«زوايا».. مارون بغدادي، مصالحة أم تصفية حساب؟
لو تسنّى له أن يبقى على قيد الحياة فترة أطول، وأن يُكمل اشتغاله على السيناريو الأخير له «زوايا»، وأن يُعاين، يومياً، أحداث عشرين عاماً مضت بعد رحيله، تُرى ما الذي كان يُمكنه أن يفعل؟
بعض هذه التساؤلات طرحها الزميل إبراهيم العريس في ندوة «أصدقاء لمارون بغدادي عملوا معه»، في «مسرح المدينة» مساء 11 الجاري، في إطار «أيام مارون بغدادي السينمائية» (تنظيم «نادي لكل الناس»). بعضها الآخر منبثقٌ من قراءة «سيناريو لم يكتمل»، أصدرته «دار الفارابي» مؤخّراً، إلى جانب الطبعة الثانية من «الحلم المُعلَّق (سينما مارون بغدادي)» للعريس أيضاً (صدرت الطبعة الأولى عن «دار النهار» في العام 1994). «سيناريو لم يكتمل» عبارة عن 92 صفحة مكتوبة بقلم الروائي حسن داوود، بالإضافة إلى 4 صفحات لنص مطبوع على آلة طابعة قديمة ترسم الملامح العامة للمشروع الأخير لبغدادي ومعطياته ورؤية صاحبه، علماً أن العنوان الأول كان «ذاكرة للنسيان». في الكتاب نفسه، 42 صفحة خاصّة بالنصّ الذي وضعه بغدادي باللغة الفرنسية.
قيل الكثير عن مارون بغدادي وفيه، وعن سينماه التي عرفت تطوّراً لافتاً للانتباه، فنياً وتقنياً ودرامياً وجمالياً، بين فيلمه الأول «بيروت يا بيروت» (1975) و«فتاة الهواء» (1992). قيل الكثير أيضاً عن ارتباطه الوثيق ببلده ومدينته والتشعّبات المعقّدة والملتبسة والغامضة التي نسجها البلد والمدينة مع الناس والحروب والآفاق المنغلقة على نفسها، والتي صنعها البلد والمدينة في البؤر العميقة للخراب الإنساني والأخلاقي. قيل الكثير عن المفاصل الأساسية التي حدّدت المسارين الحياتي والسينمائي لبغدادي، العائد إلى بيروت من باريس للمشاركة في محاولة التأسيس لسينما لبنانية جديدة ومختلفة مطلع سبعينيات القرن الفائت، والمنصرف إلى الهمّ الإنساني البحت للبنانيين مقيمين في الهاوية، أو على جوانبها القاتلة، والمستعدّ لخوض معارك جمّة من أجل أن يقف وراء الكاميرا، وأن يُصوّر، وأن يُنجز أفلاماً لعلّ الحرب الأهلية المندلعة حينها فرضت عليه الاستعانة بالوثائقي لتأريخ اللحظات المنسلّة من بين أيدي أناس أدركوا حجم البؤس والموت منذ البداية. لكن الحرب الأهلية نفسها لم تحل دون اشتغاله الروائي، فكان «حروب صغيرة» (1982) مفصلاً ثانياً شكّل محطة أخرى لفهم تداعيات الخراب اللبناني، خصوصاً أن فيلمه الروائي الطويل الثاني هذا أُنجز عشية الاجتياح الإسرائيلي للبنان، تماماً كما أُنجز فيلمه الأول عشية اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية.
النص غير المكتمل لـ«زوايا» يؤكّد مجدّداً قوّة الارتباط القائم بين المخرج وبلده ومدينته، وبين المخرج والحرب الأهلية والذاكرة المُشعّة بألف خراب وسؤال معلّق. صحيحٌ أن «زوايا» مكتوبٌ بنَفَس مخرج سينمائي يُريد «إنهاء» هذه العلاقة المرتبكة والملتبسة والمعقّدة بينه وبين بلده. وصحيحٌ أن «زوايا» موضوعٌ بهدف «تصفية حسابات أخيرة»، أو «مُصالحة» أخيرة (كما قيل مراراً). لكن الأصحّ أن هذا النصّ عبارة عن نشيد للحب وفيه، يتوغل في ثنايا الحرب الأهلية بعين راهنٍ غير مُنجز، ويرسم تفاصيل جانبية شكّلت، أو ساهمت في تشكيل واقع، وخفايا هذا الواقع. عودة الطبيب مروان إلى بيروته قبيل رحيل الوالدة بدت كأنها منعطف إنساني أراده بغدادي لحظة تأمّل بما آلت إليه أحوال بلد خارج من حرب أهلية طاحنة، ومُقبل على سلم تكشّف سريعاً عن هشاشته القاتلة. مروان لا يزال مرتبكاً وقلقاً منذ مقتل والده قبل 18 عاماً. مروان لا يزال مُثقلاً بالأسئلة كلّها التي أنتجتها الحرب الأهلية، ولم تعثر على أجوبة. مروان تائه وضائع ومُتعب. يريد معرفة مصير قتلة والده، كأنه يرغب في الانقضاض على تلك الذاكرة المهشّمة والمهمّشة في آن واحد. يسعى إلى إعادة ترميم الماضي، بمآسيه وخيباته وجنونه، كأنه يرغب في الاقتصاص من مجهول ردّاً على المتاهة البشعة التي غرق فيها طويلاً.
«زوايا» مارون بغدادي غير المكتملة دعوة إلى إعادة رسم صُور تلك الذاكرة المثقوبة، والماضي الهائم على وجهه وسط خراب الآنيّ.
السفير