النسوة يستقِين الماءَ من النهر
في صيف 2012 ، تلقّيتُ دعوةً إلى بلباو ، عاصمةِ الباسكيين ، شماليّ إيبريا .كان ثمّتَ لقاءُ شعراء من العالم الوسيع . والمناسبة: لابدّ من مناسبة ! المناسبة هي إحياءُ ذكرى غرنيكا ، البلدة الباسكيّة التي هدمَها الطيَرانُ الهتلريّ على رؤوس أهلها ، في بدايات الحرب الأهلية الإسبانية ، أواسطَ الثلاثينيات ، ثمّ حملها بيكاسو إلى ضمير العالَم في لوحته الأشهر: غرنيكا .
ترجمة وتقديم : سعدي يوسف
كنت في باب الفندق حين هبط من حافلةٍ ، جاك هيرشمان شاعر سان فرانسسكو الأشهر ، الذي تربطني به علاقةٌ أثيرةٌ . أمّا الآخر فكان نغوين كوانغ ثيو
درس ثيو الإنجليزية والإسبانية في كوبا الثوريّة ، واطّلعَ جيداً على الشِعر المكتوب بهاتين اللغتين ، وقد كان هذا التثاقُفُ عميقَ الأثر في نصوصه .
لا ذِكْرَ للحرب في أشعار ثيو .
لقد انتهت الحرب حقّاً ! وهاهوذا يكتب عن الطبيعة ، والناس ، والقرى حيث يكدح البشر ويحلمون. ثيو شاعرُ فيتنام ، لم يسمعْ بأنني أحاول أن أنقل قصائده إلى لغتنا العربية الأجمل ، وقد لا يسمع إطلاقاً … لكنني واثقٌ بأن الناس الذين يقرأون العربية سوف يهتمّون بأشعاره ، وقد يستمتعون !
أغنيةُ قريتي
اغَنّي أغنيةَ قريتي
آنَ الناسُ في سُباتٍ عميقٍ
تحت نجومٍ رطبةٍ
تحتَ رياحٍ سافيةٍ
يجِدونَ سبيلَ العودة.
في مكانٍ ما يتكلّم رجلٌ في نومه
جنبَ شَعرِ امرأةٍ متهدِّلٍ ؛
في مكان ما يفوحُ حليبُ أُمٍّ
مُفْعِماً الليلَ ؛
في مكانٍ ما تتفتّحُ من الأرض كالبراعمِ
نهودُ فتياتِ الخامسة عشرة.
وفي مكانٍ ما يَسّاقَطُ سعالُ القرويّين الشيوخِ
من الأغصانِ كالثمار الناضجة
بينما العشبُ يظلُّ طولَ الليلِ
يقظانَ في الحديقةِ.
أغَنّي أغنيةَ قريتي
في ضوء قنديل الزيت
الذي خلّفَه الأسلافُ ،
القنديلِ الأحَبّ ، والأشدّ حزناً .
يومَ وُلِدتُ وضعتْه أمّي قبالتي
كي أرى وأتعلّم ، كيف أحزنُ
كيف أحبُّ ، وكيف أبكي.
أغنّي أغنيةَ قريتي
أغنّي من خلال حبل السُّرّةِ
الدفينِ هنا
ليكونَ دودةَ أرضٍ
تزحفُ تحت جرّةِ الماءِ
تزحف على حافة البرْكة
تزحف في قبور أسلافي
تزحف في قبور المساكين
دافعةً إلى أعلى ، في طريقها ، تراباً أحمرَ كالدم.
اغنّي أغنيةَ قريتي
الرميم يرقد في توابيت فخّارٍ
حيث رميمي سيكون يوماًما.
في الدنيا ، أنا إنسانٌ
وفي الآخرةِ سأكون حيواناً .
ساسألُ أن أكونَ جِرْواً
لأحمي الأسى
جوهرةَ قريتي .
نهرُ داي
نهرُ داي ، يصبُّ في حياتي
مثل أمي إذ تعود إلى البيت ، من البوابةِ
بسِلالٍ مثقلةٍ رزّاً في الغروب.
كنت أمسحُ وجهي على ظَهرها المتعرِّقِ
بارداً مثل النهر في الليل.
وحين نأيتُ أعواماً عن البيتِ
فقدتُ موطِيءَ قَدمي . وصار حُلمي مثل سمكةٍ تتملص من الصنّارة
مثلَ نفَسٍ حبيسٍ في قلبي ، في منبع النهر.
شَعرُ أمّي يظللُ ألمي.
هي تنتظرني على رصيف المرسى العتيق ،
نحيلةً ، يابسةً مثل سنبلةٍ بعد الحصاد .
كل شيء حزينٌ ، حتى الورَقُ المترنِّمُ .
في الأصائل ، بعيداً عن مرْبَع صِباي
أنتظرُ أن يفيض نهرُ داي
حتى السماء ، ويملأ عينيّ بالمطر ،
مثل ثقوبٍ على ضفاف النهر
يبني فيها سمَكُ القوبيون أعشاشه المائيّة.
عصرَ هذا اليوم عدتُ إلى مَرْبَعي
حيث الأشرعةُ القديمةُ تخفُقُ متذمرةً
حيث حبيبتي ذات شفَتي التوتِ
عبَرتْ إليّ ، يوماً ، آنَ كان النهر جافّاً.
لا أرى الآن سوى التِبْنِ ،
لكني أتذكّر قميصَها المنحسرَ
على رصيف المرسى ، تحت القمر القديم .
آهٍ يا نهرَ داي
يا نهرَ داي ،
كانت أمي هرِمةً مثل الرمال على ضفافك ؛
حين أشمُّها ، أستافُ شميمَ شَعرِ أُمّي .
أركعُ وأيَمِّمُ وجهي بالرمل ؛
أبكي ، فيتحدّرُ رملٌ من وجهي.
الحقل
حين ينتهي الزرعُ والحصادُ
أفِرُّ من هواجسي ، راكضاً إلى الحقل ، ثانيةً.
الأرض السمراءُ الغامقةُ تلتمعُ بأسىً
والمطرُ المدرارُ يسيلُ على أديمِ الغسقِ.
أسمعُ صدى الجنادبِ
وهي ترفُّ بأجنحتها في حلوقِ القرويّين.
تنتابني الذكرى على الطريقِ حيثُ فقدتُ أُمّي
عينٌ مخْضَلّةٌ بالدمع تظلُّ تعاودُ النظرَ إليّ.
آهٍ يا كلبي الصغير ، ذا الذيلِ الضفير
منذ افترقْنا ، ذبُلَ الذيلُ ، في عشب ذيل الكلب .
التقطتُ طرَفَ قُبّعتي المتهرِّئة ،
ثمّتَ الأفقُ يبزغُ وهو منحدرٌ إلى الشتاء.
في آخر الحقل ، فلاّحٌ عجوزٌ يلُمُّ التِبْنَ لناره .
بينما شفرةُ محراثٍ نسِيتُ اسمَه ، تحلمُ بأسماءِ النجوم .
النسوةُ يستقين الماءَ من النهر
أصابعُ أقدامهنّ معروقةٌ ، ذواتُ أظافرَ طِوالٍ
تتّسِعُ كأصابع الدجاج.
لخمسٍ ، خمسَ عشرةَ ،ثلاثين من السنين ،
راقبتُ ىالنسوة ، يذهبْنَ إلى النهرِ ، ليستقِينَ الماء.
عُقَدُ شَعرِهِنَّ تنحَلُّ ، متحَدِّرةً
على قفا قمصانهنّ الناعمةِ الرطبةِ .
هنّ يمسكْنَ عِصِيَّ الكتِفِ ، بيَدٍ ؛
واليدُ الأخرى تضُمُّ سحائبَ بِيضاً .
وحين يضغطُ النهرُ على ضفافِهِ ، لينعطفَ
يأتي الرجالُ بِزاناتِ الصيدِ وأحلامِ البحر
السمكاتُ السحريّةُ تفِرُّ وتبكي؛
والطوّافاتُ تظلُّ ثابتةً على وجه الماء.
الرجالُ يمضون بعيداً ، غِضاباً ، حزانى.
لخمسٍ ، خمس عشرةَ ، ثلاثين ، من السنين
راقبتُ النسوةَ عائداتٍ من النهرِ ، بالماء.
كثيرٌ من الأطفالِ العُراةِ ، يركضون خلفَهنَّ ، ويكْبرون.
والفتياتُ يحملْنَ العشصِيّ على أكتافهنّ ، ويمضين إلى النهر
والأولادُ يحملون زاناتِ الصيدِ ويحلمون بالبحر
بينما السمكاتُ السحريّةُ تفِرُّ وتبكي
لأنها رأت الصنّارةَ في الطُّعْمِ الـمُـدَوَّخ.