الحق في الضحك على «البلوى»

الحق في الضحك على «البلوى»

يضحك السوريون اليوم كثيراً، يضحكون بالدرجة نفسها التي يغضبون فيها، أو يضحكون ربما من شدة الغضب. فالأشهر القليلة الماضية بما حملته من تفاقم في الأزمات الاقتصادية والمعاشية حفّزت كما يبدو الرغبة باختلاق أكوامٍ جديدة من النكات التي يتم تداولها مشافهةً أو على مواقع التواصل الاجتماعية، للاحتجاج والسخرية من الحال التي وصل إليها الناس.

نكتة مركبة مثل: طابور

في الأسابيع القليلة الماضية كان للـ«طوابير» دور البطولة في الكثير من النكات التي صاغها الشارع، فالطابور في سورية بات أشبه بـ«نمط حياة» أو بيئة خاصة لها ديناميكيتها ونظمها والعلاقات التي تتفاعل ضمنها بحيث لا تشبه ما يحصل خارجها.
تكاد تنعدم اليوم النكتة البسيطة، فالنكت تكون مُركبة تلعب على مفارقة التقاطع بين أكثر من مصيبة وأزمة تحصل في ذات الوقت. ويمكن سوق الدعابة التالية التي تُعبر عن ذلك الإحساس أحسن تعبير:
«عم يقولوا أنو آخر واحد واقف ع طابور البنزين طلبوا منوا (100$) لحتى يفوتوه على سورية»، قد تكون هذه واحدة من أذكى النكت التي تم تداولها خلال الشهر المُنصرم في الشارع السوري، فهي تتخيل أن طول طابور البنزين سيستمر بالامتداد حتى يتجاوز حدود البلاد، بحيث يقع من يقف في مؤخرته في مصيبة مضاعفة؛ ويضطر لدفع تعرفة الدخول التي فُرضت بصورة غير شرعية إلى جانب هم الانتظار أعواماً حتى يستطيع المرء ملء سيارته بالوقود.
أوصلت أزمة البنزين الأخيرة طوابير السيارات إلى أطوال غير مسبوقة، لم تشهدها المدن السورية من قبل. بات البعض يجوبون شوارع العاصمة بحثاً عن طابورٍ بطولٍ منطقي يصطفون ضمنه، فيما يتسلون خلال رحلاتهم تلك بقياس أطوال الطوابير الملتوية المستمرة التي يعبرون بها، لانتخاب الأطول منها ليكون «ملك جمال الطوابير». وهذا ربما كان الدافع لانتشار الدعابة التي تنصح السائقين المنتظرين على كازية طابور الأزبكية بربط شرائط ملونة باللون الأخضر كي لا يختلطوا بطابور كازية الجد، الذي يستطيع وضع شرائط حمراء أو طابور كازية القصور بشرائطه الصفراء. في حين أخذت دعابة أخرى شكل إعلان يقول: «للبيع دور على الكازية، شارع بغداد، إطلالة على مخبز الفرح، بتبعد عن كازية الأزبكية شي 10000 متر، بدك شي ساعتين بتوصل، يوجد مطعم شاورما وسوبر ماركت قريب في حال حسيت بالجوع، للجادين فقط علّق بنقطة ليصلك السعر».

طابوران متوازيان لا يلتقيان

يرى السوريون حياتهم اليوم أشبه بطوابير متوازية لا تلتقي، فهم لا يكادون ينتهون من الوقوف في طابور الخبز حتى ينتقلوا إلى طابور السكر والرز، ومن ثم بعد استراحة قصيرة يبيتون الليل في طابور البنزين. يتساءلون في سرهم إن كان بالإمكان جمع تلك الطوابير في واحد فقط. لكنهم سرعان ما يفطنون إلى أن ذلك ربما حصل حقاً بصورةٍ أو أخرى؛ فحياتهم باتت أشبه بهذا الطابور الذي يمتد باختلاف الفصول والأماكن والمدن، وفعل الانتظار أيضاً هو ذاته باختلاف المادة أو الخدمة التي يطمح المرء للحصول عليها.
فكما يبدو كرّس السوريون في السنوات القليلة الماضية مئات الساعات في فعل انتظار شيء ما. ولهذا ربما ظهرت دعابة عن شخصٍ يقول بأن دموعه غالبته بعد أن وصل دوره لملء سيارته بالوقود، لكن تلك لم تكن دموع الفرح بانتهاء عبء الانتظار، وإنما حزناً لوداع رفاق الطابور الذي قضى معهم أجمل أيام حياته، لكنه ورغم حزنه موقنٌ أن طابوراً آخر في مكانٍ ما من المدينة سيجمعهم مرةً أخرى.

النكتة كتعبير عن الثقافة الشعبية

إذا ما أعاد المرء التفكير في بنية النكتة سيجد أنها تشتمل على ما يشبه التحليل البانورامي للموقف، وقد تتضمن أحياناً عرضاً للأسباب والنتائج التي فاقمت من سوء الظرف الذي تتم السخرية منه. النكتة أيضاً تضع الحد الفاصل بين الطبيعي، العادل، المنطقي، وبين الظالم والخارج عن الطبيعة.
في كتابه «الفكاهة والضحك» يشير المؤلف شاكر عبد الحميد إلى أن الفكاهة تصبح إحدى تعبيرات الثقافة الشعبية. وهذه الثقافة في رأي الفيلسوف والناقد الروسي ميخائيل باختين هي القناة الأساسية التي تعبر من خلالها الشعوب والجماعات عن نفسها. ولهذا يضيف المؤلف: «كل ما هو رسمي يجب أن يكون جاداً ولهذا فروح الضحك العابثة غير المقدسة وغير الجادة تبقى ملكاً للعامة والجماهير».
لكن اللافت في الفكاهة المنتشرة في الشارع السوري اليوم، أن الخطاب الجاد الرسمي والمتجهّم بات نفسه موضوعاً لسخريتها، فالجدية التي تقال بها أمورٌ لا يمكن تصديقها تجعل الكثيرين غير قادرين على التوقف عن الضحك. وخير مثالٍ على ذلك: تصريحات أحد الدعاة المتدينين الذي تحدث عن حالة الفرح والسرور التي تغلب على السوريين وهم ينتظرون في طابور البنزين، وكيف حولوا الانتظار إلى ما يشبه النزهة التي يتبادلون فيها الأطعمة والأحاديث.
وقد يكون من المفيد هنا، التوقف عند بعض الوظائف الاجتماعية والسياسية التي تقوم بها النكتة، وتحديداً فيما يتعلق بتعزيز التفاعل والتماسك الاجتماعي بين الأفراد في زمن الأزمات والتعبير عن الاتجاه العام نحو السلطة. بمعنى آخر؛ فالنكتة هنا أشبه بصياغة موقف جماعي واضح من هذه الأزمات، ومن الجهات المسببة لها أو التي تلعب دوراً في تفاقمها. كما أنها شكلٌ من أشكال التعبير الصحي عن الانقسام ضمن المجتمع؛ انقسامٌ بين السواد الأعظم من الناس الذين يصيغون النكات ويتبادلونها، ويضحكون عليها، وبين القلة القليلة موضوع هذه النكتة وهدفها. فالناس بصورة أو أخرى يدافعون، عبر إصرارهم على استمرار الضحك، عن بعضٍ من أبسط حقوقهم المتمثل في «الضحك على البلاوي».

معلومات إضافية

العدد رقم:
985
آخر تعديل على الإثنين, 28 أيلول/سبتمبر 2020 13:23