رحل «بطريرك» أميركا اللاتينية: غابرييل غارسيا ماركيز عاش ليروي
عن 87 عاماً، انطفأ «غابو» أمس في منزله في مدينة مكسيكو، مُنهياً السطر الأخير في مسيرة أحد أعظم الأدباء في القرن العشرين. صاحب «نوبل» (1982) نقل مناخات أميركا اللاتينية إلى بقاع العالم، فاستحق لقب أكثر الكتّاب بالاسبانية شعبية منذ ثرفانتس!
«عشتُ لأروي» (2002) العبارة التي اختارها الكاتب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز (1927 ــــ 2014) كي تكون عنواناً لمذكراته، تكفي لاختزال حياته الاستثنائية. لن يضاهيه أحد في رواية الحكايات. طوال ستين عاماً، لم يتوقف عن إهدائنا شخصيات مدهشة، لا تتوانى عن القيام بأكثر الأفعال غرابة، من دون أن نحسّ بلا معقوليتها.
شخصيات سترافقنا على الدوام، كما لو أننا نعرفها عن كثب، أو يصعب تخيّلها إلا كما صنعها هذا الساحر. قبل أن يُصدر مذكراته، كُنّا نظن أنّ مخيلة ماركيز وحدها هي من تكفّل برسم ملامح هذه الشخصيات، وإذا به يفاجئنا بأنه اكتفى بوضع اللمسات النهائية لخرائط دروبها، فها هي النسخ الأصلية من شخصياته تعيش حياتها الحقيقية خارج مجاله المغناطيسي للسرد، ويعزّز هذه الفكرة بقوله «الحياة ليست ما يعيشه أحدنا، وإنما هي ما يتذكّره، وكيف يتذكّره ليرويه».
لكن هل سيغيب ماركيز حقاً، أم أنّها واحدة من ألغازه الكثيرة التي أودعها في كتبه التي لا تخلو مكتبة أحدنا من كتاب واحد على الأقل منها؟ لن نتفق كقرّاء بالطبع على إجابة حاسمة عن سؤال من نوع: أين تكمن عبقريته الروائية؟ سيفضّل كثيرون تحفته «مائة عام من العزلة»، الرواية التي وضعته في سجل «نوبل» للآداب (1982)، وآخرون سيجدون في «الحب في زمن الكوليرا» (1985) أيقونتهم الخاصة، فيما سيدافع بعضهم عن رواية صغيرة بحجم كف اليد هي «ليس لدى الكولونيل من يكاتبه» (1961). ولكن ماذا بخصوص «الجنرال في متاهته»، أو «خريف البطريرك» (1975)، أو «قصة موت معلن» (1981)، أو حتى قصصه القصيرة التي أودعها في كتابه «عن الحب وشياطين أخرى» (1994)؟
ربما لم تعد الواقعية السحرية التي أبحرت خارج ضفاف الكاريبي في خمسينيات القرن المنصرم، إلى كل بقاع العالم، بالألق الذي كانته في العقدين المنصرمين. لكن ماركيز ظلّ يدهشنا إلى آخر سطر كتبه، قبل أن يتوقف عن الكتابة في سنواته الأخيرة بسبب المرض والشيخوخة وداء النسيان قبل أن يرحل ليل أمس في المكسيك.
الآن، حين نستعيد شريط حياته، سنتوقف مليّاً أمام ذلك الشاب البائس الذي اهتدى إلى الرواية بالمصادفة، إثر قراءة «المسخ» لكافكا. أثارت الجملة الأولى في الرواية لديه ارتعاشة غير مسبوقة «حينما استيقظ غريغوري سامسا ذات صباح، بعد أحلام مضطربة، وجد نفسه وقد تحوّل في سريره إلى حشرة هائلة». هذه الجملة أقنعته بيقينٍ تام بأن يهجر دراسة القانون ويتجه إلى كتابة القصة، قبل أن يغرق في سحر «ماكوندو»، المدينة المتخيّلة في روايته الأولى «عاصفة الأوراق» (1955)، وهي النسخة التجريبية من «مائة عام من العزلة» التي استغرق في التفكير بها 19عاماً. كما سنجد شخصية والده موظف البرق في «الحب في زمن الكوليرا»، إحدى رواياته النفيسة التي استعاد خلالها قصة حب والديه. ليست الواقعية السحرية إذاً، وعاءً أسطورياً أو خرافياً لمجازفات الروائي التخييلية، بقدر ما هي حقيقة ملموسة تفرزها تناقضات الحياة في أميركا اللاتينية، إذ تتناوب المعجزات والعجائب في فضاء واحد. لذلك لن نفاجأ كيف طارت «ريميدوس» الجميلة في الملاءات إلى السماء، ولن نستغرب حكاية ساعي بريد وقع في حب فتاة لمحها من وراء نافذة، فظل ينتظرها «ثلاثاً وخمسين سنة وستة شهور وأحد عشر يوماً بلياليها»، أو كيف يبيض الدجاج مرتين كل يوم. عدا فرانز كافكا، ووليم فوكنر، وجوزيف كونراد، يدين ماركيز إلى جدته، في المقام الأول، في استعارة المفاتيح الأولى لحكاياته، كما يعترف بأنّ «نصف الحكايات التي بدأت بها تكويني سمعتها من أمي. وهي لم تسمع مطلقاً أي كلام عن الخطاب الأدبي ولا عن تقنيات السرد ولا عن أي شيء من هذا. لكنها تعرف كيف تهيئ ضربة مؤثرة وكيف تخبئ ورقة آس في كمّها خيراً من الحواة الذين يخرجون مناديل وأرانب من القبعة». هكذا استحوذ على الوصفة السحرية للكتابة، مقوّضاً المسلمات. ذلك أن «قانون الرواية يخترق كل القوانين» كما يقول، وهذا ما أتاح له بناء عمارة سردية متينة محمولة على الفانتازيا والشعر والحبكات الغرائبية. الواقع بالنسبة إليه «ليس مقتصراً على سعر الطماطم والبيض».
ولعل صورة ماركيز الصحافي لا تقل أهمية عن صورته كروائي. لطالما أشار إلى أهمية التحقيق الصحافي في بلورة مشروعه الروائي ورفده بوقائع كانت بمثابة المادة الخام لنزواته الروائية (حكاية بحار غريق). على أي حال، هو كان صاحب أشهر عامود صحافي لسنوات طويلة في الصحف الناطقة بالإسبانية، وقد جمع ما كتبه في أربعة مجلدات. سوف نتذكّر بعض مقالاته بوصفها قصصاً مكتملة، مثل «طائرة الحسناء النائمة» التي ستقوده إلى استعادة عمل أدبي عظيم للياباني ياسوناري كاواباتا، هو «بيت الجميلات النائمات»، الرواية الوحيدة التي تمنى لو كان هو من كتبها. وسينهي حياته الأدبية بتحية إلى هذه العمل الفذّ عبر روايته «ذاكرة غانياتي الحزينات» (2004) في تناصٍ صريح مع هذه الرواية.
ولكن ماذا عن ماركيز السينمائي؟ علينا أن نتذكّر أن «غابو» أنجز أكثر من ورشة لكتابة السيناريو في مدينة مكسيكو، كانت حصيلتها مجموعة من الأفلام، بالإضافة إلى ثلاثة كتب هي: «كيف تُحكى حكاية»، و«نزوة القصّ المباركة»، و«بائعة الأحلام». هنا نتعرّف إلى مطبخه السرّي، فهو يؤكد على ضرورة الإمساك فجأة باللحظة الدقيقة التي تنبثق منها فكرة «مثل الصياد الذي يكتشف فجأة، خلال منظار بندقيته، اللحظة التي يقفز فيها الأرنب». ويعترف في مكانٍ آخر بأنّ القصة تُولد ولا تُصنع، كما أنّ الموهبة وحدها لا تكفي بالطبع. المهم أن تتعلم كيف تروي الحكاية بخبرة وحب ومن دون ضجر، خلال تسعين دقيقة هي مدة الفيلم. كما يشبّه العمل في ورشة السيناريو بحرب العصابات: «عليها أن تضبط خطواتها على إيقاع خطوات أبطأ شخص فيها ثم تفتح النار».
تمازج الكتابة الصحافية وكتابة السيناريو وكتابة الرواية منحت نصّه السردي ثراءً متفرداً، ينطوي على صورة بصرية، في المقام الأول، كالصورة التي افتتح بها روايته «مائة عام من العزلة»: «بعد سنوات طويلة، وأمام فصيل الإعدام، تذكّر الكولونيل أورليانو بوينديا، عصر ذلك اليوم البعيد، الذي اصطحبه فيه أبوه، كي يتعرّف على الجليد». وعلى ضفة أخرى عمل ماركيز ببسالة على فضح تاريخ الحروب والديكتاتوريات في القارة المشبعة بالأسطورة والأبطال والطغاة. القارة التي لم تحظ ببرهة طمأنينة نتيجة العنف والمظالم، فعاشت عزلة قسرية، إلى أن كسرت قشرة البيضة بصناعة الجمال، لجعل الحياة معقولة. كما تبرز ثيمة أخرى في أعماله هي تمجيد الحب، فهو يرى أنّ الإنسانية قد استنفدت احتياطها من الحبّ الشهواني منذ حقبة الستينيات، وقد آن الأوان للالتفات جدياً إلى قوة المشاعر وخزّان الرومانسية، وإلا ما تفسير عودة روايات الحب إلى مكان الصدارة في المبيعات؟ الحروب والعنف والعزلة، فرضت نصاً آخر يعيد الاعتبار إلى معجم العشق، وها هو يهتف في إحدى مقالاته «لقد كنت مؤمناً على الدوام بأنّ الحب قادر على إنقاذ الجنس البشري من الدمار وهذه العلائم التي تبدو ارتداداً إلى الوراء هي على العكس من ذلك تماماً في الحقيقة: إنها أنوار أمل».
في روايته «الحب في زمن الكوليرا»، يبتكر كيمياء عشق فريدة. بعد طول انتظار، ستبحر سفينة العاشقين بعيداً من حمّى الكوليرا إلى الأبد، بقوة الحب وحدها، هذه الشحنة المتأججة كانت الوقود السحري كي تستمر السفينة في إبحارها في المجهول، ذهاباً وإياباً.
لا تتوقف فضيلة ماركيز عند اختراع الحكايات الممتعة التي تلقفتها أجيال من القراء بشغف، بل في مواقفه المناهضة للاضطهاد والعنصرية والديكتاتوريات المتناسلة في جغرافيات العالم. موقفه المنافح عن القضية الفلسطينية، واحد من مواقف كثيرة مضيئة في سيرته الحافلة بالمبادرات الخلّاقة. في أحد خطاباته الواردة في كتابه الأخير «لم آتِ لألقي خطاباً»، يتطلع إلى الألفية الثالثة بعين قلقة، معتبراً القرن العشرين أشدّ القرون شؤماً، بوجود كارثة كونية على الباب تتمثل في خمسين ألف رأس نووي جاهزة للاستخدام. لكن ما قد يخفّف نسبة الهلاك والكوارث، وفق ما يقول، هو الاحتياطي الحاسم من الطاقة لتحريك العالم باستثمار «الذاكرة الخطرة لشعوبنا»، والتراث الثقافي الهائل، وتصريف الطوفان الإبداعي الجارف بوصفه ثقافة مقاومة واحتجاج، «لا يمكن أن يروضها النهم الإمبراطوري، ولا وحشية الطاغية الداخلي».
وداعاً ماركيز، مقعدك سيبقى شاغراً.
المصدر: الأخبار