انتقالة العلم التاريخية نحو «مجتمع لذاته»

انتقالة العلم التاريخية نحو «مجتمع لذاته»

إن تاريخ التقدم العلمي ونقلاته النوعيّة تترافق، إذ كان محمولاً على الثورات الاجتماعية التي كانت تتطلب وتطرح على العلم، بشكل مباشر أو غير مباشر، المهام الجديدة. ولهذا كان العلم بالضرورة وفي كل مرحلة نوعية من تاريخه منحازاً بالضرورة للتقدم الاجتماعي، ولا نقول العلم «اللاعلمي» بل ما أنتجه العلم على المستوى التكنولوجي والإنساني الذي مكّن عملياً من التحكم بالطبيعة والمجتمع على حد سواء. وهذا الانحياز للجديد ضد القديم واجه بسببه العلماء مصائر تراجيدية غالباً، أو التجاهل في أحيان أخرى (ولو إلى حين). ولكن في هذه المرحلة فإن العلم أمام استحقاق نوعي لم يشهده سابقاً.

العلوم بين الطبيعة والمجتمع

يمكن القول إن الوزن العلمي (الموقف الموضوعي المادي) في العلم كان وزنه أكبر بشكل لا يقاس مقارنة بعلم المجتمع والإنسان. وهذا ولسبب بسيط هو أن تاريخ المجتمع الطبقي والتوسع الدائم الذي حكم تطوره العام فرض وبشكل أساس السيطرة على الطبيعة أكثر من الحاجة للتحكم بالمجتمع حسب قوانينه الموضوعية والتي تعادي بشكل مباشر التقسيم الطبقي نفسه، والتوسع الكبير في العلوم الطبيعية تحديداً كان من سمة الرأسمالية الأساس. ومن جانب آخر، يمكن للعلم الطبيعي أن يخفي الموقف السياسي وموقفه من العالم أكثر من العلوم الإنسانية التي يحتل فيها الموقف السياسي موقع الصراحة والعلن. إذاً، وتماشياً مع الموقف القائل بأن الجانب العملي من العلم هو الذي يفرض الحاجة للتقدم داخل العلم، فإن المجتمع وبشكل عام طرح مهاماً عملية فرضت الحاجة للموقف الموضوعي على مستوى العلوم الطبيعية (على الرغم من أن العلوم الطبيعية أيضاً لم تتخلص من الموقف المثالي) بسبب من طبيعة هذا المجتمع الطبقية التي لم تطرح على العلم السيطرة على قوانين المجتمع والإنسان لأنه العكس يعني اعتراف هذا المجتمع بتناقضه الداخلي كمجتمع استغلال. إذاً، إن انحياز العلم للقوة التقدمية الاجتماعية في التاريخ هو الذي فرض هوامش الموقفين المثالي والموضوعي.

انفلاتات العلم النسبية

لم يكن الحال أعلاه مطلقاً في التاريخ، فقدرة العلم على الانفلات من سيطرة الموقع الطبقي حصلت بشكل أساس في مراحل الثورات الإشتراكية في القرن الماضي. مجدداً، نرى هنا تأثير الانحياز العلمي لصالح الطبقة الحاملة المتقدمة في مراحل الاشتراكية، أي الطبقة التي «ستحرر بتحررها المجتمع بأسره» (البروليتاريا)، ولهذا فهي تجد سلاحها في الفكر «الذي لا يخاف نقده الذاتي بل يتطلبه» (الشيوعية). على هذه القاعدة المعرفية يجد العلم أرضه الضرورية لكي ينتقل نحو الموضوعية على كل المستويات ويقوم بثورته التاريخية التي كان حتى اليوم مكبوحاً عن القيام بها. ولكن وعلى الرغم من هذا الانفلات النسبي، فلم يسمح التاريخ وتاريخ التجربة بالمساحة الكافية لكي تتدفق الجرعة الموضوعية المادية من الفلسفة والسياسة نحو العلم الأكاديمي. وما حصل كان انفلاتاً نسبياً كان تأثيره كبيراً جداً على مستوى إعادة خلق علم الاجتماع وعلم النفس والتاريخ من موقع المادية الموضوعية (الاقتصاد السياسي الماركسي هو أهم ممثل على مستوى التاريخ والمجتمع، ولاحقاً العلوم النفسية-الفيزيولوجية لدى السوفيات بشكل أساس). ولكن التراجع النسبي اللاحق للخط الثوري حرم العلم من استكمال انتقالته، لا بل أغرقه بأمراض المجتمع الليبرالي والتسليع والتفتيت والربحية الكمية. ولكن، كان هذا الغرق لحد سنين سابقة متلائماً مع هيمنة ونمو الليبرالية عالمياً. أما ومنذ اصطدام الرأسمالية مجدداً بحدودها التاريخية واحتدام التناقضات فيها كسر التلاؤم السابق.

مهمة العلم في عصر الانتقال

إن تدفق التيار الموضوعي المادي على مستوى الفكر بدأ بشكل أساس من الفلسفة نحو السياسة والاقتصاد، ولم يصل العلم الإنساني الكثير منه وذلك حسب المهام الموضوعية التي فرضها المجتمع في المراحل السابقة. أما في المرحلة الحالية، فإن العلم يقف أمام حاجته لكي يستكمل انتقالته على مستوى العلوم الإنسانية ويثبت الموقف المادي الموضوعي فيها، ويحرر نفسه من الكبت والكبح الذي طاله خلال العقود الماضية التي حاصرت ما تم إرساؤه في مرحلة الانفلات النسبي خلال الاشتراكية. فهذا الانفلات وعند حصوله لم يستطع أن يصل مداه لاحقاً إلى العالم، وأما المساحات التي وصلها قامت عقود الليبرالية لاحقاً بتجفيفها. فما تم إنتاجه في المرحلة الاشتراكية على مستوى العلوم الإنسانية (والعقلية) تم حصاره خلال العقود الماضية وجرى التعتيم عليه وتحويره ما أمكن. فبقيت له مساحات محددة «مسالمة» يتحرك فيها، كالتربية والتعليم وتنظيم بيئة العمل وبعض القطاعات العلمية التي قدر فيها على إخفاء طابعه الثوري الصريح. دون أن ننفي وجوده في بعض الواحات التي لم يجتحها المد الليبرالي أكاديمياً، ولكنها لم تكن ذات تأثير كبير، فيمكن اليوم بدولة كالصين، أو حتى روسيا، أن نلمس سيطرة المنهجيات ونظريات المعرفة غير المادية التاريخية، والليبرالية أيضاً، بشكل واضح في مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية إلى حد واسع. وهذا الموقف نراه من قبل أكاديميين صينيين وروس، أي الموقف القائل بالتراجع النسبي عن المنهجيات ونظرية المعرفة المادية التاريخية في الدولتين على مستوى الأكاديميا، وإن كان تأثيرها في علوم التاريخ والاقتصاد والسياسة لم ينتفِ حكماً.

وأمام الأزمة الشاملة للإنسان والطبيعة فإن المهمة التي يطرحها التاريخ على العلم اليوم هو استكمال انتقاله المعرفي والمنهجي، وتحديداً في العلوم الإنسانية نحو المادية التاريخية لسبب أساس هو أن الانتقال الاجتماعي نفسه يفرض على الانتقال المنهجي والمعرفي لأن ولادة الإنسان الجديد وتنظيم المجتمع الجديد على أساس نمط حياة جماعي خارج الاغتراب الراهن تقتضي أساساً هذا الانتقال (على عكس التفتيت والعدمية التي يفرض بها العلم الرسمي من أجل الهروب من هكذا استحقاق). لا بل الانتقال السياسي نفسه لن يحصل دون هذا الانتقال العلمي، لأن تحرير الطاقات الكامنة وإشراك أوسع القوى الاجتماعية وتجاوز التناقضات على مستوى الإنسان والمجتمع تتطلب إرساء مقولات علمية محددة خارج المقولات السياسية العامة، وتتطلب إرساء مهام ملموسة أيضاً تتخطى المقولات السياسية والاقتصادية فقط. إذاً إن نوعية المرحلة تتطلب استكمال تدفق الموقف المادي التاريخي من الفلسفة نحو الاقتصاد والسياسة والعلم الإنساني، الذي فيه يكتمل حضور هذا الموقف عبر تحوله إلى ممارسة فردية. وهذا التدفق يجب أن يجد في الفلسفة والسياسة والاقتصاد داعميه اللازمين من أجل فتح قنوات هذا التدفق أكثر وتحويل الممكن إلى مهام موضوعية صريحة. ومع اكتمال حضور الموقف المادي التاريخي على مستوى العلم الذي عبره سيتم تنظيم المجتمع الجديد، تصير «فلسفة الممارسة» (الماركسية كما عبر عنها غرامشي رمزياً) ممارسةً بمعناها الاجتماعي الشامل، وتكتمل حلقة «المجتمع لذاته».

معلومات إضافية

العدد رقم:
1094