صناعة الجنون: سوق العقاقير العقلية
محمد المعوش محمد المعوش

صناعة الجنون: سوق العقاقير العقلية

في المادتين السابقتين تتبعنا بعض المعطيات الاجتماعية المتعلقة بانعكاس أزمة المجتمع الرأسمالي، وانغلاق أفقه على المستويين الجسدي والعقلي، وتطور هذه المعطيات عبر العقود الماضية التي تلت اختلال التوازن العالمي لصالح قوى الرأسمالية، وفي سياق تعمق أزمة نمط الحياة الرأسمالي، ووصوله إلى حدوده التاريخية. أما في هذه المادة سنحاول ربط هذه المعطيات بجانب ربحي مباشر للرأسمالية، ألا وهو صناعة العقاقير «العقلية» عالمياً، والتي تشكّل توأم الاضطرابات، كوجهان لعملة واحدة.

توسع في مرحلة الأزمة

تشير الأرقام أن السوق العالمية للأدوية المضادة للاضطرابات العقلية والنفسية تقدّر بين 75 إلى 80 مليار دولار في العام 2018، مع تقديرات بتوسع سنوي 2,3%. وتتوزع هذه العقاقير إلى عدة أنواع كمضادات الذّهان والاكتئاب والقلق واضطرابات النوم والمنشطات الذهنية... قدرت مثلا الحصة العالميّة للعقاقير المضادة للذّهان (الفصام...) وحدها بـ15 مليار دولار في العام 2019، مع توسع سنوي يقدر بـ 4%. وتحصد الولايات المتحدة الأمريكية وحدها بين 50% إلى 60% من نسبة استهلاك تلك العقاقير، وتقدر قيمة سوق هذا النوع من الأدوية فيها بـ 9 مليارات دولار في العام 2018. وتقدر أيضاً سوق العقاقير المضادة للاكتئاب عالمياً بحوالي 14 مليار دولار، ومتوقع أن تصل إلى حوالي 16 ملياراً في العام 2023، مسجلة توسعاً سنوياً بحوالي 2,1% بين 2017 و2023. حيث اعتبرت بعض التقارير أن هذا التوسع مدفوع بشكل أساس فيه بظهور وباء كوفيد-19 والنتائج التي تركها على نمط الحياة عبر تقليص النشاط البشري على الكوكب (حركة السفر، الترفيه، العمل والإنتاج...)، وقد قدّر: تقرير السوق العالمية لمضادات الاكتئاب 2020-2030: تأثيرات كوفيد-19 والنمو أن قيمة هذه السوق تساوي حوالي 28 مليار دولار في العام 2020، وبتوسع سنوي تم تقديره بـ7% خلال الأعوام 2020-2023.

الشركات الدوائية الكبرى: معاداة الصحة الجسدية- العقلية

تقدر أرباح 35 أضخم شركة أدوية عالمية المنتجة لمختلف أنواع الأدوية (التي لا تتعلق فقط بالعقاقير العقلية- النفسية) بـ11,5 ترليون دولار سنوياً! ومن الشركات التي تقف خلف العقاقير العقلية- النفسية (غالباً يكون هذا النوع من الإنتاج مشتركاً بين عدة شركات دوائية) هناك: جونوسن أند جونوسن، تاكيدا،ألكيرمس، نوفارتيس، بفايزر(منتجة العقار المعروف بروزاك، والعقار زولوفت)، وإيلي ليلليي التي تعتبر الرائدة عالمياً اليوم في إنتاج العقاقير العقلية.
وبين الصناعة الدوائية العقلية والاضطرابات العقلية- النفسية هناك علاقة تبادل باتجاهين، الأول تعزيز هذه الشركات للتصنيف السائد لهذه الاضطرابات، اعتماداً على التوصيف الكيميائي الدماغي البحت، مما يثبت ضرورة العلاج العقاقيري، والاتجاه الثاني هو تعزيز هذه الاضطرابات عبر هذه العقاقير بالذات التي تساهم في تثبيت وتطوير الاضطراب، فتكتمل الدائرة المجنونة بغاية الربح.

ملامح اتجاه متمايز

لطالما رفض الاتجاه الثوري العلمي هذا التصنيف للاضطراب العقلي- النفسي، الذي يختزل الإنسان إلى مجموعة من التفاعلات البيوكيميائية، دون الالتفات إلى جوهر الأزمة الإنساني- الاجتماعي وتداعياتها على العقل والجسد. واليوم، هناك نشاط عالمي لحركة مناهضة للتصنيف الكيميائي البحت والمنطق العقاقيري. وبمعزل عن خلفية الأطراف وخلاصاتها السياسية، فإن لجنة المواطنين لحقوق الإنسان: هيئة مراقبة الصحة العقلية (مركزها الولايات المتحدة)، توصّف هذه السوق بـ«صناعة الموت». هذه اللجنة تركز نشاطها حول «نشر المعلومات الخاصة بهذه الصناعة التي تفوق قيمتها المليارات» وتحاول الإضاءة على قضايا كـ: «هل يعلم المستهلكون مخاطر هذ العقاقير، وقيمتها العلاجية، والخيارات البديلة عن العقاقير..» وتنشر منصة اللجنة على الشبكة تقارير عن عاملين في الميدان يعارضون الرأي القائل بأن السبب الجذري لهذه الاضطرابات هو اضطراب كيمياء الدماغ. بل يعتبرون أن هذا الموقف جرى تسويقه عالمياً عبر القنوات الأكاديمية والعلمية والدعائية في تواطؤ بين الممارسين والمنتجين والحلقات العلمية الأكاديمية ومنصات الدعاية السوقية.
حيث شددت تقارير أخرى على غياب أي دليل علمي حول قدرة هذه الأدوية على العلاج، حيث اعتبر البعض مثلا: أن الأدوية المضادة للاكتئاب لا تتقدم كثيراً على عقارات الإيهام النفسي (placebo)، بينما الأدوية الذهنية بدورها تؤدي إلى تلف في مختلف الوظائف الدماغية والجسدية، وتجعل الوظائف العقلية اليومية غير سوية وتعطل النظام العقلي، وتدفع بدورها إلى دور أعلى من الاضطراب مع الوقت.
وفي تقرير للغارديان بعنوان «هناك سبب يصف الأطباء العقليون العقاقير بدل العلاج بالكلام: لأن الأخير لا يدر الأرباح لشركات الأدوية»، وبمعزل عن رأي الكاتب بالبديل عن العقاقير، إلّا أنه يعتبر أنه على الرغم من توسع استهلاك العقاقير، لم تنقص حالات الاضطراب. فالبروزاك الذي يستهلكه 11% من سكان أمريكا لم يؤثّر، كما استهلاك الكزاناكس «الذي يدر أرباحا أكثر من المنظفات ماركة تايد». واعتبر التقرير أن هذا التعويم لهذه العلاجات قائم على قيادة قوانين السوق للسياسات الصحية. وأشار إلى قضايا قانونية واجهت 30 نوعاً من العقاقير العقلية- النفسية على امتداد السنوات، والتي يُعتّم عليها. كما أن الشركات المنتجة للعقاقير المضادة للذهان واجهت دعاوى عديدة حول قضايا احتيال صحي، بسبب دفع رشاوى للأطباء العقليين ومنصات المقالات العلمية، ومنصات إعلامية من أجل تحسين صورة الأدوية العقلية وتأكيد ضرورتها، حيث أن مضمون هذه المنشورات والآراء كانت قد صاغته الشركات المنتجة نفسها.

مراجع عالمية «متواطئة»

يعتبر الدليل التشخيصي والإحصائي للإضطرابات الذهنية (DSM) الصادر عن الجمعية الأمريكية للطب النفسي (APA)، والذي يخضع للتحديث بشكل دوري (لدينا الآن النسخة الخامسة منه 5-DSM) وفيه حوالي الألف صفحة من أنواع الاضطرابات، وهناك أيضا الدليل الصادر عن منظمة الصحة العالمية: التصنيف العالمي للأمراض(ICD)- قسم الأمراض العقلية، اللذان يعتبران كمرجع لتحديد الجنون من السواء، وكقاعدة للحكم في قضايا الوراثة ورعاية الأطفال، والحسم في القضايا القانونية المختلفة... والذي صنفه العديد من النفسانيين والعاملين في المجال أنهما يقومان على قاعدة علمية «سطحية». وفيهما نجد مثلا «اضطراب الخجل»، والأشخاص الذين يفتقدون للصبر يصنفون كأصحاب» اضطراب نقص الانتباه»، و اضطراب «خسارة شخص محب» و«الحنين للوطن والأسرة» و«الشك»... وبسبب التصنيفات المختلفة يعتبر البعض أنه من المستحيل اليوم أن يزور أحد معالجاً نفسياً دون أن يصنف بوجود اضطراب عقلي لديه! ولهذه كلها يتم غالباً وصف علاجات عقاقيرية مختلفة لها بالتلاؤم مع القاعدة العلمية للخط «العقاقيري» كالبروزاك الذي اعتبر في الثمانينات «العقار العجيب» استناداً إلى توصيف 3-DSM القائل باضطراب كيمياء الدماغ.

توسيع للسوق بالقوة

يعتبر روبرت نيكل، وهو باحث في مجال الطب العقلي، كناقد للاعتماد المتزايد عالمياً على العقاقير، عبر منصة: ماد في أمريكا، وشعارها «العلوم، الطب النفسي، والعدالة الاجتماعية» تناهض الاتجاه العقاقيري وتعتبره فشلا في مجال الصحة، ويجب استبداله باتجاه إنساني ويعمل على المدى الطويل، يعتبر أن هناك اتجاهاً عالمياً مدعوماً من منظمات أكاديمية وعلمية وصحية من أجل إرساء الاتجاه العقاقيري، وخصوصاً في الدول الطرفية النامية، كما في دول المركز، حيث إنه اليوم في الولايات المتحدة هناك طفل من أصل 20 يتم وصف العقاقير العقلية- النفسية له! حيث أكدت مجلة لانست الطبية (Lancet) هذا التوسع، كما ثبَّتت فشله على المستوى الصحي، كنوع من فرض للسياسات الصحية الغربية على العالم في المجال النفسي عبر ما سمي بـ«ردم الفجوة بين نسبة من يعاني ونسبة من يتعاطى العقاقير»!
كما يقول ماركس إن الرأسمالي يبيعك الحبل الذي ستشنقه به، وقانون العبودية للربح يسري على كل الظواهر، لنحصل في النهاية على نظام مجنون يسير بالبشرية نحو الفناء.

معلومات إضافية

العدد رقم:
984
آخر تعديل على الإثنين, 21 أيلول/سبتمبر 2020 14:29