محاولات لجعل التطبيع «أمراً طبيعياً»

محاولات لجعل التطبيع «أمراً طبيعياً»

اجتاحت موجة غضب جديدة مواقع التواصل الاجتماعي، كرد فعل على أغنية تحمل اسم «خذني زيارة على تل أبيب» كتبها الشاعر الإماراتي عبد الله المهري وأدّاها خالد العبدولي ويحيى المهري. والأغنية، كما يشي عنوانها، تحتفي بالتطبيع بين الإمارات والكيان الصهيوني. 

«أنا بدوي ونهجي رهيب، عاشت إمارات السلام» تتردد عبارات الأغنية مترافقة مع صور أحد المؤدين وهو يسكب القهوة المرة في إشارة مبتذلة للطبع المسالم المُرحب بالضيف. وتكمل الأغنية مستخدمة كلمات جزلة تعبر عن قيم العروبة والفروسية والسير على نهج الأجداد: «أنا مسالم بس دوم، متحزّم بأم الخشوم، ورثت من جدي العزوم».

وعلى اعتبار أن لا حاجة للتوقف أكثر عند تحليل كلمات الأغنية أو ألحانها يمكن الانتقال للتركيز على ردود الفعل التي لاقتها عند بثها على اليوتيوب. لأن مضمون تلك التعليقات يردّ على الادعاء السائد بأن «خطاب الممانعة مفروض من الأنظمة السياسية على الشعوب العربية». عادة ما تأتي تعليقات الناس على اليوتيوب من أناس ضجرين، يبحثون عن أغانٍ يسمعونها، ويكتبون تعليقاتهم وانطباعاتهم حولها دون رقابة، ودون أن يبغوا تسجيل موقفٍ. فتعليقات اليوتيوب كثيراً ما تكون تعبيراً شعبياً صرفاً عن توجه ما، وفي حالة أغنية «خذني زيارة على تل أبيب» جاءت الردود من العراق والمغرب ومصر وليبيا واليمن، لتهاجم الأغنية وتنتقدها وتسخر منها، وأبسط تلك التعليقات تلك التي اكتفت بقول: «عاشت فلسطين». وينبغي الإشارة هنا إلى أن هذه الأغنية لم تكن الأولى من نوعها، إذ سبقها عمل مشترك بين المغني الإماراتي ياسر حبيب و«الإسرائيلية» شهرزاد شادي حملت عنوان «عربي، عبري».

استماتة إعلامية
للتبيض والترقيع

يلحظ في الأيام القليلة الماضية كثافة في إنتاج الرسائل الإعلامية التي تحتفي بالتطبيع من الطرف الإماراتي، فنجد فيديو بثته قناة العين الإخبارية عن زيارة المصور الإماراتي عبد الله الجنيبي إلى فلسطين المحتلة، مع تعليق على الزيارة يقول: «إسرائيل أرض تدعو إلى التعايش لا تخطئها العين، تحمل على جناحيها راية الخير والأديان الإبراهيمية، فلا فرق بين إمام وقس وحاخام فجميعهم يصلون لله كلٌ بطريقته».

وبذلك، بدت بعض القنوات الإماراتية كما لو أنها أخذت على عاتقها إدارة مكتب العلاقات العامة للكيان الصهيوني، فهي تبرعت لتحسين صورته، ليس فقط فيما يتعلق بالتهليل لاتفاقية السلام وتسهيل قبولها على المستوى الشعبي، وإنما فيما يتعلق بتلميع صورة الكيان الصهيوني عموماً، ولذلك نرى التقارير الإخبارية تتغنى بجهود الكيان الصهيوني في دعم الانتقال الديمقراطي في السودان، أو تثني على التعاون المقبل بين البحرين وحكومة الاحتلال». فيما خصصت جريدة الاتحاد الإماراتية منتداها الخامس عشر لدفع كوادرها الصحفية لنقاش «الدور التاريخي للإمارات في نشر سياسة السلام»، وصولاً إلى موضوع الساعة المرتبط بمعاهدة السلام الأخيرة.

الرياضة
كجزء من التطبيع الثقافي

إلى جانب الأغاني والنشاط الصحفي المكثّف، طالت اتفاقات التطبيع الرياضة أيضاً، إذ وقعت رابطة المحترفين الإماراتية مذكرة تفاهم مع رابطة الدوري «الإسرائيلي» لكرة القدم، لاستثمار شعبية اللعبة بين البلدين، ووصف رئيس الرابطة عبد الله ناصر الجنيبي تلك الخطوة بقوله: «كرة القدم كانت دائماً السبيل الأهم والأسرع للتقارب بين الشعوب. وهذه أواصر التعاون التي نهدف إليها من خلال هذه المذكرة».

في الحقيقة، يمكن تماماً فهم سبب اختيار كرة القدم لتكون أولى المجالات التي تطالها عمليات التطبيع. فمن السهل استغلال حماس المشجعين، وهوسهم بمتابعة مباريات هذه اللعبة الأكثر شعبية «لتطبيع عملية التطبيع ذاتها مع الكيان الصهيوني»، فمشجعوا الرياضة سيجدون أنفسهم في صراعٍ حقيقي بين هواهم الرياضي ومواقفهم السياسية.

فك وتركيب كلمة تطبيع

أحياناً ما يفقد تكرار كلمة تطبيع معناها، فالمفيد هنا إعادة تفكيكها للقول بأنها تعني جعل أمر ما طبيعياً، لا يستلزم الوقوف عنده والتفكير فيه. وفي حالة التطبيع مع الاحتلال الصهيوني تحديداً، تعني أولاً: الاعتراف به ككيان موجود وشرعي، ومن ثم قبول التفاعل وبناء علاقات طبيعية معه. والتطبيع بهذا المعنى يستلزم العمل مدة طويلة على تغير القناعات والاتجاهات السائدة عبر رسائل إعلامية وثقافية مكثّفة. يستلزم التطبيع عادة درجةً من الذكاء، وهو الأمر الذي لا نجده– لحسن الحظ- مع الأعمال الفنية التي جاءت للاحتفاء بمعاهدة السلام والعلاقات الدبلوماسية الكاملة بين الإمارات والكيان الصهيوني، والتي خرجت هزيلة من حيث رسائلها ومستواها الفني. عموماً بدا الخطاب الإماراتي حتى الآن مفلساً، يردد أفكاراً لا يمكن حتى تصديقها، ويبرر سياساته بعبارات جاهزة ومكررة حول التآخي بين الشعوب، ونشر السلام، ويبني صورة عن الكيان الصهيوني لا يصدقها «الإسرائيليون» أنفسهم.

لكن، لا يهم الآن التوقف عند الخطاب الرسمي الإماراتي أو البحريني، بقدر الالتفات بصورة أكبر إلى الخطاب المضاد للتطبيع، وكشف مواطن الضعف فيه. فدونالد ترامب زفّ للشعب الأمريكي مؤخراً أخباراً سارة تتعلق بتحرك خمس دول عربية أخرى تجاه التطبيع مع الكيان الصهيوني، وأضاف: أن القائمة الفعلية قد تتضمن عشرة بلدان. أكد ترامب أيضاً: أن الاستخبارات «الإسرائيلية» تكثّف مفاوضاتها مع خمس دول عربية لإقناعها بالمضي قدماً في اتفاقيات التطبيع. أراد ترامب من تصريحاته تلك كسب نقاط إضافية أمام الأمريكيين، وإخبارهم بأنهم قريباً سيريحون رأسهم من ملفٍ شائك لطالما أقلق أماسيهم باختراقه نشرات أخبارهم. لكن سواء كانت تلك التصريحات حقيقية أو كاذبة، ما يهم حقاً هو: إدراك أن الحرب مع العدو الصهيوني تدخل الآن مرحلة جديدة، تحتاج فيها خطاباً جديداً ومحكماً ينادي بوقف التطبيع، ويبني خطابه ذاك على منطق عقلاني ذكي، يبتعد عن التباكي والعبارات الجاهزة. خاصةً وأن هناك أجيالاً عربية ناشئة تفقد أكثر فأكثر صلتها مع القضية الفلسطينية، ولا تنفك تردد بأنها لا تعلم شيئاً عن هذا الصراع، أو أسباب اعتباره «بوصلة» سياسية ووطنية. فالأجيال الجديدة تفتقد للذاكرة، كما أنها تشعر بصورة أو أخرى أنها دفعت أثماناً لمواقف لا تفهمها. ومن هذا المنطلق يجب على الخطاب الجديد أن يشرح لماذا تكون المقاومة مساراً يخرج من حاجات الناس وقناعاتهم، بدلاً من أن يكون مفروضاً عليهم.

معلومات إضافية

العدد رقم:
990