الإبداع السياسي: بين نبذ التناقض وتبنّيه..
محمد المعوش محمد المعوش

الإبداع السياسي: بين نبذ التناقض وتبنّيه..

يقف العقلُ في مواجهة عالمٍ ازداد تعقيداً في العقود الماضية، وسيل الأزمة الجارف يفرض شروطه على صاحب العقل، وحدوده المادية الممارسية، فتفيض على ضفاف السّيل دماء المرحلة وآلامها، وتنوجد معادلة قاتلة أمام العقل الحيّ الذي لم تهدمه سنون المرحلة الـلاإنسانية الليبرالية السّابقة، لكي يخلق لنفسه هوامش المناورة والإبداع اللازمة لتحويل مسار السيل، وتضييق جوانبه، وتجفيفه. وفي قوة وتضارب تيارات هذا السيل، تكمن قوة إبداع هذا العقل وطموحه للنجاة وخلق الجديد، وأحد هذه التيارات: هو تعميم ملامح فكر ميّت على عقول الملايين.

الإبداع بين تعقيد المرحلة وترِكة الليبرالية

في مواجهة الواقع، وفي سياق عملية التغيير السياسي، تواجهنا اليوم مصاعب متنوعة. من المصاعب ما هي نابعة من الخصائص النوعية للأزمة، كأزمة عميقة وشاملة، ونهائية للنموذج الرأسمالي، كتسارعها الكبير، وانهياراتها التي تغطي المستويات كلها. تعقيد الصراع، وما يتركه ذلك من كوارث معيشية وتعقيد عالٍ لشروط ممارسة التغيير، ومنها ما هي نابعة من تركة المرحلة الليبرالية طوال العقود الماضية من تيارات فكرية وتسطيح عال، وهشاشة نفسية نابعة من الفردانية المتضخمة. أنشأ كل هذا توليفة مطلوب تفكيكها كلّما سرنا خطوات إلى الأمام. مرحلة تحتاج أكثر من أية مرحلة سابقة إلى الإبداع السياسي في تناسب تعقيد الظاهرة مع الحاجة إلى الإبداع.

الإبداع بين الجدل والميكانيك

لا يعيش المنتمون إلى خط التغيير(تنظيمياً)، كما الموجودين خارجه، خارج الفكر المهيمن الذي فرضته القوى المسيطرة طوال العقود الماضية. وهذا الفكر يمتاز أكثر ما يمتاز بأنه لا يجمع فقط في مضمونه كل ملامح الفكر السياسي البورجوازي، والبورجوازي الصغير، الفوضوي والمراهق- الصبياني، بل يتوسع إلى أبعد من ذلك لكي يصير فكراً ذاتياً بالمعنى الذي قدّمته الفلسفة الذاتية المثالية لناحية أن كل فرد مفكر يملك نظرته الخاصة عن العالم لإنتاج عالمه الخاص، وكل فرد عالم بذاته. تترافق عدمية هذا الطرح مع تعميم فكر تبسيطي وتسطيحي، وضخٌّ تضليلي، مارس سياسية الأرض المحروقة على المستوى الفكري. ممارسة للإبادة الفكرية. لنتذكر الحلول التي كان ينوي ممارستها الفاشيون في بلاد العالم ومارسوها فعلاً، حرب إبادة فعلية للبشرية. فالإمبريالية كانت تدري أن البشرية يجب أن تفقد مرجعيتها الفكرية تحضيراً للهيمنة المطلقة. ولأن البشرية تعرضت فكرياً لهكذا مسار، تمّ سلب القوى الاجتماعية سلاحها الفكري الأمضى: الفكر الجدلي المادي وتراثه التاريخي. وأكثر ما نرى ذلك في ملامح التنظيمات السياسية التغييرية التي ما زالت الأزمة تباغتها بالضربات، وهنا يبدو أنه لن تكتب النجاة لغالبية هذه القوى. فهي غير مسلحة فكرياً بالمنهج، أو كما يسميه لينين: روح الماركسية الحي، جوهرها الكاشف للعلاقات من موقع وعي التناقض. فوقعت تلك القوى البشرية والسياسية في هوّة الميكانيك الميّت. لن يقدر الفكر الميّت القبض على واقع حي، ومعقد، وجديد، فهو يفتقر إلى المكون الإبداعي: وعي التناقض. التناقض الجديد، والتناقض الخالق لكل ظواهر الصراع. ومن يرمي التناقض المادي، يرمي على قارعة التاريخ القوة الخالقة للجديد، ويفقد بذلك قدراته الإبداعية.

نابذو التناقض ضد التجريد

يمكن أن نطلق على هذا العقل: عقل نابذ للتناقض. لا هو قادر على فهم القانون الصراعي الذي يحكم المرحلة، ولا يزال لم يفهم الانقسام العالمي، ومحركه، فوقع في فخ التبسيط، وخسر لذلك ليس فقط مبادرته السياسية، التي هي مبادرة أممية بمعناها التاريخي الواسع، بل خسر أيضاً أمله، وصار مهزوماً داخلياً، وهوى بين خنادق الفكر اليومي.
لقد قدّم لنا الفكر الماركسي ملامح القوى في حركة الواقع المادي، وربطها بالتناقض كقوة محركة. والعقل الإنساني هو ذاته مبني على وعي التناقض. فالقدرة على تجريد حتى أبسط ظواهر الواقع، وإنتاج مفاهيمها، التعامل مع حركة الجسد وعلاقتها بالأجسام، تنبني على التقاط التناقض فيها، فيتم الوصول إلى جوهرها الداخلي. هكذا قال الأولون في علوم الفكر والأعصاب والدماغ والتعليم، وعلاقة المتعضيات بالمحيط من أصحاب الفكر المادي، والماركسي تحديداً. ذكر أهمهم سابما، تلميذ السوفييتي عالم النفس- عصبي لوريا: أوليغ تيخوميروف، ومعاصره العالم السوفييتي: فاسيلي دافيدوف، الذي قدّم لاحقاً طروحات مهمة في مسائل التفكير والتعليم. مفهوم التناقض، ليس إذاً مقولة فلسفية “فوقية” فقط، إنه جوهر الحركة وتقدمها، وعليها أن تكون أداة بيد الفكر. كيف بفكر حي أن ينبذ التناقض؟ فيفقد قدرته على سبر الواقع.

تقديم التناقض إلى الواجهة

على الرغم من التشديد على أهميته تاريخياً، إلّا أن تقديم التناقض إلى الواجهة اليوم يكتسي أهمية كبيرة، لا كمفهوم فقط، بل تقديم روح التناقض، ودوره، ربطاً بمقولة أخرى هي شمولية العالم، ووحدته.
لا تنبع الأهمية فقط من ضرب التيارات الفكرية المعادية، بل لإنتاج القاعدة الضرورية لإنتاج الجديد. وهذا له أهمية تربوية سياسية ومعرفية فكرية في ممارسة التغيير، جماهيرياً وبناء الكادر البشري الطليعي. فرفض العفوية في الممارسة، يتطلب أيضاً رفض العفوية في بناء القوى البشرية، في ظرف معقد كما نحن فيه اليوم.
إن تسليح الفكر اليوم، من قلب أطر قوى التغيير، وصولاً إلى تسليح القوى الشعبية، يتطلب تمكينها على هذا الجانب التحتي من إنتاج الفكر، لا على مستوى المنتج النهائي فقط.
إنّ عقوداً من الحرب على الوعي، تتطلب التحضير لإعادة بنائه في المرحلة الانتقالية، التي تعبر فيها البشرية. والمقصود مجدداً، هو التركيز عليه وإبرازه كقاعدة لإنتاج المنتج الفكري وخلاصاته. وهذا كفيل ربما بتوسيع هوامش حركة الفكر في السيل المدوّي، لكي يتحول السيل إلى نقيضه، فالحي يكمن في قلب القديم وتناقضه، فكيف إذا كان القديم في قمة تناقضه.

معلومات إضافية

العدد رقم:
977
آخر تعديل على الإثنين, 03 آب/أغسطس 2020 15:07