آدب المآزق: الرجل المعاصر في الحفرة -1-

آدب المآزق: الرجل المعاصر في الحفرة -1-

هناك نوعٌ معينٌ من الأدب يصلح أن يطلق عليه اسم «أدب المأزق»، فأبطاله غالباً ما يكونون أشخاصاً عاديين، يجدون أنفسهم دون سابق إنذار في وضع خاص، مقلق، أو غير آمن. إلّا أن هؤلاء يسلّون أنفسهم بالقول: إن ما يختبرونه، ظرفٌ عابرٌ، مؤقت، وأنهم سرعان ما سيخرجون منه ليستعيدوا حياتهم الطبيعية. لكن ماذا لو لم يكن الأمر على هذه الشاكلة حقاً؟ وماذا لو كان «المأزق» أمراً لا يمكن الفكاك منه؟

يحضر إلى الذهن مثالان اثنان عن هذا الشكل الأدبي المُكرس بأكمله للحديث عن الإنسان المعاصر، المُحاصر ضمن ما يبدو دائرة لا مخرج منها. أولهما: رواية «امرأة في الرمال» للكاتب الياباني كوبو آبي الصادرة عام 1960، والثانية: رواية «صحراء التتار» للكاتب الإيطالي دينو بوزاتي المنشورة عام 1940.

امرأة في الرمال

تحضر فكرة الحفرة، بقوّة في حبكة أية قصة. فالنقّاد الأدبيّون الذين يحاولون تحليل بنية الحكايات يقولون: إنها في جوهرها تقوم كلها حول الوقوع في المآزق والخروج منها. كأن تسير حياة شخص على ما يرام حتى يواجه مطبّاً يحاول تجاوزه. أو يكون العكس ما يحصل؛ فتبدأ الحكاية من قعر حفرة، يكون فيها البطل في الحضيض، ويبدأ في الصعود. لكن الحفّرة في رواية «امرأة في الرمال» هي حفرة بالمعنين المجازي والواقعي، وليست مجرد لبنة في بناء القصة.
تعتمد الرواية منذ اللحظات الأولى أسلوباً يخلو تماماً من المناورة حينما تبتدئ بالعبارة التي تقول: «اختفى رجلٌ ذات يومٍ من أيام أغسطس» وتفصح في الفقرة الأولى من الكتاب بأن الشخص ظل مُختفياً طوال سبع سنوات حتى عُد ميتاً.

إلقاء نظرة على باطن الحفرة

نيكي جومباي مُدرسٌ في الثلاثينات من عمره، يمكن وصفه بالشخص العادي أو حتى الهامشي، يمارس هواية جمع الحشرات النادرة، ويذهب في رحلة إلى جانب البحر بحثاً عن بعضٍ منها، مما يعيش في الكثبان الرملية. ويمشي متجولاً بمحاذاة قرية تبدو غارقة في الرمال يرفع سكانها شعار: «فلتحب دارك».
تغرب الشمس ويحتاج المدرس مكاناً كي يبيت فيه، فيأخذه بعض الرجال في القرية القريبة إلى بيت في قعر تجويف تسكنه امرأة وحيدة. وهنا تبدأ أمورٌ غريبة في الحصول؛ فهو يشعر بالرجال الذين أوصلوه إلى هذا البيت يتغامزون بإشارات لا يفهمها. والمرأة بدورها تتصرف بغرابة. ورغم أنه يؤكد لها بأنه سيبيت هنا، على مضض، ليلة واحدة فقط، لكنها لا تنفك تتجاهل كلماته وتتصرف كما لو أنه سيبقى هنا وقتاً أطول من ذلك. وهذا ما يحصل حينما يستيقظ ويكتشف بأن السلم الذي أدلوا به كي ينزل من الحفرة اختفى، وأنه بات عالقاً، أو أسيراً.

سكب الرمل على الحياة

الحياة في قعر الحفرة معركة مستمرة مع الرمال التي تنسكب من أعلى وتتناثر وتتكدس بحيث يكون لا بد من كنسها وجرفها وملئها في صفائح كي لا تٌغرق المنزل، حتى يأتي من يقوم برفعها ويأخذها بعيداً.
لا يتوقف الرمل عن الحركة والترسّب، وهذا يعني أن على الرجل والمرأة العمل ليل نهار في ملء السلال وتجهيزها كي لا يغرقا ببساطة في الرمال. وبذلك اكتشف بطل الحكاية بأنه بات مجرد حشرة تحت الرمل تماماً كالتي يجمعها. شهادة التأمين التي يمتلكها وكل الضرائب التي دفعها لم تجدِ نفعاً في هذا المكان المعزوّل المٌسير بقوانين جنونية. كما أن اختفاءه كما يبدو سرعان ما طواه النسيان.

«القرية تواصل البقاء لأننا لا نَكفّ عن إخلاء الرمل بهذه الطريقة، أما إذا توقفنا فإن الرمال ستدفنها خلال عشرة أيام». تقول المرأة ذلك رداً على تساؤلات الرجل الذي لم يفهم كيف لحياة أن تنقضي هكذا في إخلاء الرمل ليل نهار. ومع تقدم صفحات العمل يتلبس القارئ الغضب من سلوك المرأة الخانع تجاه حياة كهذه، بحيث لم تعط مرةً جواباً مُقنعاً يسوّغ بقائها.
يمتلئ فم القارئ طوال زمن قراءة الكتاب بالرمل، ويشعر بأن الرمل يحاصره ويغلفه تماماً كأبطال الرواية. لكن عمّا يدل الرمل هنا حقاً وإلى ماذا يرمز؟ هل هو الروتين؟ أم العبث، أم الأفعال الخالية من المعنى التي نغرق أنفسنا بها مقتنعين بأننا نفعل ذلك من أجل مكانٍ نحبه، أو من أجل أنفسنا؟

العالم السفلي والعالم العلوي

يكتشف نيكي جومباي سريعاً الطريقة التي تدار بها الأمور هنا؛ فهناك كما يبدو أناسٌ في الأعلى يفرضون القوانين على من في الأسفل، إلى حين؛ لا بد للناس العمل بما يشبه السخرة تحت المراقبة للاستمرار فقط في إزاحة الرمال. وأي توقف عن أداء المهام يترتب عليه منع الطعام والماء عنهم بحيث يكونون مخيرين بين الموت تحت الرمل، أو مواصلة العمل. وحينما يقترح الرجل أفكاراً أكثر جدوى لإزاحة الرمال كوضع السواتر مثلاً، تأتيه الإجابة، بأن الطريقة المعتمدة أقل تكلفة. كما لو أن أي حل واقعي مرفوض، لأنه ببساطة ينافي العبث.

انتصار العبث

تتردد كلمات المؤلف على لسان بطله الذي فطن فجأة للنظام الذي يسيّر الحياة في الحفرة «كان شيئاً مفارقاً تماماً للمعقول ومخيفاً للغاية». ترصد الرواية بعد ذلك محاولات بطلها للهرب بأساليب وحيل مختلفة، تفضي جميعها إلى طريقٍ مسدود. إثر كل محاولة هرب جديدة يأمل القارئ أن تنجح مساعي الرجل هذه المرّة، كما لو أن خلاص الرجل يعني خلاصه هو. وحينما يفطن إلى وضوح النهاية التي أكدت بأن الرجل لم يعد. تتحول أماني القارئ ليأمل بأن الرجل قد مات وهو يحاول الهرب، أو أنه ظل أسير عجزٍ عن الفرار بسبب إحكام القبضة عليه. كُنّا حينها سنكون أمام رواية تنتمي بصورة أو أخرى إلى أدب السجون. لكن «امرأة في الرمال» ليست من هذا النوع. سرعان ما يدرك القارئ الفكرة المُخيفة التي تحاول الرواية إيصالها. الرجل اعتاد العبث المحيط به حتى لم يعد يراه عبثياً، هو لم يفشل في الهرب، وإنما توقف عن المحاولة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1004
آخر تعديل على الإثنين, 08 شباط/فبراير 2021 00:10