف الفن السابع كيف يمارس عليهم إبهاراً مدهشاً حتى من دون ان يكونوا على إلمام بتقنياته وشروطه أو على امتلاك لأية موهبة إبداعية على الإطلاق. فإذا كان عشرات الألوف من هؤلاء الشبان قد عجزوا عن ان يكونوا اكثر من مجرد متفرجين، فإن إد وود اصر على ان يكون مخرجاً من دون ان تكون لديه اية بضاعة ثقافية، بل اية مخيلة عفوية تساعدانه على تحقيق ما يريد من افلام، لكنه كان يمتلك تلك «الشطارة» التي نعرف كثراً في السينما العربية يمتلكونها فمكّنتهم من تحقيق تلك الأعمال التافهة التي وصمت السينمات العربية الى الأبد! كانت المواضيع لديه تولد يوماً بيوم، من خلال نظرة، من خلال شخصية، من خلال كنزة «انغورا» يرتديها - هو الذي كان يحب، لأسباب غير جنسية كما يقترح علينا الفيلم، ارتداء ازياء النساء -، أو حتى من خلال لقاء: في هذا المجال يكاد يكون اجمل مشاهد الفيلم ذلك اللقاء الوهمي الذي يتخيله تيم بورتون بين إد وود (مرتدياً ملابس نسائية فاضحة) وبين المخرج الأميركي الكبير، اورسون ويلز، جالساً مكتئباً في مقهى. أهمية هذا اللقاء، الذي حشره تيم بورتون في سيرة إد وود، تكمن في ان هذا الاخير كان ينظر الى ويلز نظرته الى سيد كبير والى مثل اعلى، كان يرى انه هو، وصاحب «المواطن كين» - اي ويلز - المخرجان الوحيدان المستقلان في طول هوليوود وعرضها. طبعاً لا يمكننا ان نتوقف عند هذا الامر على سبيل المقارنة النوعية بين عملاق من عمالقة السينما، وبين إد وود الذي اعتبر الاردأ في تاريخ هذا الفن، بل على سبيل استثارة تلك النظرة المزدوجة الى الفن السابع: نظرة بريئة يلقيها كل من المخرجين على الفن نفسه، بصرف النظر عما تؤدي اليه تلك النظرة حين تتجسد انتاجاً سينمائياً.
والمهم هنا، على أي حال، النظرة التي يلقيها تيم بورتون على السينما من خلال بطله، وبراءة بطله. ففي الاحوال كافة، لا بد من التسليم بأن إد وود تعامل مع فن السينما بكل العفوية والتلقائية والبراءة التي تميز نظرة الفنانين الفطريين الى لوحاتهم: براءة العالم، امكانية تصوير أي شيء في أي لحظة ثم... الفن كوسيلة تطهر وإنقاذ. ولعل مشهد التعميد الجماعي مقابل إغراء الكنيسة الميثودية بتمويل فيلم «المخطط 9 من الفضاء الخارجي» قادر على ان يرسم في حد ذاته نظرة تيم بورتون الى السينما: فن براءة وانبهار ودهشة.
طبعاً كثر يومها انه كان من شأن تيم بورتون ان يتناول براءة السينما من خلال موضوع اقل خطورة من موضوع إد وود، اذ كيف يمكن صنع فيلم كبير عن مخرج صغير؟ ترى، تساءل البعض، أما كان احرى بتيم بورتون ان يحقق فيلماً عن اورسون ويلز ويجعله، في لحظة ما، يلتقي بإد وود؟ من الواضح ان تيم بورتون انما شاء ان يصوّر الحد الأقصى للمشاعر وللعبة الانبهار، عبر فيلم عن مخرج الحد الادنى ليوصل التناقض الى ذروته، وليجعل تحيته الى فن السينما في مئويتها، اكثر صدقية وبراءة. وما تصويره فيلمه بالأسود والأبيض سوى إمعان في ايصال تلك البراءة الى حدودها القصوى. وفي هذا السياق، نتوقف عند «العصابة» التي احاطت بإد وود، من مصارعين ومشعوذين ونصابين ومشوهين. لقد توقف تيم بورتون مطولاً عند هؤلاء الاشخاص الذين شكلوا عالم إد وود، ثم غاص في دواخلهم وبيّن لنا كم انهم اطفال في تلك الدواخل، بل اكثر من هذا، كشف لنا كم ان السينما عززت من براءتهم وجعلتهم أطفالاً. كشفت عن البريء والسموح والطفل في داخلهم. فالسينما، كما يقترح علينا تيم بورتون، هي كما الماء المطهر في مشهد التعميد الرائع، هي الفن الأقدر على اظهار ما هو طفل وبريء في داخلنا. وما سينما إد وود سوى البراءة الخالصة والطفولة الخالصة، في نهاية الامر.

المصدر: الحياة