الذكاء الاصطناعي: توتر تاريخي عالٍ وتلاقي أسئلة الماضي والحاضر والمستقبل
في مواد سابقة أشرنا إلى الأزمة الفكرية التي يعيشها النظام الإمبريالي، والتي من أهم ملامحها عدم قدرته على تبرير وجوده، وبالتالي عجزه عن إعادة إنتاج نفسه من خلال البنية الفوقية التي تنظم مختلف مستويات الممارسة الحقوقية والسياسية والقيمية والثقافية والفنية والعلمية. وهذا العجز النسبي يتخذ شكل التدمير لما هو قائم من بنى ثقافية وعلمية وسياسية وفنية بلبوس تيارات عدمية لها نتائجها المدمرة على مستوى العقل والهويات الفردية وفهم العالم، وحكماً الدول والسرديات التي يعرفها المجتمع البشري. وهنا نعالج، مرة جديدة، حضور (واشتداد) هذه الأزمة في ميدان العلم من باب الذكاء الاصطناعي.
الذكاء الاصطناعي ومحاكمة الفلسفية تطبيقياً
إن الذكاء الاصطناعي يضع موضع التطبيق فهم العلم للعقل وعملياته وكيفية تشكله، وهو بالتالي يرتبط بشكل وثيق بقضية الفلسفة الأساس، أي علاقة الوعي بالواقع، أي بالسؤال الفلسفي الأساس حول انقسام وثنائية المادة- الوعي، الوجود-الفكر، الملموس- المجرد، الخاص- العام، الجوهر- الشكل... ولكونه كذلك، فإن ميدان الذكاء الاصطناعي هو حقل اختبار الفلسفة بالمعنى التطبيقي (بمعزل عن المدى الذي يمكن للتطبيق أن يصله في توليد ظواهر العقل وعملياته لكونها عملية تاريخية طويلة ليس الذكاء الصناعي إلى حد الآن إلا أن يدبدب على أرضها) كون السؤال الفلسفي هنا لم يعد تأملياً مجرداً، بل يعتمد على نتائج يمكن إلى هذا الحد أو ذاك قياسها وتصميمها وتنفيذها. ولكن لا تحضر الفلسفة بشكل صافٍ في ميدان الذكاء الاصطناعي، بل تأخذ شكل نظريات علم النفس التي تعتمد بشكل وثيق على النظرات الفلسفية إلى العالم. ولهذا، فإن ميدان الذكاء الاصطناعي يكثف صراعاً تاريخياً طالما ارتبط بانقسام الوعي على قادة الانقسام الاجتماعي للمجتمع الطبقي نفسه.
المناهج المهيمنة ما قبل الماركسية
لكونه ميدان اختبار النظريات النفسية على مختلف مرجعياتها الفلسفية والمنهجية، فإن الذكاء الاصطناعي يسمح باختبار هذه النظريات والنظرات إلى العالم نظراً لمدى قدرتها على القيام بما تقول إنها قادرة على تفسيره، أي العقل البشري وعملياته المعقدة. وعلى مدى العقود الستين الماضية تقريباً كان الذكاء الاصطناعي ينمو بشكل صاروخي من خلال تحويل النظريات النفسية المهيمنة (ما قبل الماركسية) إلى خوازرميات ونظم تحاكي العمليات العقلية و«الذكاء». هذا ما سمح بالتحديد بتقييم عملي لهذه النظريات. ونقصد بكون هذه النظريات «ما قبل ماركسية» أي تلك التي تعتمد على نظرات إلى العالم (فلسفات) قبل ظهور الماركسية على مسرح التاريخ بمعزل عن الموعد الفعلي لهذه النظرية النفسية أو تلك والتي ظهرت نسبياً خلال القرن العشرين. ونقصد بذلك النظريات العقلية «Cognitive» (تختزل العقل بالخرائط العقلية والعلاقة بين الرموز) والبيولوجية- العصبية «Neurobiologism» (تختزل العقل بالعمليات العصبية في الدماغ أو الدوافع الفيزيولوجية للجسم) والميكانيكية البحتة (تختزل العقل بتراكم التجربة الحسية- الجسدية بشكل كمي) وفيها مثلاً يقع النموذج الاختزالي من النظرية السلوكية (behaviorism) ومن مؤسسيها بافلوف، والبنائية (constructivism) ومن مؤسسيها بياجيه، التي تعتمد في تشكيل العمليات العقلية على الترابطية الشكلية (connectionism) للربط بين ظواهر الواقع وتزامن وقوع الظواهر وتسلسلها الزمني وشكلها الخارجي (الحجم، اللون، المكان والموقع...). هذه النظريات (وما اشتق منها) وصلت اليوم حسب الموقف النقدي في الميدان إلى طريق مسدود (Impasse).
الماركسية والجدل
بالترافق مع النقاش المحتدم في الميدان، تطورت التقيييمات ووصلت إلى خلاصات أساسية والتي يمكن إيجازها بالتالي: إن النظريات المهيمنة في الميدان، والخوارزميات المشتقة منها، لم تقدر على تمثيل المستوى النوعي للعقل وعملياته، وبقيت محصورة بالمستوى الكمي، الذي لا يسمح بولادة الجديد النوعي من خلال التجربة الحسية للنظم والروبوتات. وصعوبة ذلك تكمن في عجز هذه الخوازميات عن القبض على جوهر الظواهر ومعانيها. أي بكل بساطة العجز عن إمكانية تجريد الواقع بغية تعميمه والتي هي العمليات القاعدية لكل البنية العقلية والتعلم وتطور الوعي. هذه الخلاصات وصل إليها الميدان بمعزل عن كون من يضعها ماركسياً وجدلياً أم لا. وهكذا كان النقاش يتطور بشكل تجريبي، وتطلب اكتشاف الموقع الجدلي في الميدان وقتاً ليس بقليل لكونه كان يسير بين ألغام المؤسسة والبنية العلمية والأكاديمية التي غابت وهُمشت فيها النظرة الجدلية والماركسية. ولكن على الرغم من ذلك فرضت الجدلية نفسها، وإن بأشكال اختزالية أو غير ناضجة في العديد من الاتجاهات في الميدان. فنجد مثلاً حضورها من خلال الاعتماد على منهجية نظرية النشاط الثقافية- التاريخية (Cultural-historical activity theory) التي أسسها عالم النفس السوفييتي ليف فيغوتسكي، وطورها لاحقاً تلامذته وزملاؤه. ونجدها أحياناً من خلال بعض المقولات العامة التي تنقض الميكانيكية في النظرة إلى الوعي. وهكذا مثلاً تطور النقاش باتجاهات تقترب من جوهر الموقع الجدلي، من ناحية مركزية ودور التناقض، وكيفية تحويله إلى خوازميات قادرة على تمثيل ولادة الظاهرة العقلية النوعية من خلال التجربة المحسوسة والكمية. وكنا سابقاً قد عالجنا الأبحاث التي تعتمد على فكرة التناقض في الذكاء الاصطناعي على الرغم من محدودية حضورها.
التوتر والواقع
حتى لا نطيل، إن الميدان اليوم يعيش توتراً هو التوتر الذي نراه اليوم في العالم ككل، حول الحاجة إلى عالم جديد، ومعه إلى نظرة جديدة عن العالم نفسه وكيفية بنائه، تتجاوز الانقسام الاجتماعي ومعه تجاوز انقسام الوعي. وعلى الرغم من أن الميدان ينتعش اليوم بأشكال كبيرة عبر الاعتماد على النظريات الميكانيكية للعقل وعملياته، ولكنه انتعاش مفهوم انطلاقاً من أن الكثير من التطبيقات التي يمكن للخوارزميات (الكمية) تخديمها لا تحتاج إلى القبض على المستوى النوعي، ولها طابع ميكانيكي بالضرورة (بعض الصناعات والوظائف العملية البسيطة) مدعومة بما سماه البعض «قوة الحساب» التي تملكها اليوم الحواسيب «الخارقة» مثلاً. ولكن هذا الانتعاش لا ينفي أن ميادين جديدة في الذكاء الاصطناعي تقف عاجزة عن خرق الحدود المعرفية للمنهجيات والنظريات المهيمنة الميكانيكية و«ما قبل الماركسية» ومنها مثلاً بعض التطبيقات في ميادين اللغة والتواصل والفن والصحة والتعلم العابر للسياقات والقدرة على الإبداع (تعاني اليوم الأنظمة الذكية من أزمة عدم قدرتها على تطبيق ما تعلمته في سياقات جديدة كون ما تعلمته يعتمد على الزمان والمكان الخاصّين للتجربة السابقة بشكلها المحسوس لكونها لم تتعلم جوهر-العام الظاهرة بل شكلها الظاهر والكمي فقط). وهذا التوتر يجلب إلى الميدان كل يوم النقاش الفلسفي والمعرفي بالضرورة، بحيث أصبح الذكاء الاصطناعي ميدانا فلسفياً ونفسياً بامتياز تجري فيه محاكمة العقل المثالي والميكانيكي كل يوم، وإن كانت هذه المحاكمات تمت تغطيتها اليوم بالنجاح النسبي والمتوسع للتطبيقات «الذكية». ولكن باعتراف أهل الميدان فإننا ما زلنا اليوم ضمن ما يسمى بالذكاء الاصطناعي الضعيف (week AI) وما زلنا بعيدين عن الذكاء الاصطناعي القوي (Strong AI).
اندماج الفلسفة بالعلم والسياسة
ربطاً بما سبق، فإن الذكاء الاصطناعي يعكس الأزمة الفكرية ليس فقط لعصر الرأسمالية، بل يعكس أزمة الفلسفة المثالية وما قبل الماركسية للمجتمع الطبقي على مر التاريخ كله. ونقول إنه لا يعكسها فقط، بل هو يساهم في اشتدادها وتعظيمها. فالفلسفي والنفسي المهيمن يجري اختباره ونسفه كل يوم. وهذا تأكيد جديد أن الممارسة هي محك الفكر، فما بالنا إذا كانت الممارسة هي حول الفكر نفسه وليس طروحات محددة منه. ولا نقول إن الذكاء الاصطناعي سيكون ميدان انتصار المادية التاريخية بشكل منفصل عن الصراع السياسي الدائر عالمياً، بل نقول إنه عنصر أساس في انتصارها، فكل حقل تجربة هو أرض للصراع بالنهاية. والصراع السياسي والدول والتجارب التي تخوض هذا الصراع تقدم للعلم مساحات وممكنات تطوره. خصوصاً أن البنية الرأسمالية اليوم تعادي تطور العلوم والتكنولوجيا، خصوصاً إذا كان ميدان العلم المعني يعادي في تطوره كل البنية وعلاقاتها، فالذكاء الاصطناعي يعادي في جوهره قضية تقسيم العمل الحالية للمجتمع الرأسمالي، وقادر على تحرير القوى البشرية العاملة من أقسام عظيمة من العمل الجسدي وبعض من العمل الذهني غير العالي، ويسمح بتوظيف تلك الطاقات المحررة بميادين أعلى إنتاجية لناحية تطور البشرية ككل، وخصوصاً أبحاث الصحة والفلك وغيرها، والتي يمكن أن تجيب عن أسئلة البشرية التاريخية كاستعمار الفضاء وإطالة أمد الحياة وغيرها. وهذه كانت نبوءة ماركس الأساسية على هذا المستوى لدور العلم والتكنولوجيا العالية في مجتمع الحرية.
هكذا نرى أن ميدان الذكاء الاصطناعي هو حقل توتر عالٍ ضمن الصراع الذي يدور حول مصير البشرية والمجتمع ككل، وتتمحور فيه كل أسئلة التاريخ والحاضر والمستقبل. ويجب أن يحتل في نقاشاتنا موقعاً مركزياً، وتحديداً قضية عجز البنية الفوقية للرأسمالية عن التعامل مع التناقضات الاقتصادية والاجتماعية للتشكيلة الرأسمالية، والذكاء الصناعي هو تكثيف لهذا العجز على مستوى الفلسفة وعلم النفس والسياسة والتكنولوجيا.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1109