سعدي يوسف ومتاهات الروح في طنجة
عُرف الشاعر سعدي يوسف بتنقله الطويل بين المدن العربية وعواصم العالم بحكم منفاه خارج وطنه العراق وهو ابن البصرة، ولكن تلك الغربة الموجعة لم يطفح زبدها على طنجة المغربية المدينة الواقعة على مفترق الطرق بين الحلم والواقع من شمال إفريقيا إلى القارة العجوز، طنجة الحاضنة لبوابة الفردوس العربي المفقود/الأندلس، فهل كان لسحر الحاضن التاريخي لتلك المدينة وإعلان طارق بن زياد بحرق سفنه عبقه على الشعر والشعراء المعاصرين أو لطنجة بلياليها الدابقة على حافة الروح ألقها وألفتها المهيمنة على كل عابريها، فتحيلهم إلى جزء من منافيها في محطات المقاهي والفنادق والحدائق والشواطئ وضفائر النساء؟
يقول الناقد المعماري محمد المطالسي: إن طنجة تغذت سمعتها، قبل كل شيء، من المتخيل الأدبي والفني الدولي.
أسئلة كثيرة يبددها في نفسك سعدي يوسف حين تراه يعرّفك على المكان / طنجة بأزقتها وانحدارها المطبق على البحر، ويغريك بما لا يُغري خارج طنجة في شعبيته ورائحة ألفته وخمره وسَمكه واصطباحك على دروبه المتفتحة نحو شارع موسى بن نصير بفقره وتسكع عماله العاطلين عن العمل، آخذا باشتياقك المباح نحو المقاهي الشاطئية والمنحدرة والعصرية والحانات المتسكعة في زوايا الطرقات بأبوابها الضيقة والأليفة حتى الثمالة، وكأن سعدي يوسف أيقونة طنجة كوليفه محمد شكري ومشاهير كثر مثل بول بولز وليام بروز وألان غينسبرغ وبرين غيسن وترومان كابوتي وجون هوبكنز وتيد جونس وباتريسيا هايسميث وكافن لامبرت وجين بولز والكاتب الفرنسي جان جينيه….
والمتسكع هو الذي يرى المدينة بتفاصيل روحها وليس بتفاصيل جسدها، ولذلك نراه في الألفة حيث تجليات الروح تتبدى على مقاعد المقاهي والمطاعم والحانات والحدائق العامة والشرفات المجانية في المدينة والمنحدرات نحو الحلم / الحلم برفقة صاحبات العطر الداكن المنبعث من تحت إبطهن والحلم بالمنزلق نحو المغري في أسفل الأندلس المعاصر، ولكن دون القدرة على مغادرة دبق البحر وليالي الحانات الشعبية وآثار محمد شكري على درجات السلم وفي وحدة غرفته في فندق رتز.
لسعدي يوسف في طنجة أكثر ما للطنجاوي فيها، ولكي تعرف أين تجده عليك بالشعر حيث لا يدنو منك إذا لم تكن عاشقا دون وجل أو خوف، ولذلك أيقوناته الخاصة نتلمسها بالصور الآتية من خلال قصيدة الدخول لأول مرة في ‘وشم القرنفل’
هل دخلتُ حديقةً ؟
بيتاً من الزُّلَّــيجِ والنارَنْجِ ؟
غيمةَ سُـنْـدُسٍ ؟
وسألتُ عائشةَ الجميلةَ :
هل سأبني هَهُنا بيتي، صغيراً، بين رملِ البحرِ والأعنابِ ؟
هل سيكونُ لي أن أجمعَ الأصدافَ والأعشابَ …
هل سأُحِبُّ ؟
هل أمضي، فأُمْضِي الليلَ من حانٍ إلى حانٍ ؟
وهل سأكونُ مجنوناً بِحُـبٍّ، مثل حُبِّكِ …
أنتِ عائشةُ الجميلةُ
على الرغم من أنه سيدخل طنجة للمرة الأولى في ‘وشم القرنفل’ إلا انه يتعامل مع حلمه فيها وكأنه عاشرها مرات ومرات، ويمكن رؤيته فيها يتنقل في بيوتها ويستخدم مفراداتها و أسماء نسائها وحدائقها وحاناتها الكثيرة ووعودها بالحب وبالتالي فإن مفردات القصيدة هي مجموع الأيقونات التي سيرسمها الشاعر في قصائده عن طنجة، ويمكن التقاط تسكعه قبل الولوج إلى تفاصيل كل لوحة على حدة ؛ وهي الحديقة والزليج وعائشة والبحر والحانات والحب والبيت والحلم.
ـ طجة سيدة الأنوار السبعة (الحب)
تتعالى طنجة في الروح وهو المفتاح الأول لدخول مجاهل المدينة دون خوف أو وجل مما يفسح المجال للألفة، ومع الألفة والعشق يغدو الغريب قريبا بل جزءا من كينونة وجود التفاصيل الصغيرة للمدينة :
منذ الصّبحِ الباكرِ أجلسُ في المقهى
والصبح الباكر هو جزء من مجاهل المدينة للغريب وافتراشه على حافة مقهى قبل استيقاظ المدينة هو ألفة وعشق ومعرفة بتفاصيل ما كان مجهولا وأصبح معلوما حتى حد المتعة قبل الاستيقاظ على الصخب العابر
طنجةُ تستيقظُ .
لستُ أنا مَن يُوقِظُ طنجــةَ
ونقول حتى حد المتعة قبل الاستيقاظ لأن النقلة المفاجئة بين الجملتين (طنجة تستيقظ / لست أنا من يوقظ طنجة) ترسم الصورة الشعرية من الخوف على إزعاج طنجة النائمة التي استيقظت؛ مما دفع الشاعر بإنكار إزعاجها، وفعل الإنكار هنا نابع من الخوف عليها، وهو لا يتحمل ذنب ذلك الإزعاج .
ومن يعرف طنجة يدرك قدرة الشاعر على التقاط روحه في مسائها وليلها وفجرها، فمع دبق بحرها الصباحي تعمّ السنونو بنايات المدينة الشاطئية، تتنقل بتؤدة بين محطات أقدامها وبين سطح البحر. وحين تكون الألفة سيدة الناظر يبدأ الاستمتاع بتفتق المدينة عن أجزائها وروحها وضجيجها، ولذلك يتنشق سعدي يوسف عبقه من نافذته المطلة على البحر .
طيورُ السنونو تَـخاطَفُ فوقَ سطوحِ البناياتِ
في الفجرِ .
أفتحُ نافذتي :
صرَخاتُ النوارسِ تأتي مُـكَـتّـمةً .
أوّلُ العابرين إلى السوقِ
أولى البنات اللواتي يُبَـكِّـْنَ نحو المواعيدِ
أوّلُ صيحةِ ديكٍ …
كأنّ الصباحَ بطنجةَ يرسُمُ صورتَه، قطعةً قطعةً.
وفي ‘القصيدة العاشرة’ يكشف الشاعر عن معرفته المزدوجة بطنجة ؛ طنجة االحارات والدروب والمتاهات المؤدية إلى نقطة البداية دون الوصول إلى منفذ للبحر كما هي حال الغريب في المدينة العربية الإسلامية بشكل عام، وطنجة الهوى ومتاهات الروح حيث لا يمكن القبض على المحدَّد والواضح ؛ لأن طنجة قادرة على إغراقك في الهوى دون معرفة السبب بلياليها وأحلامها وألفتها وغرابتها ودهشتها وخليطها المتجانس وفق صورتها الفريدة. يقول :
نحن في ليلِ طنجةَ
ندخلُ …
لكننا سوف نسألُ أنفُسَـنا : كيف نخرجُ ؟
مثل الدروبِ التي لا تؤدِّي إلى البحرِ، طنجةُ في الليلِ …
ليست لديكَ خرائطُ كي تقرأَ الليلَ
أو أنّ ثَمَّ خرائطَ جاهزةً للضّياعِ :
أَقِمْ حيثما شِئتَ
قُلْ مثلَ ما شِئتَ
كُلْ مثلَ ما شئتَ
واشرَبْ كما شِئتَ …
لن ينفعَ الأمرُ :
سوفَ تظلُّ الـمُـضَـيَّــعَ ؛
لن تهتدي بالسؤالِ عن البابِ
حتى ولو كانت البابُ أنتَ …
ومَنْ أنتَ ؟
………………
………………
………………
طنجةُ قادرةٌ أن تُـذِيقَكَ كأسَ النُّعاسِ الألـيــم !
طنجة في خاصرة الشاعر ولا يستطيع التخلص منها إذن حتى وإن كان في حاضرة ستارسبورغ ويلتحف ب ‘ دوستينا ‘ لأن فتاة ستارسبورغ تقول له :
لا تَخَفْ !
إني التففتُ بِــمَـلْـحَفِ الخفِراتِ من فتياتِ طنجةَ
فاغْـتَـنِمْـني !
وهي تعرف شعوره بالمدينة وألفتها بدءا من موسيقى الأزقة وانتهاء بليالي طنجة الدبقات من رطوبة البحر ورائحة الأسماك المعلقة على الجدران ورعشة القلب الرهيف
موسيقى الأزقّةِ في ليالي طنجةَ الدبِقاتِ تجعلُ ليلَـنا فجراً مديداً
ليس من سببٍ لنكتمَ رغبةً في أن نقيمَ بطنجةَ البيتَ المؤجَّجَ بالرياحِ
وبالضجيجِ ونكهةِ الأسماكِ
طنجة حيثُ يضيقُ الشارعُ والعَيشُ
(التفاصيل الصغيرة)
من طنجة سيدة الأنوار السبعة ندلف مع سعدي يوسف لتفاصيل المكان المرئي واللامرئي، المتنقل بين ضيق الشارع وضيق العيش في مزاوجة بين المألوف وضياع الدهشة وبين وجع السؤال واليومي في حياة الناس، وبذلك يكون سعدي يوسف خارج الغربة المكانية أو الاجتماعية بل إنه يدخلك في دوامة التفاصيل الحياتية للمتسكع بين المقاهي والحانات والمنحدرات الشاطئية
يقولُ ليَ الفندقيُّ: المدينةُ مخنوقة.
قلتُ ٌ: طنجةُ قد أحيَت الليلَ،
والآنَ يحلو لها أن تنام
كأنّ قماشاً نقيعاً يلفُّ المدينةَ ،
والناسُ شِبْهُ سكارى
وما هُم سكارى …
لا تتجلى تفاصيل المكان عند سعدي يوسف بذكر التفاصيل الصغيرة وإن تم الايحاء بذلك من خلال بساطة التعبير وذكر أسماء الأماكن كما نلاحظ في قصيدة ‘فندق رِتْـــز′
في 27 شارع موسى بنِ نُصَيرٍ
صارتْ لي الغُرفةُ 15 !
لا أدري كيفَ وصلتُ إلى هذي الغرفةِ
مَن أوصلَني ؟
مَن قالَ : هي المأوى والجنّـةُ ؟
مَنْ أغلَقَ بابَ الغرفةِ ثم مضى دونَ سلامٍ وكلامٍ ؟
لكني أتذكَّرُ أمراً :
أتذكّرُ أنّ محمد شكري كان هنا …
في الغرفةِ !
غرفتُـهُ في طابقِها الأوّلِ
وأنا أيضاً …
أتكونُ الغرفةُ 15 ؟
ولو أردنا التدقيق لن نجد في المقطع من التفاصيل الصغيرة غير ذكر اسم الشارع ورقمه، إلا أن التعبير الشعري عن المكان يقربه إلى روحنا فنتلقاه بشفافية تجعله مألوفا من دون أن نراه لما يحمله التعبير من حميمية تلفّ المكان فتجعله مرئيا، ولكن عبر الروح وليس البصر .
حيثُ يضيقُ الشارعُ والعَيشُ
وحيثُ تَضيقُ الفتَياتُ بِـما قُدِّرَ …
في مقهى بورت / الميناء يرسم سعدي يوسف المقهى الشعبي في طنجة من خلال جلوسه في المقهى العصري ؛ فالحاضر المحسوس في المكان هو المقهى العصري والغائب هو المقهى الشعبي، والحاضر في وعي الشاعر ومألوفه هو المقهى الشعبي والغائب هو المقهى العصري . يقول :
شــيءٌ في هذا المقهى يجعلُـهُ مختلفـاً
مثلاً :
لن يدخلَ فيه مَـغاربـةُ الجـلاّبةِ
والباعةُ
والعمّالُ
ولن تدخلَه امرأةٌ في الخمســين !
يبدو المكان ‘المقهى العصري’ غريبا على الشاعر هنا ولكن الغربة ليست مكانية بقدر ما هي شعورية، فالشاعر ابن التاسعة والسبعين يجره المقهى العصري إلى حلم العودة إلى مرحلة الشباب ليتماهى مع زوار المقهى من فتيات وفتيان، فيبحث عن شبابه الضائع مع جيل لم يعش في شبابه تفاصيله المعاصرة؛ ولذلك نلاحظ بفعلٍ مضاد للألفة التي نتحدث عنها شعور بالغربة وبحث عن عصفورة تأتي وتحط على طاولته، إنه يبحث عن حلم لن يتحقق بفعل انفصاله عن الواقع ؛ المقهى الشعبي وجيله المحكوم بتغير الزمان المكان .
هذا المقهى تدخله فتياتُ اللابتوب
(الحاسوبِ الـمُحـتَـضَـنِ)
الفِتيانُ، أحِـبّاءُ الفتَياتِ ذواتِ الحاسوبِ المحتضَنِ الغرَباءُ بِـطنجــةَ، مثلي
والماضونَ إلى غيرِ مكــانٍ …
في المقهى صُحُفٌ لن يقرأَها أحدٌ
ونباتاتٌ لن يهتَمَّ بها أحدٌ
ومَـنـاظرُ من إسبانيا، وأغان .
…………….
سوف أجيء إلى المقهى كلَّ صباحٍ
فلَـعَـلَّ العصفورةَ تأتي
وتحطُّ على طاولتي ذاتَ صــبــاح !
أزقة طنجة كثيرة ومتعرجة وشديدة الانحدار وخطرة بسبب تمدد طنجة على المرتفغات. وقد اكتشف سعدي يوسف سر نلك الأزقة المركونة على الزوايا الثلاث للمثلث: الزاوية الأولى عبق التاريخ في ثقافة المدن العربية القديمة وتراكم التراث المعماري العالمي بحكم العابرين تاريخيا على طنجة. والزاوية الثانية تداخل طنجة بين عالمين على ضفتي البحر جنوب أوروبا وشمال إفريقيا ولذلك هي الضفة الدنيا للأندلس / الفردوس العربي المفقود .والزاوية الثالثة دهشة الطبيعة في تشكيلها للصورة الخلفية لطنجة المميزة بعليائها وانحنائها للبحر. يقول في قصيدة ‘الأزقة ‘
أُحِبُّ أن أَطَّـوَّفَ النهارَ والليلَ بما تَكْـنِزُهُ طنجةُ من أزقّـةٍ أزِقّةٍ منحدِراتٍ
تحملُ سَيلاً دافقاً من بشرٍ نحوَ تخومِ البحرِ
نحوَ الضفةِ الدنيا من الأندلسِ …
الـمُـــوَشَّـحُ النائمُ يستيقظُ
وجه من طنجة يتبدى في صورة شارع موسى بن نصير وفي زاويته حانة أزمرالدا حيث يتجلى البؤس والرطوبة والفقر والبطالة والعري الفطري والتاريخ العتيق لتجانس السكان المختلطين دينيا وعرقيا فوق مساحة واسعة من الألفة في طنجة وفي طبق من سمكها ورزها في حانة أزمرالدا. يقول :
في شارع موسى بنِ نُصَير
حيثُ الأشباحُ تسيرُ مع الأحيــاء
وحيثُ نساءٌ يستعرِضْنَ صباحاً ما ل يُستعرَضُ
والعمّالُ بلا عملٍ …
في زاويةٍ من هذا الشارعِ تَكْمُنُ حانةُ أزمِرالدا .
كيف دخلتُ ؟
أيُّ رياحٍ دائخةٍ دفعَتْني عبرَ البابِ الضيّقِ ؟
في حانةِ إزمِرالدا
أغانٍ من مصرَ، أغاني أشباحٍ قرونٍ سلَفَتْ
في حانة إزمرالدا
صحنٌ من سمكٍ خيطيٍّ، وبقايا رُزٍّ
حبّاتٌ من زيتونٍ يقطُرُ ملحاً
وحديثٌ يخفُتُ …
……………
……………
……………
حانةُ أزمِرالدا
يملكُها منذُ ابتدأَ الخَلْقُ يهودٌ أندلسيّون .
من مقهى الحافة على حافة المنحدر والساقط نحو البحر أو الضفة الدنيا لأسبانيا يطل سعدي يوسف على هاجس الطنجاوي ( ة ) في السقوط من المنحدر في حضن إسبانيا بحثا عن بريق أوروبا، ولكن مقاومة ذلك الحلم لا يدركها غير المعتّق برائحة المكان وألفته بغض النظر عن المقارنات بين الحلم و الواقع، فطنجة/ مدينة الشعر لا تُدرَكُ ألفتها إلا باحتراف التسكع في مقاهيها وحاناتها وأزقتها و بازاراتها وشرفاتها المطلة على عالمين: الحلم والواقع ؛ ولذلك تشبّع سعدي يوسف بحشيشها ونعناعها وعطورها الداكنة. يقول :
مثلَ مصاطبَ في تلٍّ
ينحدرُ المقهى نحو البحرِ …
ويوشكُ أن يسقطَ في البحرِ
ليأخذَ فتيانَ المقهى والفتَياتِ إلى الضفةِ الأخرى.
إسبانيا تتبدّى في الأفقِ المتلبِّدِ
لكنّ المقهى
سيظلُّ يخَدِّرُ مَـن يدخلُــهُ بروائحَ من جنّتِهِ :
نعناعٍ
وحشيشٍ ريفيٍّ
ودخانٍ بلَديٍّ …
وعطورٍ داكنةٍ من آباطِ
طنجة وجوهُ نساءٍ كُنَّ هجرْنَكَ (الرتابة)
منذ المقطع الأول يغريك سعدي يوسف في قصيدة حانة البريد بولوج ألفة المكان من خلال الرتابة التي يشعر بها في القصيدة وكأنه ابن المكان منذ ولادته بل ابن الحانة ذاتها . يقول في المقطع:
تماماً
حين تكون الساعةُ في طنجةَ 12
أي في الظُّهرِ تماماً
أدخلُ في الحانةِ
وتكرار الفعل يوميا وفي ساعة محددة دفعه للتساؤل عن الجديد والمغري في هذا المكان ولكن دون إجابة مصرّح بها غير ألفة المكان بدءا من سركون بولص صاحب الحانة وحكمه الناصحة للشاعر وقنينة الخمر المكناسية الحمراء ووجوه الزبائن والنساء المهجورات والأطباق التي لم تتغير منذ سنين وانتهاء بوجه الشاعر في المرآة ؛ ولذلك يلتف العالم حوله وحيدا بخاصة بعد غياب محمد شكري عن الحانة حيث المتغير الوحيد .
أثمّتَ ما يُغْريكَ هنا؟
أثمّتَ مَن يلقاكَ هنا ؟
قِنّينةُ مِكناسَ الحمراءُ … أكيداً
وجهُكَ في المِـرآةِ ،
وجوهُ نساءٍ كُنَّ هجرْنَكَ …
لا بأسَ !
العالَمُ يلتفُّ، وحيداً، بعباءتِهِ
والحانةُ تلتفُّ :
زبائنُها هُمْ هُمْ
والأطباقُ كما كانت منذُ ســنينَ
ومحمد شُكري لم يَعُدِ …
لا يكاد يغريك كثيرا معرفة موطن سعدي يوسف وأنت تقرأ قصيدته ‘الحديقة العامة’ فسجله المدني يكتبه في طنجة :
أنا عاطلٌ عن العمل
مُعَوَّقٌ .
وفقيرٌ
يجلس كأي مواطن في طنجة تسكّع في المقاهي والحانات والبحر والأزقة والمنزلقات والفنادق الشعبية والعطر الداكن المنبعث من إبط الفتيات فحسب بل غزا الحديقة العامة في طنجة عاطلا وفقيرا ومعوّقا كما هم ضيوف الحديقة صباحا في المدن العربية فهل بعد ذلك يغرينا السؤال عن السجل المدني لسعدي يوسف فإذا لم يكن من طنجة فمن أي المدن يكون ؟
في الحديقة العامّة، غير بعيدٍ عن البحر
يجلس العاطلون عن العمل
ويجلس معَوَّقٌ واحدٌ .
لا عصافير
الشجرُ عميق الخضرة
والشمسُ تنفجرُ بين الغصون الكثيفة .
في الحديقة العامة لا تجلس النساءُ
ألأنّ الوقت ما زال ضحىً؟
أنا أيضاً أجلسُ.
من خلال الإيقونات الثلاث ‘الحب والتفاصيل الصغيرة والرتابة’ يدخل سعدي يوسف طنجة محيلا الغربة إلى وطن والمكان المتعدد الألوان والأطياف إلى سجلِّ روحه هو ،وندخل معه طنجة عامرين بالحلم ونخرج دون ارتواء .
* كاتب مغربيّ