المثقفون في زمن الثورات الشعبية
عجز المثقفون العرب عن التنبؤ بالثورات العربية التي تدك اليوم قلاع بعض من أعتى الأنظمة الديكتاتورية في التاريخ الحديث، فالثورات الشعبية العربية هي ظاهرة جديدة لم يكن المشهد الثقافي العربي متسقاً معها أو حاضرا فيها، أو حتى مستعداً لها، حيث كان الكثير من المثقفين العرب يتنقلون بين أنساق فكرية مختلفة بل ومتناقضة أحياناً، بلا أية مشاريع ثقافية أو سياسية واضحة ومتبلورة، تحديداً بعد أن فقد الحراك الثقافي العربي جزءاً كبيراً من تلونه منذ ثمانينيات القرن الماضي، لتبدأ مرحلة الخروج من التاريخ وجلد الذات
بعد أن أصيبت العقلية العربية بأمراض خطيرة منها الاستقطاب الحاد وعدم القدرة على قبول الرأي الآخر والاستسلام للمؤامرة، وأخطر هذه الأمراض هو التسلّط، وجميعها جاءت نتيجة حتمية للانفصام بين الثقافة والمجتمع على صعيد الأفكار والممارسات، وبسبب القمع الذي مورس على المجتمعات العربية في مختلف المستويات الفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية طوال عقود من الزمن.
ورغم العجز الذي أصاب المشهد الثقافي العربي استطاع بعض المبدعين استشراف ما يجري من خلال إبداعاتهم رغم المناخ غير السليم الذي كنا نعيشه ومع ذلك كانت لدينا مئات الأطروحات التي بقيت حبيسة الأوساط الثقافية والأكاديمية، والتي لم تقدم أكثر من التعبير بطريقة أو بأخرى عن حدس بالتغيير دون معرفة أشكاله وصوره، وإذا كان البعض قادرا على قراءة حدث هنا أو تغيير هناك، فقد ظلت حالة الغليان الشعبي التي فجرت الثورات في الوطن العربي خارج سياق توقعات المثقفين العرب، وهنا لا يجب التعميم فالمثقفون العرب أقسام، إذ ثمة المثقفون العضويون الذين يتفاعلون مع المجتمع وجميعنا ولا نستطيع أن ننسى أفلام عمر أميرالاي، وروايات بهاء طاهر وصنع الله إبراهيم، وأبحاث عابد الجابري وعبد الله العروي، وغيرهم الكثير، أما القسم الأخر فهم المثقفون المحايدون ومثقفو الأنظمة العربية الديكتاتورية الذين يتملقون القادة «الملهمين» ويسقطون بسقوطهم، كما لا يخلو الواقع الثقافي العربي من مزايدات يقوم بها بعض المثقفين في هذه الفترة من خلال ادعائهم المشاركة في تفجير الثورات العربية، بطريقة تستدعي مراجعة شاملة في مفهوم الشارع العربي حول المثقف والمفكر.
وفي هذه الفترة برزت طبقة ثقافية جديدة، ونوع مختلف من النخب العربية هي النخب الثورية الآخذة في التشكل أخيراً، حيث بدأت الثورات العربية تصنع نخبها سعياً لصياغة الخطاب المعرفي للثورة، ولكن بناء رؤية ثورية واضحة يحتاج إلى وقت كبير وتغيير حقيقي على مستوى الوعي وفي بنية المجتمع، وهو ما يحتّم ضرورة وضع استراتيجية ثقافية عامة تحشد الخبرات والطاقات وتستنهض الطاقات العربية للوصول إلى المجتمع المدني.