تكشّف السرديّة وحاجاتها نحو العالم الجديد
للمرحلة الحالية خصوصيتها التاريخية، والتي تسبب الكثير من التشويش الذهني لدى الغالبية. ومن أبرز هذه الخصائص هي أن جوهرها وما تمثّله لا ينعكس بالكامل في المستوى الفكري والعقلي المعلن على لسان النخب. ولا نتكلم هنا عن التشويش الحاصل لدى الفاعلين في الحقل السياسي بالتحديد (وإن كان هؤلاء أيضاً مشوشين)، بل عند السواد الأعظم لمن يحاول بناء السردية العقلية عن العالم والاتجاه التاريخي القادم. ولعدم التناسب بين جوهرها والسردية المعلنة عنها له أسبابه النابعة من طبيعة القوى التي تخوض الصراع. فكيف تتحرك السردية عن المرحلة خطوة خطوة تجاه الجوهر؟
تكشف تدريجي
ليس المعنى التاريخي للمرحلة الحالية مرتبطاً بالأحداث الظاهرة الأخيرة في العالم، أي ضمن سياق الحدث الأوكراني. بل إنه ظهر بقوة خلال هذا السياق. ونقطة العلام السابقة كانت الحدث السوري وارتفاع منسوب حضور القوى الصاعدة على الساحة الدولية سياسياً، وكان قبلها نقطة علام أخرى اقتصادية هي حجم الاقتصاد الصيني عالمياً، ونقطة علام أخرى هي الأزمة المالية في الـ 2008، والعملية العسكرية الروسية في أوسيتيا الجنوبية-جورجيا، وقبلها 11 أيلول 2001... كلها مؤشرات ظاهرة عما يتطور اليوم علناً في عقل المرحلة من سردية تحدد طبيعتها ونحو أي عالم نتجه. وهذا التكشف التدريجي ليس مطلقاً بالطبع، فالكثير من القوى التي تخوض الصراع على مستوى شامل أدركت هذا الجوهر. وهذه القوى تمتد من عقل الإمبريالية الذي يخوض معركة شاملة وجودية ما دفع عقل الإمبريالية دائماً لكي يكون موضوعياً بالمعنى التاريخي إذا أردنا القول، ولو تعارضت خلاصات هذا العقل مع مصالحه، ومن هنا هستيرية وجنون ومأساة هذا العقل وفكره الذي يعاند التاريخ ما جعله عقلاً هزلياً وملهاة. وصولاً إلى عقل بعض القوى على الطرف النقيض، والتي هي أيضاً في محاولتها أن تشكل تصورها الشامل انطلاقاً من قاعدتها النظرية الثورية (كأحزاب) أو كدول ورثت العقل الإستراتيجي من تجاربها الثورية السابقة إذا أردنا التبسيط. إذ إن الحاجة للتشامل هي الدافع الممارسي-التجريبي للاقتراب من جوهر المرحلة ومعناها التاريخي. وهذه الحاجة وإن كانت لدى النقيض الإمبريالي تنطلق من سيطرته الفعلية على العالم بالمعنى الفعلي، فهي على الطرف الآخر، أي لدى النقيض الثوري تنطلق من محاولة سيطرة معرفية على العالم. ولهذا فكلا النقيضين أدركا طبيعة المرحلة مبكراً.
ما بين عقل النقيضين
إذا كان أقصى طرفي التناقض التاريخي قد لمسا مبكراً جوهر هذه المرحلة، فإن تطور الصراع على الأرض، أي في وصول حاجة العالم بالمعنى التجريبي للحلول نتيجة حدة الأسئلة (الطبيعة، الغذاء، الصحة، الحروب، الحفاظ على الوجود، المأساة العقلية- النفسية) فرضت على مختلف القوى في العالم حسب وزنها في عملية الصراع نفسها، فرضت عليها القبض على الجوهر ذاك.
نفاذ الجوهر في السياق الأوكراني
في سياق الحدث الأوكراني نفذ بعض الجوهر بقوة على لسان الجميع. الطرف الإمبريالي عبّر عن جوهر هذه المرحلة بما هي مرحلة أزمة الرأسمالية العميقة وضرورة تجاوزها، عبّر عنها بشكل دفاعي، حين قال إن المعركة هي على «الحفاظ على نمط حياة العالم الحر» (الرأسمالية ضمناً) على لسان عتاة منظّريه. بينما، على لسان القوى الصاعدة، وتحديداً روسيا والصين، والتي لم تكن في السابق تعلن هذا الجوهر «الإيجابي» بل اكتفت سابقاً بالموقف الدفاعي (حماية المصالح الخاصة)، هذه الدول أعلنت أن عصر الهيمنة الغربية انتهى، وعالما آخر يجب أن يولد. وهذه الخلاصات وصل إليها حتى دول أقل وزناً ولكن بحكم موقعها المتناقض في الصراع وجدت نفسها أكثر اضطرارا إلى الإجابة بحكم حاجتها المادية الملموسة لهذه الإجابات، والتي تنخرط بقوة في العملية الاقتصادية التجارية العالمية (يمكن النظر إلى تناقضات الدول الأوروبية نفسها، أو بعض مواقف دول الخليج العربي مثلاً، والتي ما زالت تحمل جانبين من السردية التاريخية)، وهناك تلك الدول التي تنخرط في الواقع من موقع الدمار والجوع والتي تحتاج إلى عالم آخر بالضرورة.
ولكن هذا النفاذ للجوهر لا يزال غير كامل. وهذا بالتحديد مرتبط بنقطة قيادة الصراع عالميا. أي في أعلى نقطة اشتباك حاصلة وجدول أعمالها. وبالتحديد نقصد النقاط العلنية والملموسة منها. ولهذا مثلاً كان التقدم الروسي عسكرياً (واقتصاديا وسياسيا) هو الكاشف لأنه أعلى نقطة اشتباك، كما كان مثلاً الإجراء الصيني الأخير في «التوسع» ضمن المحيط الهادئ نحو جزر سليمان. نقاط الاشتباك المتقدمة هذه هي التي تحدد وتيرة الكشف عن الجوهر ويسير الكشف على وقعها. وهذا مردّه إلى أن جدول الأعمال الخاص بهذه الدول الصاعدة وطبيعة خوضها للصراع لم يعلن حتى الآن، وربما لا زال لا يحمل، هدفاً معلناً متكاملاً حول العالم الذي يجب بناءه في تجاوز الرأسمالية، وهذا مرتبط بوزن الرأسمالية والتشابك العالمي الحاصل طوال العقود الماضية. أي في صعوبة القطع الفردي عن العلاقات الإمبريالية، بل في انتقال جماعي دولي في ذات الوقت، فاشتراكية «روسيا البلشفية» و«الصين الماوية» كانت أسهل نسبياً بالمعنى الخاص ربطاً بمستوى التشابك الدولي وقتها، والفرق في التركز العالي في الإنتاج (الطاقوي، الغذائي، التكنولوجي- الصناعي) والتشابك العالي في المستوى المالي- النقدي بشكل خاص.
التكشّف التدريجي
يمكن القول إن السردية تسير خطوة خطوة على وقع التجريب- الممارسة. ولا نقصد هنا العقل التجريبي في سلبيته (على عكس العقل النظري مثلاً)، بل في ملامحه في كيفية إنتاج العقل للمعرفة. هذا لا يعني أن العقل النظري غائب لدى هذه القوى، بل ما يمكن التشديد عليه أن التكشّف الحاصل في جدول أعمالها يسير تجريبياً على وقع متطلبات الممارسة وهذا هو الجانب التقدمي الدافع لتطور جدول الأعمال. وهذا من شأنه أن يقدّم العناصر الأكثر ثورية في هذه الدول إلى الواجهة. مؤشر بسيط على ذلك هو حرب الرموز الحاصلة اليوم في سياق الحدث الأوكراني على التاريخ السوفيتي والدفاع الروسي عن هذا الإرث بالمقابل. وحرب الرموز التي تخوضها الصين تجاه تاريخها «الأحمر». مؤشر آخر على العودة إلى أعلى منصة تاريخية للاشتراكية هي مسائل الحدود إلى ما قبل الاتحاد السوفياتي. أي إن الحرب العالمية الثانية هي المحطة التي يجري العودة إلى مخرجاتها، لا بل إلى العقل الاشتراكي الذي خاضها كونها كانت أكثر نقطة اشتباك متقدمة في المرحلة السابقة بين العالمين اللذَين يتصارعان.
من حرب الرموز إلى البرنامج
إذا كانت هذه الرموز هي التعبير المكثف والأعلى عن جدول أعمال إجتماعي سابق للإشتراكية، فإن هذا يعني أنّ عملية التاريخ تفرض عملية نفي. فما يحصل حالياً هو نفي للمرحلة الليبرالية، عودة إلى الاشتراكية، ليس بفعل اختيار حر من الفاعلين في الصراع، بل هذا ما يفرضه الجوهر الذي يتكشف نفسه. جوهر تجاوز الرأسمالية نفسها بمعزل عن الوقت الذي ستأخذه عملية الانتقال تلك. فالعودة إلى أعلى منصة رمزية تاريخية نقيضة للرأسمالية نابع من الحاجة إليها في الدفاع عن عملية النفي السلبية التي تقوم بها الإمبريالية على هذا المستوى. ولكن الحرب الرمزية ستظهر أنها غير كافية، بل ما سيتم استعادته في المرحلة القادمة من تطور الصراع هو استعادة البرامج الاشتراكية نفسها بشكل علني. ولكن هذه الاستعادة تحتاج إلى تضمين الجديد التاريخي على مستوى أية حياة يتم طرحها للإجابة عن الأسئلة التاريخية للبشر والتي تراكمت طوال العقود الماضية. أسئلة نمط الحياة المطلوب بناؤه. أي بكل بساطة، إنتاج سردية اشتراكية القرن الحادي والعشرين ورموزها وإطارها ومقولاتها الخاصة. إنتاج السردية هي المهمة القادمة، فانهيار السردية الحالية عن العالم لا يمكن أن تترك بدون ملء مكانها وإلا فإن انهياراً للعقل حاصل ولا شك كما تقول لنا حتى الأبحاث السائدة في مجال علاقة السردية بتماسك العقل، بغنى عن مقولات الماركسية حول التصور عن العالم وضرورته في تسيير العقل.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1068