«فريلانسرز» دمشق  يجوبون العالم بحثاً عن مهن عابرة للقارات

«فريلانسرز» دمشق يجوبون العالم بحثاً عن مهن عابرة للقارات

تبدو أحياناً المهن العابرة للقارات أشبه بحكاية خرافية؛ أن يتم خلق تمثيلية كاملة عابرة للمحيطات من أجل توفير العمالة الرخيصة وكسب ود الزبائن. لكنه اليوم لم يعد مستغرباً، فالعالم يدير شؤونه رأساً على عقب، ويحك أذنه اليمنى بيده اليسرى.

في أحد المؤلفات التي عالجت قضية سوق العمل في هذا العصر، يسوق المؤلف مثالاً يشرح فيه درجة الاغتراب التي تحصل بين الشخص والعمل الذي يقوم به. يتحدث كيف أنه كثيراً ما يحصل أن يتم التعاقد مع موظفين من الهند أو دول آسيوية أخرى كي يعملوا في أقسام الاستعلامات، أو مراكز خدمة الزبائن في مدن، مثل نيويورك أو لندن مثلاً، دون أن يغادر هؤلاء مدنهم أو حتى بيوتهم في القسم الآخر من الكوكب. وعلى اعتبار أن مشاعر الزبائن مهمة ولا ينبغي إشعارهم بالغرابة، يتم تزويد الموظفين بمعلومات عامة حول الطقس أو أحداث وأنشطة ثقافية حصلت في تلك المدن. فحينما يُجيب الموظف من الهند على اتصالٍ جديد قد يعلق ضاحكاً على الازدحام المروري في أحد شوارع نيويورك، أو الضباب الكثيف الذي يجعل الرؤية صعبة في لندن.

«فريلانسرز» دمشق

اليوم، يعيش السوريون اغتراباً من نوعٍ مماثل، فقائمة المهن والوظائف التي امتهنوها عن بعد لا تكاد تعد أو تحصى، وتكمن في بعضها مفارقات مضحكة بصورة مؤلمة. فهناك من الشبان من يقوم بإدخال بيانات حول أنواع مختلفة من النبيذ الفرنسي، مرفقة بأسعارها وأوصاف لمذاقاتها، وأنواع العنب الذي قد صُنعت منه. أو قد ينفّذ خريج فنون جميلة مقيم في دمشق رسوماً توضيحية لمؤسسة تعمل مع اللاجئين في هولندا، سيتم استخدامها في دليل يشرح خطوات الحصول على الجنسية الهولندية، أو شهادة لقيادة السيارة. تحدثنا فتاة في (27) من عمرها عن مشاعر الغضب التي تنتابها في مهنتها، فهي تعمل من داخل دمشق في مكتب يشرف على سياسات تسويقية خاصة بوكلاء في دبي. تقول: «في الوقت الذي أعيش فيه في غرفة واحدة في ركن الدين، لا تتوفر فيها حتى مياه الشرب التي أحصل عليها من الجيران-حينما يقررون شطف الدرج ويملؤون لي بعض الأوعية من ماء الفيجة- أكتب في عملي إعلاناً عن أفخر الشقق التي يمكن شراؤها في دبي». وتضيف الفتاة قائلة إنّ أصعب تناقض عايشته كان حينما أُصيبت بفايروس كورونا، وكانت حتى عاجزة عن إيجاد أقراص فيتامين سي أو حبوب الزنك التي استبدلتها بالتهام كميات كبيرة من الفول السوداني، وكانت تكتب في ذلك الحين عن استجابة الإمارات العربية المتحدة لكوفيد 19، وكيف أن الإمارات ستكون في صدارة الدول التي استطاعت القضاء على الوباء، وتأمين أحسن خدمات الحجر الصحي والفحص المجاني. تقول الفتاة إنّها في ذلك الحين لم تجد المفارقة حتى مضحكة، ولم تستطع الشعور إلا بالغضب. وتضيف: «أشد ما يغضبني أنني أدرك تماماً كم الأرباح التي يجنيها مديري من الإعلانات والتقارير الدعائية التي أكتبها، تماماً كتلك المرة التي صغت فيها خبراً عن شركة خليجية كافأت موظف الشهر بإهدائه سيارة فاخرة تبلغ قيمتها آلاف الدولارات، وكنت أنا في ذات الشهر أعارك كي تتم زيادة راتبي بما يتوافق مع تضخم سعر الدولار، علماً أن راتبي حتى الآن لا يكاد يبلغ (70 دولاراً)».

اغتراب مضاعف

يكون العمل عادة، شكلاً من أشكال التفاعل مع البيئة المحيطة، أو أحد مظاهر تأثير المرء في المكان الذي يتحرك فيه. فالعمل بصورة أو أخرى شكلٌ من أشكال الموائمة بين ما يحتاجه المرء وما يحتاجه المكان.
في كتابه، نظام التفاهة يتحدث آلان دونو كيف ساهم تقسيم العمل في ظهور ما يسميه «الخبراء التافهين» الذين يجيدون تنفيذ مهمات محددة نافعة لإنتاج منتج نهائي لا أحد يعرف ما هو، وهو ما يبرر ظهور أناس يعملون على إنتاج وجبات الأطعمة على خطوط الإنتاج دون أن تكون لديهم أية معرفة عن الطبخ في منازلهم. وبالطبع يُذكّر دونو في كتابه بملاحظات ماركس حول الكيفية التي يختزل فيها رأس المال العمل إلى مجرد قوة عمل، بحيث تكون أجور العمال كافية فقط لإعادة إنتاج قوة عملهم. وبالتالي يفقد هؤلاء اهتمامهم بعملهم ويصبحون مغتربين عنه. كما أن الحرفة تُفقَد ويتحوّل العمل إلى مجرد أداء روتيني لخطوات محددة مسبقاً.
بصورة أو أخرى، يشبه الشباب من أصحاب الأعمال الحرة، هؤلاء العمال التي يصفهم دونو على خطوط إنتاج الوجبات الجاهزة، لكنهم بصورة أو أخرى أشد اغتراباً. فالاغتراب هنا لا يحصل فقط إزاء تجزيء العمل إلى مهمة محددة فاقدة للقيم، بل هناك أيضاً اغترابٌ جغرافي، وفقدان لمناخ العمل الجماعي أو الشعور بالتحالف والانتماء إلى جماعة واحدة من العاملين الذين توحدهم همومهم ومطالبهم إزاء رب عمل محدد.
في الوقت الذي لا تخفى فيه على أحد صعوبة الوضع الاقتصادي في الداخل السوري، ومعدلات البطالة والتضخم، وما يرافق ذلك كله من ارتفاع أسعار، يتحوّل هذا تحديداً إلى وسيلة ضغط على الشباب الذين لا يملكون سوى الموافقة على أي أجرٍ سيمنح لهم. واللافت في الأمر أن الجهات والأطراف التي تعبّر في كل مناسبة عن تعاطفها مع الوضع المأساوي الصعب الذي يعيشه السوريون تحت ثقل الأزمة الاقتصادية، هم تحديداً من قد يتحولون إلى ما يشبه السماسرة الذين يَعِدون الشركات في الخارج بأنهم قادرون على إيجاد من هو مستعد لأداء العمل بأقل كلفة ممكنة. أما الشباب السوريون فغارقون في مشكلات وأحلامٍ تخصهم؛ هم يفكرون في أحسن الطرق الممكنة لتأمين مستلزمات حياتهم، ويؤجلون إلى حينٍ أفكاراً يرغبون بتحقيقها، كتصميم كتيبات مصورة عن حياتهم في دمشق، أو صياغة إعلان مشوّق حول شقق سكنية جميلة بأسعار مُغرية في ركن الدين.

معلومات إضافية

العدد رقم:
984
آخر تعديل على الإثنين, 21 أيلول/سبتمبر 2020 14:31