حول ردّات فعل “اشتراكية”
محمد المعوش محمد المعوش

حول ردّات فعل “اشتراكية”

منذ بداية أزمة الكورونا عالمياً، ونحن نشهد تعطُّلاً لنمط الحياة الذي ساد طوال العقود الماضية. هذا النمط الذي يعود تبلوره إلى النصف الثاني من القرن الماضي. مستوى التعطّل هذا هو نقطة متقدمة من الأزمة التي بدأت تطبع نمط الحياة الليبرالي منذ ما قبل الأزمة الرأسمالية في الـ2008. فاختناق النشاط عمليا، النشاط الذي كان الهامش الوهمي لتحقيق السردية الليبرالية عن تحقيق الذات والسعادة (الاستهلاكية) واحتمالات التقدم ضمن نمط الحياة المتاح وعاداته وقيمه وسلوكياته السائدة والمعممة، أنتج هذا الاختناق، اختناقاً في الوعي، هو الوعي الليبرالي. هذه العلاقة الجديدة مع العالم أنتجت موقع نظر نقدي للفكر تجاه واقعه الذي كان سابقاً متماًهيا معه.

الموقع النقدي كمدخل الطرح النقيض

هذا الموقع الجديد للفكر هو الذي يسمح اليوم ليس فقط بنقاش مصير العالم والبشرية، بل يهدم القاعدة الفكرية التي أعمت الوعي وأغرته طوال عقود عن أسئلة أزمة مصيره واغترابه، أي موقفه الشامل من نمط حياته وأهدافها، ومعاني هذا النمط. فكل المواد التي يمكن لأية قوى ثورية أن تقدمها لطرح مسألة الاغتراب لم تكن قادرة على التأثير الجماعي، كما يفعل اليوم تعطّل نمط الحياة المادي الذي شكل القاعدة المادية لبنية الاغتراب المعنوي. فالفكر الذي لم يكن قادراً على أن يُطلّ إلى عالمه الداخلي، بفعلِ جذب الخارج له عبر احتمالات الإشباع الوهمية، لن يقدر على الاعتراف بعدم الرضا الذي يعانيه جرّاء هذا النمط الذي أُغرِق المجتمع به، وسحب الإنسان إلى أوهامه، عبر ما سمّي بـ”فائض السعادة”. أما اليوم، فاحتمالات الخارج قد تعطلت، والسؤال الذي برز صادماً: النمط المعتاد قد تعطَّل(لدى الغالبية المطلقة)، وأي نمط جديد سيحوينا؟ أي سردية جديدة يجب أن نتبنى؟ فالإنسان بلا سردية ولا معانٍ هادفة وجودية، هو الموت بعينه. هذا مع الاعتبار أن قسماً لا يزال يعتقد أن ما نمرّ به هو مرحلة مؤقتة، ومن بعدها سنعود إلى ما سبق من نمط حياة علّنا نجد ضالتنا في الحياة!

الردّة إلى “البساطة”!

من بين الطروحات التي راجت في هذا السياق هو ضرورة العودة إلى حياة البساطة، والطبيعة. ماذا يعني هذا بمعناه التاريخي؟ هذا تعبير عن طرح “الأصولية”، ضد أمراض الاستهلاك و”العصرنة الغربية”. هو إذاً، على الرغم مما يحمله من ملامح تقدمية فيما يخص الإنتاج الزراعي وأهمية العلاقة مع الأرض، والإبتعاد عن مظاهر الاستهلاك، إلا أن هذا الطرح في جوهره يشكل خطاً رجعياً تاريخياً. فما يجب أن يخرج من جثة هذا النمط المتعطّل المأزوم هو عالم جديد، لا يلغي الحاجات التي تطورت خلال المرحلة التاريخية الليبرالية، ولا يطرح التعفّف، بل يطرح الإجابة الصحيحة لتحقيق هذه الحاجات. وهذا التنازل عن طرح عالم جديد، في مقابل المطالبة بالعودة إلى “عالم سابق”، التي بدأت تتعاظم في الإعلام السائد نفسه، ولدى قطاعات من القوى الشعبية، هو تعبير عن قصر نظر تاريخي سياسي.

تأثير الاغتراب على قوى التغيير

هذا الطرح “الأصولي” الرومانسي مدعوم من ملامح الاغتراب التي تعاني منها أغلب قوى التغيير نفسها، والتي كانت نفسها إلى حد البارحة لم تقل كلمة واحدة عن أزمة نمط الحياة الليبرالي، ولم تنطق بكلمة عن الحاجات المعنوية وأزمتها. وبالتالي عدم الكلام عن الاغتراب هو تأثير الاغتراب بعينه.
وهذا ما يجعل هذه القوى اليوم غير قادرة على تقديم تصورها عن العالم الجديد، ما هو تنظيمه؟ وكيف سيحقق الحاجات المعنوية والبحث الإنساني عن مبرر الوجود؟ ذلك الذي كثّفه “مكسيم غوركي” بسؤال “لماذا نعيش؟”. هذه الحاجات وهذا السعي اللذان كانا يصطدمان مسبقاً، ولا زالا، بالعلاقات الرأسمالية التغريبية.
إذاً، فإن هذا التأثير لم تسلم منه حتى هذه القوى، وهذا مفهوم ولا شك، فالإنسان مهما ارتفع في وعيه فوق العلاقات الاجتماعية، سيبقى هو نتاج لها، على حد تعبير ماركس. فالكتلة الاجتماعية الأكبر ولا شك لم تكن لحد الأمس القريب بقادرة على التحرر من أوهام نمط الحياة الليبرالي. فالقوى “الثورية” عالميا كانت لا زالت تستحي من كلمة الاشتراكية، فما بالكم كان موقفها من قضية الاغتراب؟ لم تكن في واردها أساساً. ولهذا يمكن لنا اليوم أن نعتبر أن الفضاء الجديد الذي بدأ بالتشكل خلال الـ10 سنوات الماضية، يشهد نقلة واتساعاً نوعيين أمام طرح سؤال نمط الحياة على جدول الأعمال.

اشتراكية دون مضمون!

هذا الانفصال لدى أغلب القوى الثورية بين: وعي التناقضات في نمط الحياة التي ولدها العصر الليبرالي وبلورتها في طرحها وخطابها، وبين طرح شعار الاشتراكية، يجعل هذا الشعار منتقصاً من مضمونه الثوري التاريخي الجديد. فالاشتراكية التي يجب أن تطرح هي بداية التأسيس لنمط حياة جديد قادر على تحقيق الحاجات المادية والمعنوية- الروحية للإنسان. وهذا يعني أن الاشتراكية المطروحة حسب القوى: هي اشتراكية غير تاريخية، وبالتالي دون مضمون ملموس، إن لم تكن استجابة عن التناقضات الشاملة التي يعاني منها الواقع الذي نرثه اليوم، جراء عقود من تطوره في سياقات الليبرالية.

مجدداً

من الضروري المرور السريع على هذا الانفصام، الذي نلمسه لدى غالبية قوى التغيير، بين ما يمكن أن نسميه: ردات فعل “اشتراكية” لا أكثر، وبين وعي أزمة نمط الحياة الذي تعطّل راهناً. ما يجعل برامجها وممارستها ليس على مستوى المرحلة، وخارج التأثير المطلوب فيها. التوزيع العادل للإدارة، كما للثروة، هو قاعدة نمط الحياة الجديد، المؤسس لتجاوز أزمات النمط السابق الذي تعطّل. أما فردانية بعض عقلية البورجوازية الصغيرة فعجلة الأزمة كافية بطحنها.

معلومات إضافية

العدد رقم:
967
آخر تعديل على السبت, 30 أيار 2020 14:13