البزورية: حريقٌ يلتهم الذاكرة والحلوى والمكسرات!
حريق جديد يترك الأحراش والجبال، ويتسلل هذه المرة إلى قلب دمشق القديمة في سوق البزورية، مشعلاً بدوره مزيداً من الحنق والغضب لدى شرائح واسعة من المجتمع السوري.
إذا ما نظر شخصٌ من بعيد لكمّ التفاعل مع أخبار الحريق قد يتهم الناس بالجنون، وربما يتسائل: «ألا تكفيهم مصائبهم وصعوباتهم اليومية حتى ينشغلوا الآن بأخبارٍ من هذا النوع؟». لكن الحقيقة أن فهم الاهتمام الشعبي بهذا السوق يستلزم منا نظرة إلى الوراء.
خصوصية السوق الثقافية
البزورية، شارعٌ كثيفٌ بكل المعاني، فإلى جانب ازداحمه بمحلات العطارة والبهارات والحلويات، هناك أيضاً كثافة تتعلق بغنى المباني التاريخية والأثرية التي يحتويها. ولكل بناء من تلك الأبنية مزاجٌ خاصٌ به وهوية متفرّدة، بحيث لا يمكن التصديق بأن هذا الكم من التنوّع يمكن أن يجتمع في بقعة ضيقة مثل هذه. فهناك بداية البناء الجميل لقصر العظم، وما يحتويه من قاعات وحدائق ومتحف للتقاليد الشعبية. لكن تماثيل المتحف التي تصوّر بعض المشاهد من حياة حرفيي دمشق وسكانها قد لا تترك في نفس من يشاهدها التأثير الأعمق، فالسحر يرجع أولاً وأخيراً إلى الجمال الآسر لعمارة المبنى، الذي احتضن على مرِّ الزمن أنشطة ومعارض وحفلات موسيقية. كما لو أن القصر أعلن بذلك نفسه كمكان بديل للنشاط الثقافي، بعيداً عن منطق القاعات الرسمية والمسارح المُغلقة.
بعد الخروج من القصر والمشي عدة خطوات، يصل المرء إلى بوابة خان أسعد باشا، تستقبله قباب الخان وحجراته. أشد ما يلفت انتباه المرء لحظة دخوله، السكينة الصامتة التي تلف المكان، كأن الصوت لا يستطيع أن يعبر البوابة إلى الداخل. وحده صوت ترقرق الماء النازل من نوافير البحيرة الضخمة في البهو، يعكر هذا الصمت، ويبدو أشبه بوشوشة خفيضة محببة. تستطيع خصوصية الخان نقل الزوّار إلى أزمان قصية، كان يأتي إليها التجّار من بلدان ومدن بعيدة، إلى دمشق، لشراء السلع والحاجيات، فيربطون أحصنتهم وبغالهم في الخارج ويستأجرون غرفة كي يببتوا فيها ليلة أو أكثر. يمكن للمرء إذا ما دخل إلى إحدى حجرات الخان أن يتخيّل نفسه تاجراً من زمنٍ آخر أيقظه ضجيج السوق، فاسترق النظر من شباكٍ صغير كي يصدّق حقاً أنه في مدينة ساحرة حية كدمشق.
أما بين الخان والقصر، فيستطيع العابر أن يدخل إلى حمام نور الدين الشهيد، بحيث يتوغّل شيئاَ فشيئاً في البخار منتقلاً من البراني إلى الوسطاني فالجواني. وعندما يخرج من الحمام يستقبله خليط روائح آسرٍ معقد من ألف نوع وصنف. فرائحة السوق مركبة مثله، لا يمكن وصفها، يمكن فقط اشتمامها، ومحاولة حفظها في الذاكرة أطول وقت ممكن.
الجامع الحقيقي بين كل مباني ومحال السوق، أنها شرّعت أبوابها دائماً في وجه الجميع، فحتى بعض تجار السوق اعتادوا أن يوزّعوا أصنافاً من الحلوى مجاناً للعابرين ويودعونهم بسيلٍ لا ينقطع من الأدعية. ولهذا كان السوق ربما ملاذاً يهرب إليه الناس بحثاً عن السكينة والسلوى.
استهداف السوق على عدة مستويات
في عام 2013 تداولت وسائل الإعلام خبراً حول تفجير جديد في دمشق، تبنته ألوية أحفاد الرسول، استهدف سوق البزورية بالقرب من جامع الحبوبي وخلّف وراءه سبعة شهداء مدنيين من بينهم طفلان، إلى جانب أضرار في عدد من المحلات التجارية في السوق.
والحقيقة، إن التفجير الذي هزّ الرأي العام حينها لم يكن جديداً، فالطريق إلى البزورية محفورٌ من كل حدبٍ وصوب بآثار القذائف التي سقطت في محيط دمشق القديمة خلال سنوات الحرب. على الرغم من أن هذه المنطقة مسجلة منذ عام 1979على لائحة التراث العالمي لمنظمة اليونيسكو.
بعد القذائف، جاءت النار، حينما تسللت مجموعة حرائق إلى أسواق العصرونية والبزورية آخرها: الذي نال قبل أسبوع من خان «الصّوافية»، حينما طالت النيران سبعة مستودعات للمواد الغذائية والزيوت والإكسسوارات.
ومثل أي حدث آخر تتلقفه وتتجاذبه التيارات السياسية المتصارعة، بدأت التحليلات التي تتهم وتفسّر مبررات إندلاع الحريق. وبالنظر إلى غياب إمكانية تصديق أية رواية واضحة، يكفي نقاش التفسير البسيط القائل، بأن الحريق وقع نتيجة إهمال، كما لو أن هامش الإهمال والصدف مبررٌ فيما يتعلق بإرث ثقافي كالسوّق.
في الحقيقة، لا يمكن بالطبع تجاهل موجة الحرّ الحالية التي شكلت دائماً موسماً ملائماً للحرائق والأعطال الكهربائية، أو طبيعة السلع القابلة للاشتعال التي يتضمنها السوق. لكن هذا بالتحديد ما يجعل خبر الحريق مثيراً للغضب. كيف تفهم الجهات المعنية حقاً معنى عبارة حماية الأماكن التاريخية؟ إن كانت أخطاء مثل هذه متكررة الحصول، كماس كهربائي يشعل ما حوله، تتبعه صدمة جديدة بعد التأكد مرة أخرى بأن هذه السلع اشتعلت مجدداً.
الحقيقة، أن سوق البزورية، يتعرض منذ اندلاع الحرب السورية إلى أشكال مختلفة من الأذيّة، أبرزها وأشدها وضوحاً: الحرائق والتفجيرات والقذائف، لكن هناك أيضاً أذى مستمر ومبطن قلّما يتم الحديث عنه.
فعلى سبيل المثال: افتتحت منذ عدة أعوام مقهى ضمن خان أسعد باشا بكراسٍ وطاولات بلاستيكية قبيحة لا تتلائم بتاتاً مع الهوية الأثرية والمعمارية للمكان. وبخلاف العرف السائد في المقاهي والمقاصف التابعة للمؤسسات الثقافية والأثرية، تعتبر تكلفة الجلوس في هذه المقهى وتناول بعض المشروبات مرتفعةً جداً، كما لو أنها محاولات خجولة لقياس رد فعل الناس تجاه خصخصة الأماكن الثقافية.
هوية السوق مستهدفة أيضاً، حينما تتحوّل السلع التي لطاما كانت متاحة لجميع طبقات المجتمع السوري إلى حلمٍ مرتفع الكلفة. ففي الأشهر القليلة الماضية، تداول بعض الناشطين صوراً من السوق تظهر غياب الطوابير والازدحام المعتاد لشراء الزعتر الفلسطيني من محلٍ شهيرٍ كالعرجاوي مثلاً. حيث اعتبر الكثيرون أن ذلك مؤشرٌ خطير إلى المدى الذي وصل إليه ارتفاع أسعار المواد الغذائية، بحيث تتحول مادة أساسية، رخيصة، مثل: الزعتر، إلى ترفٍ لا يمكن نيله.
كل ذلك يهدد السوق حقاً.. يهدد هويته والمكانة التي يحملها في قلوب السوريين، خاصة وأنه ليس شارعاً تراثياً منسياً يرتاده السياح فقط، بل هو شارعٌ حي يتبدّل بتبدّل الأزمنة والسنوات والفصول. ويحكي كل مرة بطريقته حال المدينة التي تُسمّى.. دمشق.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 977