«تخوم غابة الرب» لسمبان عثمان: المرأة الأفريقية تخوض الصراع

«تخوم غابة الرب» لسمبان عثمان: المرأة الأفريقية تخوض الصراع

كان واحداً من أكبر السينمائيين في أفريقيا، عربية كانت أو سوداء، بل هو إلى حد كبير مؤسس السينما في الجزء الجنوبي والغربي من القارة السوداء، بحيث بات يعرف بأنه عميد السينما الأفريقية. أفلامه كثيرة وكلها تغوص في شكل أو في آخر في عمق القضايا الاجتماعية والتي يزيدها تعقيداً، في بلده السنغال، تشابك الأديان والطوائف والأعراق، وبالتالي تراكم القضايا فوق بعضها بعضاً.

ومع هذا، غالباً ما كان هو يركّز اهتمامه على قضايا المرأة، في بلاده، وفي أفريقيا عموماً، وعلى الظلم المتراكم على الأنثى بصفتها أقلية الأقليات في مجتمع لا مكان فيه، أصلاً، للأقليات العادية. وآخر أفلامه «مولادي» الذي عرض في «كان» وفي غيره من المهرجانات. والذي كان قد أنجزه قبل شهور من رحيله، كانت المساهمة الأخيرة له في هذا المجال... وفيه دنا من واحدة من أخطر القضايا التي تجابه المرأة الأفريقية، والأفريقية المسلمة على وجه الخصوص: قضية الختان الأنثوي. ويقيناً أن دنوه من المشكلة أعاد الحياة إلى أصوات المعترضين، وأحيا السجال من جديد، في أوروبا... ولكن بخاصة في أفريقيا وفي المجتمعات المعنية بالموضوع.

هو عثمان سمبان، الذي بات خلال الثلث الأخير من القرن العشرين، أشهر من أن يُعرّف كسينمائي. لكن سمبان لم يكن سينمائياً فقط، بل كان معروفاً، ولكن لدى نخبة تقل عدداً وانتشاراً عن جمهوره السينمائي، بكونه روائياً أيضاً. وهو كان روائياً منذ زمن بعيد، أي منذ ما قبل تفكيره أوائل سنوات الستين وإثر عودته من فرنسا إلى بلاده، بأن يعبّر عن نفسه أيضاً من طريق السينما. ومن هنا فإن عثمان سمبان ظل طوال حياته ينهل مواضيع أفلامه من روايات سبق له أن كتبها ونشرها. وفي بعض الأحيان حدث له أن حول فيلماً كتبه إلى رواية. ومن هنا دائماً ما تضافر الفنان لديه، لتقديم عمل إبداعي من ناحية ولكن من ناحية أخرى لإيصال رسالة فكرية واجتماعية.

وإذا كان اشتهر من أعمال سمبان عثمان (ويقال أيضاً عثمان سمبان علماً أنه هو نفسه لم يكن في إمكانه أن يقرر أياً من الاسمين يأتي قبل الآخر)، روايات حولها أفلاماً اشتهرت حين ظهورها مثل «الحوالة» و «خالا»... فإن من أقدم رواياته وأهمها، واحدة كان نشرها في سنوات إبداعه الأولى، لتصدر في طبعة نهائية في فرنسا في عام 1960. وهي روايته الأكثر التزاماً وقوة ونزوعاً إلى الواقع في الوقت نفسه الذي عمد فيه إلى تحميلها الكثير من المواضيع والأفكار التي ظلت تلح عليه دائماً. الرواية التي نتحدث عنها هنا هي «تخوم غابة الرب» التي كانت من أولى مساهمات سمبان الإبداعية بعد عودته من فرنسا، وتركه الحزب الشيوعي الفرنسي الذي كان قبل ذلك عضواً فاعلاً فيه. واللافت في «تخوم غابة الرب» أن للمرأة فيها دوراً أساسياً، حتى وإن كانت الرواية عملاً جماعياً سياسياً من طراز رفيع، ما يكشف عن ذلك التضافر الأكيد في عمل سمبان الإبداعي - السينمائي والروائي معا - بين نظرته إلى المرأة وأوضاعها ونظرته إلى السياسة وأحوال المجتمع في شكل عام.

تتحدث «تخوم غابة الرب» عن أحداث صاخبة عرفتها داكار في شتاء موسم 1947 - 1948، وتحديداً حول العمل في خط سكة حديد داكار - النيجر، في زمن كانت المنطقة كلها والمسماة السودان الفرنسي تابعة للاستعمار الفرنسي. وكان ذلك غداة الحرب العالمية الثانية حين استفاق عمال السكك الحديد السنغاليون على انتصار الحلفاء ومن بينهم فرنسا، في تلك الحرب، ليجدوا أن ثمة قرارات لها صفات اجتماعية واشتراكية كانت قد اتخذت في فرنسا لمصلحة العمال أيام حكم الجبهة الشعبية اليسارية في باريس بدءاً من عام 1936. وإذ اكتشف عمال السنغال هذه الحقيقة الجديدة لم يكن في وسعهم إلا أن يتساءلوا وقد تبين لهم أنها من أفضل المكتسبات وأهمها التي حازها العمال وطبقتهم في أي بلد أوروبي أين هم من هذا كله. فبما أن السنغال كانت تابعة لفرنسا، وشركة سكة الحديد شركة فرنسية، والعمال يعتبرون «فرنسيين»، تساءل هؤلاء: ولماذا لا نحصل نحن على المكتسبات نفسها التي تحققت للفرنسيين، بمن فيهم السود، داخل فرنسا نفسها؟ لماذا يلحق بنا نحن كل هذا الظلم؟ واندلع الإضراب الذي قامت به جماعات من العمال أرادت الحصول على حقها من المساعدات العائلية والضمان الاجتماعي وضمان الشيخوخة. بيد أن الإدارة الخاضعة للسيطرة الفرنسية لم تكن في وارد الاستجابة للمطالب العمالية. وتوقفت جزئياً حركة السفر إلا بالنسبة إلى العمال والإدارة والجنود والموظفين، أما أحداث الرواية وشخوصها فباتوا يتجولون بين المدن الثلاث المعنية: داكار وباماكو (في النيجر الحالية) بخاصة في تبيس، حيث مركز الإضراب، إذ فيها مقر إدارة الشركة ومستودعات صيانة القطارات... أي الثقل الحقيقي لطرفي الصراع، العمال والإدارة.

كل هذا تصوره الرواية... ولكن من الواضح أنه لا يشكل بالنسبة إلى سمبان عثمان سوى الخلفية السياسية والاجتماعية لروايته. أما مركز الأساس هنا، في طول الرواية وعرضها، فهو المرأة. وذلك تبعاً لخط سير المؤلف المعتاد واهتمامه بالمرأة في بلاده أكثر من اهتمامه بأي شيء آخر. هكذا، إذ تحتل الأحداث والإضراب وما يتبعه من قمع ومحاولات تجويع حقيقية تقوم بها الإدارة وأزلامها في حق المضربين، ميدان الحدث، سرعان ما يزيح الكاتب اهتماماته، حتى يركز على أنواع عدة من نساء يرصد أفعالهن وردود أفعالهن خلال الإضراب وتجاهه. وينتج من هذا في نهاية الأمر تأكيد سمبان لنا أنه لولا تدخل النساء وتضامنهن في ذلك الصراع إلى جانب العمال المضربين، لكان الإضراب فشل منذ أيامه الأولى. والكاتب يرمز هنا إلى هؤلاء النساء من خلال نماذج محددة، من المؤكد أن صورتهن فرادى وجماعات، تكشف الكثير عن قدرته على رصد الحياة الاجتماعية الأفريقية ككل. من هنا، يبدو واضحاً أن سمبان لم يختر أياً من النماذج الرئيسية عشوائياً. فهناك أولاً نداي التي تبدو لنا منذ البداية مفتونة بالحضارة الغربية، مستعدة في كل لحظة للدفاع عن النساء الأجنبيات، وعن الأجانب عموماً على اعتبار أنهم «قوم متحضرون»... وتظل حالها هكذا، حتى تكون صدمتها الكبيرة الجذرية سبباً في تلك الانعطافة الأساسية التي ستطاول شخصيتها: على ضوء الإضراب، وعلى ضوء رد فعل الأجانب عليه، وقد تجردوا من أية إنسانية في مواجهة تجويع السود، انكشف الأجانب، في نظر نداي على حقيقتهم.

وبعد نداي تأتي بندا التي تعيش حياتها كما يحلو لها، إلى درجة أنها تعامَل من جانب جماعتها كمومس. ولكن حين تحق الحقيقة، وتزداد الأمور سوءاً، ستكون بندا هي التي تقود مسيرة النساء من تيبسي إلى داكار، مستدعية صحافة العالم وأنظار الليبراليين ليشاهدوا ما يحدث. وأخيراً، هناك ميمونة المغنية الضريرة التي لا تريد أن تخبر أحداً باسم والد - أو والدي - أطفالها. لكنها على رغم حالها تنخرط في النضال منشدة للعمال أغاني تحرضهم. وإلى هذه الشخصيات هناك إناث أخريات متنوعات منهن الصغيرة أدجيبيد التي تكتسب وعيها اجتماعاً بعد اجتماع، ومصيبة بعد مصيبة.

إن سمبان عثمان الذي ولد في عام 1923، اشتغل على هذه النماذج ليرسم خطوط روايته... لتكون أول عمل حقيقي كبير له، هو العصامي الذي نعرف أنه لم يتعلم الأدب ولا تعلم السينما، على رغم أنه برع فيهما. فهو إذ هاجر باكراً من السنغال إلى فرنسا، خاض شتى الأعمال الميكانيكية وعمل حمالاً في ميناء مرسيليا، قبل أن يغرم بالأدب والسينما ويتجذّر وعيه من خلال انخراطه في النضال الطبقي والسياسي في فرنسا. من هنا، حين عاد إلى أفريقيا، كان جاهزاً بكل ثقة لخوض لعبة الإبداع سينما وأدباً (ومسرحاً ورسماً أيضاً)... وتحول بسرعة إلى معلم أساسي من معالم الثقافة الأفريقية.

 

المصدر: الحياة